الدمام: شذى مدن

فيما ينظر كثيرون إلى أن التقاعد يعد بمثابة النهاية لمشوار طويل في الحياة، بات التطلع إلى أندية المتقاعدين التي بدأت تُعلن هنا وهناك على أنها نوع من البداية الجديدة للموظف والعسكري الذي بلغ سنا معينة، تتيح لهؤلاء المتقاعدين التكيف مع الروتين اليومي الجديد، وتوفر لهم الدعم الاجتماعي، وتحارب مشاعر العزلة والوحدة والاكتئاب لديهم، وتوفر لهم بدائل جيدة للتعامل مع الخسارة المفاجئة للتفاعل اليومي والشعور بالانتماء، كما توفر بيئة ملائمة للاستفادة من خبراتهم وتجاربهم وعقلياتهم التي اكتنزت الخبرة.

وتؤمن تلك الأندية فرصة للمتقاعد للعثور على أفراد متشابهين معه في التفكير يشاركونه اهتماماته وهواياته، وتوفر له فرصة حضور أحداث ومناسبات اجتماعية مهمة مثل المهرجانات والمعارض وجمع التبرعات والتطوع ولقاء أشخاص جدد وتشكيل صداقات جديدة، وملء الفراغ بالسفر وغيره من الأنشطة.

محاربة فكرة خريف العمر

مع ارتباط التقاعد بمرحلة «خريف العمر» حسب الصورة النمطية السائدة لحياة ما بعد التقاعد، إلا أن نشاط المتقاعدين في السنوات الأخيرة حال دون استمرار طغيان هذه الفكرة، حيث بدأت بوادر التغيير الفكري وحتى العملي تطرأ على المجتمعات التي حارب متقاعدوها وكبار السن فيها هذه الفكرة، وحاولوا خلق فرص عدة ليضعوا خبرتهم وإمكانياتهم وحكمتهم وخلاصة تجاربهم، وذلك من خلال ما أطلقوا عليه مسمى «أندية المتقاعدين»، حيث أثبت كبار السن والمتقاعدون أن النشاط والطاقة لا عمر لهما.

وأيد كثيرون الجمع بين خبرة المتقاعد وحماس الشباب وبين الفكر الواعي الذي يرتكز على خلاصة تجارب الحياة، والفكر التقني الذي يرتكز على سرعة التكنولوجيا والدماء المتجددة، فضلاً عن عملية الدمج بين حنكة الماضي وطموح المستقبل.

أندية المتقاعدين

شهدت مناطق ومحافظات المملكة انبثاق فجر جديد لعالم المتقاعدين، بعد أن تم إنشاء أندية خاصة تهتم بمختلف المجالات وتستمد قوتها من مجموعة الكفاءات التي تحتضنها بخلاصة من تجارب كثيرة ومتنوعة تخدم المجتمع.

وانتشرت أندية المتقاعدين حتى في البلدات، وليس فقط في المدن المركزية لمناطق المملكة، ففي القطيف على سبيل المثال هناك نادٍ للمتقاعدين في بلدة الجارودية، وأيضا نادي كبار السن في قرية التوبي، وهما ناديان ثقافيان اجتماعيان، فيما يهدف فريق المشاة في مدينة سيهات والذي أسسه مجموعة من المتقاعدين إلى ترسيخ ثقافة الرياضة والصحة.

نماذج من العطاء

تحت مسمى نادي «عطاء» أطلق متقاعدو الجارودية ناديهم الذي حمل رؤية مفادها «عطاء متواصل لمتقاعد فاعل» وبرسالة خاصة تستثمر خبرات المتقاعدين تطوعاً لخدمة المجتمع.

ويعد نادي متقاعدي الجارودية نموذجاً حياً يؤكد قضية الاستفادة من الموارد البشرية الخبيرة، ويوضح مؤسس النادي، رئيس جمعية الجارودية الخيرية علي السادة أن «نادي المتقاعدين هو منظومة من الأشخاص المتقاعدين (من الرجال حتى الآن) ترجلت عن صهوة الوظيفة الرسمية لتواصل عطائها للمجتمع تطوعاً، وفي ما تحب من أنشطة بحيث تطور ذواتها وتفيد مجتمعها في جو من المتعة والتفاعل الشيق».

وأكمل «تأسس النادي بداية عام 2017، وكنت أنا صاحب الفكرة مع مجموعة من أنشط متقاعدي الجارودية ومعظمهم متقاعدون تقاعداً مبكراً، وكانت فكرته استغلال الطبقة المركونة على الرف من الإخوة ذوي الخبرة الطويلة، والنضج الفكري، والنشاط المتوقد، ومن يتوفر لهم الوقت وهم المتقاعدون».

