نشرت دوريّةُ "كورييه أنترناسيونال" الفرنسيّة في عددها رقم 1746 الصادر في 14 - 18 نيسان/ أبريل 2024، نصٌّاً مُقتطعاً من دوريّة Science Monitor The Christian، التي تصدر في بوسطن، للكاتب الأميركيّ المُختصّ في قضايا المناخ سيمون مونتليك Simon Montlake، نُشِر بتاريخ 29 آذار/ مارس 2024، حيث شكّل هذا النصّ جزءاً من ملفٍّ ديموغرافيٍّ مُتكاملٍ خصَّصته الكورييه لهذا العدد تحت عنوان: Un Baby - Blue Mondial أو البيبي بلو العالَميّ (والبيبي بلو هو حالة نفسيّة تصيب الأمّهات بعد الولادة).
تضاعَف سكّان العالَم خلال القرن العشرين، ليبلغَ تعدادهم 6,2 مليار نسمة؛ وقد غذّى هذا النموّ الديموغرافيّ، وبشكلٍ متواصل، مَخاوفَ من اكتظاظٍ سكّانيّ، ومن صراعاتٍ وانهيارٍ بيئيّ. غير أنّ هذا المَيل هو على وشكِ أن ينقلبَ ليصبحَ معكوساً.
وبحسب التوقّعات، فإنّ البشريّة التي يقترب عدد سكّانها من نحو ثمانية مليارات نسمة، ستبلغ ذروتها عند حوالى العشرة مليارات نسمة، وذلك قَبل أن تبدأ بالانخفاض. نهاية التوسُّع المُتواصل للبشريّة هي إذاً في الأُفق.
وعندما تأتي هذه النهاية، فإنّ كلّ النّقاش الدائر حول الديموغرافيا، والمُستنِد حتّى الآن إلى فكرة أنّ خصوبة البشريّة تتجاوز قدرات الأرض، سيتَّخذ له منعطفاً آخر. تراجُع النموّ السكّانيّ يُمكنه أن يكون أكثر سرعةً من ذلك الذي اتّخذه النموّ نفسه، وستكون هذه الفترةُ فترةَ تراجُعٍ قاسية للغاية، لا هوادة فيها، ولا يُمكن التنبّؤ معها بما يُمكن أن تَجرّ إليه.
الانخفاض المُنتظَر في عدد السكّان هو النتيجة المنطقيّة للهبوط الحاليّ لمعدَّل الولادات، والذي لا يطاول الدول الغنيّة والديمقراطيّة مثل ألمانيا وكوريا الجنوبيّة فقط: فهذا الانخفاض لن يوفِّر أيّ بلد أو أنّه لن يوفِّر معظم البلدان. الاقتصاديّ وعالِم الديموغرافيا في جامعة تكساس في أوستن "دين سبيرز" Dean Spears يؤكّد ذلك: "السيناريو الأكثر احتمالاً في ما يخصّ المُستقبل هو أنّنا سنَشهد فترةً طويلة من تناقُص السكّان".
هذه الرؤية تُثير أسئلة وقضايا حسّاسة حول إمكانيّة استمرار مُجتمعٍ مزدهرٍ يتمتّع بمؤسّساتٍ صلبة وقويّة.
شيخوخة السكّان بالنسبة إلى انخفاض التركيبة السكّانيّة باتت أمراً واقعاً في بلدانٍ مثل إيطاليا واليابان، حيث معدّل الخصوبة، الذي هو في أدنى مستوياته، يؤدّي بالفعل إلى انخفاضٍ في عدد النّاشطين من السكّان ويَضع الماليّة العامّة على المحكّ. لكنْ، بالنّظر إلى اتّساعه وشمول مداه، سيكون من الأصعب تخيُّل هذا التحوُّل الديموغرافي القادم، الذي ستغدو كلّ البلدان وكلّ مناطق العالَم مَعنيَّةً به في غضونِ قرنٍ من الزّمان، كما سيكون من الأصعب استباق ما سيؤول إليه من جوانبه ووجوهه كافّة.
حتّى وقتٍ قريب، أَفلتت الولايات المتّحدة ممّا يسمّيه الديموغرافيّون "فخّ الخصوبة"، أو "الحلقة المُفرغة للخصوبة"، وهو ما يَعني أنّ عددَ الأُسر أصبح أقلّ فأقلّ. لكنْ، بين الهبوط المستمرّ لمعدّل المواليد منذ العام 2008 وفترة الانخفاض الصافي للهجرة، يُشبه الهرم الديموغرافي الأميركي أكثر فأكثر نظيره الأوروبي: يقلّ عدد الشباب لتمويل تقاعُد السكّان المُسنّين.