وعن المقر الأول، قال «اتخذنا مجلسا عاما للاحتفالات والمناسبات الاجتماعية في بلدة الجارودية مقراً للنادي، حتى انضمامه لجمعية الجارودية الخيرية كمظلة رسمية وحاضنة فعالة لأنشطته في عام 2021».

أنشطة ومبادرات

يكمل السادة «على مدى 7 سنوات قدم النادي كثيرا من الأنشطة والفعاليات، وكانت ذروتها في عام 2023، حيث نظم أكثر من 40 نشاطاً، من أبرزها محاضرات توعوية في القيادة الوقائية، ومقدمات علم الفلك، واستضافة شخصيات علمية مرموقة مثل الدكتور عبدالجليل الخليفة وغيره، هذا في المجال الثقافي، أما أكبر مشاريعه التنموية فهي متابعة مشاريع البلدة الجارية والمقترحة مع البلديات وأمانة المنطقة ومنها مشروع مقبرة الجارودية 2 الجديدة، التي تمتد على مساحة 125 ألف متر مربع، وتشجير الشوارع، وتركيب الصراف الآلي للبنوك، وترصيف الممرات والطرق الداخلية، وتكريم المتفوقين من الطلاب والرياضيين، ومن الجاري الآن متابعة مشروع الممشى الصحي جنوب مقبرة الجارودية 1، وكذلك الممشى الغربي بموازاة مقبرة الجارودية 2، ونعمل أيضا على متابعة مشروع منح أرض للجمعية الخيرية كقاعدة لعدة مشاريع طموحة غرب البلد».

تشكيلة متطوعين

أشار السادة إلى أنه مع تقدم النادي واتساع نطاق عمله ومبادراته انضم عدد من الفئات العمرية إليه، حيث تتراوح أعمار الأعضاء في النادي بين من هم بعمر الـ47 عاما وحتى سن الـ80، واتسعت الدائرة لتضم حتى المتطوع الذي ما يزال على رأس العمل.

ويشمل النادي أعضاء متقاعدون من مجالات مختلفة (بنوك، أرامكو، سكيكو، جهات حكومية، مهندسون، منسوبون من القطاعات العسكرية، عقاريون ورجال أعمال، وتراثيون)، وكل منهم يخدم في مجال خبرته وخلفياته الوظيفية وهواياته وحرفه، ومعظمهم لديهم هوايات وحرف تراثية مختلفة.

مظلة رسمية

يكمل السادة «مع ما تشهده المملكة من تطور في القطاع غير الربحي، كان لزاماً أن يعمل النادي تحت مظلة رسمية موثقة، ولذا كان التوجه لانضمام نادي «عطاء» المتقاعدين إلى جمعية الجارودية في 2021، وأسهم هذا في تقدم الأنشطة أكثر، خصوصا مع تميز إدارة الجمعية بكونها متعاونة للغاية، وقدمت كل الدعم والصلاحيات للنادي، كما أنها تعد كل منجز للنادي نجاح لها».

واستدرك«لا يفوتني أن أشير وبفخر إلى حصول نادي المتقاعدين على جائزة أفضل مشروع في مهرجان التطوع الخامس الذي أقيم في مدينة سيهات، وهي جائزة على مستوى المحافظة».

ديوانية تطورت إلى نادٍ

مثل الجارودية، كان نادي كبار السن في التوبي، ولكنه بعمر أطول وأقدم، ويشير صالح العمير وهو أحد أعضاء النادي إلى أن «النادي تأسس قبل أكثر من 20 عاماً بفكرة من الأهالي على هيئة ديوانية تجمع كبار السن في القرية الصغيرة الواقعة في قلب القطيف، وقد انطلق رسمياً في عام 1422 للهجرة تحت إشراف لجنة التوبي التنموية برئاسة المهندس أحمد الرضوان، ثم تم تسليم النادي وافتتاحه من قِبل مكي آل عمير رحمه الله، وهو أحد أبرز الناشطين في التوبي، ليكون ناديا اجتماعيا يقيم عددا من الأنشطة والبرامج، وبقي تحت مظلة اللجنة التي تحولت إلى جمعية التوبي التنموية ومقرها مبنى مستأجر يجتمع فيه كبار السن، وتقام فيه الفعاليات المتنوعة والاحتفالات الوطنية وعدد من الأنشطة الاجتماعية، ويضم قاعتين إحداهما متعددة الأغراض تقام فيها الندوات والمحاضرات والاجتماعات، وأخرى تضم الأهالي كباراً وصغاراً للتشاور والاستئناس برأي الأكبر سناً مع دمجها بأفكار الشباب».