في العام 2028، وللمرّة الأولى في تاريخ الولايات المتّحدة، سيُمثّل مَن هُم فوق سنّ الـ 65 عاماً، 20 % من إجمالي تعداد السكّان، وهو ما يُعادل أولئك الذين تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً.
انخفاض المواليد يتمّ الشعور به في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي في الولايات المتّحدة. وهذا الأمر لا ينبغي أن يستغرق وقتاً طويلاً كي يشمل مرحلة التعليم العالي: عدد التلاميذ في سنّ الدخول إلى الجامعة ينبغي أن يصل إلى ذروته في العام 2025، وذلك قَبل أن يبدأ بتراجعٍ ملحوظ لسنوات كثيرة - وهو تهديد للمؤسّسات الصغيرة التي لا تفرض شروطَ قبولٍ قاسية. بحسب دراسةٍ لشركة ماكينزي، فإنّ المدارس والجامعات غير المُدرجة من بين أفضل مئة مدرسة وجامعة، يُمكن أن تَشهد انخفاضاً بنسبة 12 % في معدّلات الالتحاق بها، مُقارنةً بالأرقام العائدة للعام 2012، عندما وَصلت شرائحٌ كبيرة من جيل الألفيّة إلى الحَرَمِ الجامعي.
سَبق لمؤسّسات التعليم العالي أن شهدت تراجُعاً في تعداد المُسجَّلين في ثمانينيّات القرن الفائت، نظراً إلى أنّ أعداد "الجيل إكس" المُسجَّلة في الثانويّات كانت أقلّ من أعداد الجيل السابق عليه. لكنّ هذا التراجُع جرى تعويضه بالوصول الأكثر كثافة للنساء إلى الجامعة.
ولمواجَهة هذا الانخفاض في المواليد المُسجَّل منذ العام 2008، ينبغي على الجامعات الصغيرة أن تَدمج أكثر فأكثر، ومن دون شكّ، طلّاباً مُتحدّرين من الأقليّات قليلة التمثيل أو من ذوي الدخل المنخفض، وتكييف أقساطها وبرامجها للسماح للطلّاب بالحصول على شهاداتهم من دون الغرق في الديون مدى الحياة. ويُمكن للتعليم العالي أيضاً، وبالإضافة إلى تلاميذ المرحلة الثانويّة المتخرّجين حديثاً، أن يتوجَّه إلى جمهورٍ من الراشدين الأكبر سنّاً، والتكيُّف بذلك مع التحوُّل الديموغرافي. "ثمّة طُرقٌ عدّة للتفكير في مسألة الأشخاص الذين يتسجّلون في الجامعة" تقول "ساره هايفورد" Sarah Hayford بإصرار، وهي عالِمة اجتماع وديموغرافيا في جامعة ولاية أوهايو العامّة.
على نطاقٍ أوسع، فإنّ مجتمعاً بمعدّل مواليد منخفض يُحتِّم التفكُّر بالاقتصاد بطريقةٍ مختلفة؛ إذ ستكون لدى الموظّفين، سواء في القطاع الخاصّ أم العامّ، صعوبةٌ أكبر في التجنيد والاستقطاب في مجتمعٍ يتقلّص فيه عدد السكّان النّاشطين. وبالنّظر إلى عددِ سكّانٍ يشيخ ويعيش لفتراتٍ أطول، لكنْ مع أمراضٍ مُزمنة، فإنّ الأولويّة تعود حينئذٍ إلى ضرورة ملء المناصب في قطاعات الصحّة والخدمات الاجتماعيّة، التي تتطلَّب يداً عاملة كثيفة.
وكما هو الحال في بلدانٍ أخرى، فإنّ الولايات المتّحدة تعتمد على فائض السكّان النّاشطين، الذين يُسهمون من خلال الضرائب في تمويل المعاشات التقاعديّة والعناية الطبيّة بالمُتقاعدين. انخفاض معدّل المواليد يؤدّي في النهاية إلى ارتفاع نسبة الإعالة الديموغرافيّة، أي العلاقة بين تعداد الذين تتمّ إعالتهم وتعداد السكّان الناشطين أو مَن هُم في سنّ العمل، والتي تُجبر الدول على البحث عن إيراداتٍ جديدة أو على تقليصِ حَجْم المعاشات التقاعديّة، أو الاثنَيْن معاً.
في آخر نشرة حول توقّعاتها الديموغرافيّة، لاحظت إدارةُ الضمان الاجتماعي [التي تُدير معاشات التقاعُد والعجز] انخفاضَ معدّل الخصوبة في الولايات المتّحدة. لكنّها تتوقّع أيضاً انتعاش المواليد بحلول العام 2050 إلى مستوى معدّل تجديد الأجيال، وتخفيف الضغط على تمويل المعاشات التقاعديّة.