وأضاف «من وقت إلى آخر تجري في النادي فحوصات صحية دورية لكبار السن بالتعاون مع وزارة الصحة والمركز الصحي بالتوبي لمتابعة حالتهم الصحية والاطمئنان عليهم، كما تقام في النادي وبشكل مستمر برامج الخطابة، التوستماسترز، وفعاليات توعوية صحية وتثقيفية مختلفة».

فريق رياضي

في سيهات، انطلق فريق مشاة سيهات بفكرة من متقاعديها وكبار السن من رجالات المجتمع، ويهدف إلى نشر ثقافة مجتمعية صحية تهتم بالرياضة والمشي على وجه الخصوص، مع إشراك الشباب وحتى السيدات في هذا التوجه الصحي، فضلاً عن إقامة الفعاليات المتنوعة.

وقد تم الإعلان مؤخراً عن انضمامه في منصة هاوي كناد رسمي يتوافق مع الرؤية الجديدة.

وكان النادي قد تأسس في عام 2016 واستمر حتى اللحظة بجهود المنتسبين والمؤسسين له وفي مقدمتهم المرحوم علي آل رضي، وهو الآن تحت إدارة مكونة من عبدالله المختار العضو المؤسس، والرئيس حسن الزواد ونائبه محمد الملاحي، ومحمد النصر أميناً للصندوق.

تجارب عالمية وعربية

لا تعد أندية المتقاعدين تجربة سعودية فقط، بل بادرت كثير من الدول حول العالم إلى إطلاق مثل هذه الأندية سواء بجهود رسمية أو أهلية، ركزت بداية على محاربة إحساس المتقاعد بالوحدة الشديدة بعد حياة حافلة بالعمل والتواصل مع الآخرين.

وكانت دراسة بريطانية نشرت في صحيفة «ديلي ميل» البريطانية أكدت أن الوحدة تزيد من احتمالات التعرض للاكتئاب، وأن ثلث البريطانيين يعيشون بمفردهم، حتى أن 1 من كل 20 بريطاني يتناول أدوية مضادة للاكتئاب.

ونصح كثير من الأخصائيين بأن يبادر المتقاعدون ممن يعانون العزلة إلى إقامة علاقات اجتماعية بمحيطهم من الأصدقاء والأقارب والزملاء بما يتيح ممارسة بعض الهوايات والرياضات التي يمكنها التخفيف من حدة الوحدة القاتلة.

تجربة ألمانية

في ألمانيا أنشئت هيئة تسمى «هيئة الخبراء المتقاعدين الألمان» في مدينة بون، ضمت أكثر من 5000 خبير ألماني يعملون لصالح المؤسسات الحكومية والخاصة.

تقدم الهيئة المساعدة للشركات والمؤسسات والإدارات الرسمية في أكثر من 93 دولة حول العالم.

وينفذ برامج الهيئة متقاعدون ألمان يقدمون خبراتهم بشكل طوعي.

تجربة أمريكية

تهتم الجمعية الأمريكية للمتقاعدين بكل أمور المتقاعدين، وتجري كثيرا من الدراسات والأبحاث حول التقاعد والعمل، ولها أفرع في كل الولايات الأمريكية.

تجارب عربية

أنشئت أندية وجمعيات للمتقاعدين في السعودية ومصر وتونس والمغرب والأردن والبحرين وعمان وغيرها من الدول العربية.

تقدم هذه الجمعيات والأندية خدمات اجتماعية وصحية وثقافية وترفيهية واقتصادية.

أهداف تحققها أندية المتقاعدين

ـ مساعدتهم على التكيف مع الروتين الجديد للحياة اليومية

ـ التغلب على مشاعر العزلة والوحدة والاكتئاب التي يشعر بها المتقاعد

ـ تخفيف مشاعر القلق والعجز لدى المتقاعد نتيجة اختلاف وضعه المادي بعد التقاعد

ـ توفير الدعم للمتقاعد وتوفير سبل التفاعل الاجتماعي له

ـ توفير فهم أعمق للتقاعد وتأمين الشعور بالهدف والاتصال بعد التقاعد

ـ توفير دعم عملي مثل المساعدة في المهام اليومية أو المشورة النفسية أو المالية

ـ توفير العثور على أفراد متشابهين في التفكير والهوايات والاهتمامات

ـ توفير فرص حضور الفعاليات الاجتماعية مثل المهرجانات والمعارض وغيرها

ـ توفير فرص تبادل المعرفة والخبرات مع الأجيال الشابة