عُلماء الديموغرافيا هُم أكثر تشكيكاً، ويذكّرون بأنّ بلداناً أخرى، ولاسيّما البلدان الأوروبيّة الأكثر كَرَماً من الولايات المتّحدة في ما خصّ المساعدات الاجتماعيّة، لم تتوصّل حتّى اليوم إلى قلبِ أو عكسِ انخفاض الخصوبة. لكن إذا لم يشهد معدّل المواليد ارتفاعاً عند بلوغ جيل الألفيّة مرحلة التقاعُد، فسيكون تعداد الشباب الذين سيدخلون سوق العمل أقلّ بكثير ممّا كان عليه عندما بدأ جيل طفرة المواليد (أي الجيل المولود بعد الحرب العالميّة الثانية بين عامَيْ 1946 و1964، بحسب مكتب تعداد الولايات المتّحدة - المُترجِمة) في المُغادرة.
الولايات المتّحدة، كبلدٍ جاذب للهجرة إلى حدٍّ كبير، يُمكنها التعويض عن بعض النقص في معدّلات السكّان النّاشطين من خلال توسعة حدودها أمام المزيد من العمّال الأجانب من الفئة العمريّة 25 - 54 سنة. وهو إجراء يسمح بتعزيز المواليد. وتُذكِّر عالِمة الديموغرافيا في جامعة كارولينا الشماليّة "كارين غوزو"Karen Guzzo قائلة إنّ "الأشخاص الذين يُهاجرون إلى الولايات المتّحدة أو غيرها، هُم في سنّ الإنجاب بعامّة".
لكن أيّا كانت قوّة هذا الإغواء بالنسبة إلى النّاخبين، فإنّ لهذه الرافعة حدوداً. ذلك أنّ الأمر ينتهي بالمُهاجرين إلى بلوغِ مرحلة الشيخوخة والتقاعُد، كما ينتهي الأمر بالعائلات إلى تبنّي قواعد بلد الاستقبال ومعاييره. السكّان من أصولٍ إسبانيّة كان لديهم في الماضي عددٌ أكبر من العائلات، كما هو الحال في بلدهم الأصلي. أمّا اليوم فإنّ معظم بلدان أميركا اللّاتينيّة تشهد تراجُع معدّل تجديد الأجيال لديها، والناس من الولايات المتّحدة المولودون في أميركا اللّاتينيّة لديهم معدّل خصوبة مُماثل لأولئك المولودين في الولايات المتّحدة.
المشكلة في الواقع عالميّة الطّابع: معدّل الخصوبة آخذٌ في التناقُص أينما كان، حتّى في أفريقيا، القارّة التي كان ينبغي أن تشهدَ خلال هذا القرن نموّاً سكّانيّاً أكثر سرعة. القسم الأكبر من البشريّة يعيش في بلدانٍ يكون للنساء فيها في المتوسّط مولودٌ أو مولودان، وهو معدّل يؤدّي إلى نقص هائل ومطّرد: كلّ جيل يغدو أقلّ تعداداً من الجيل السابق عليه.
في الواقع، تتبع عالِمة الديموغرافيا، كارين غوزو، منحنياتٍ أسيّة: إذا كان عدد مجموعة سكّانيّة يتزايد عندما يكون لدى الراشدين بينهم عددٌ كبيرٌ من الأولاد الذين سيُصبح لديهم أيضاً عائلات كبيرة، فإنّ العكس صحيح أيضاً. عندما يكون لراشدَيْن ولدٌ واحدٌ سيَلِدُ، مع طفلٍ وحيدٍ آخر، طفلاً واحداً، فإنّ الحسابَ سريع؛ هذا يعني انخفاضاً للسكّان بنسبة 75 %: خلال جيلَيْن، سيكون لدينا أربعة أجداد، ووالدان، وولدٌ واحدٌ. وإنّه لَتدهورٌ ديموغرافيّ صاروخيّ.
دين سبيرز Dean Spears، المختصّ في اقتصاد التنمية، يدرس صحّة الطفولة والأمومة في شمال الهند. وقد لاحظَ أنّ انخفاض حجْم الأسر الهنديّة بات جزءاً من هذا الاتّجاه العالمي العابر للبلدان والمُجتمعات والاقتصادات المُختلفة في ما بينها اختلافاً كبيراً. وهو يضيف أنّه في حالة الانهيار العالمي للمواليد، فإنّ البلدان المَعنيَّة لن يعود بإمكانها استقدام عمّالٍ أجانب بالقدر الكافي ليحلّوا محلّ عمّالِها: "ما أن يُصبح المعدّلُ العالمي للخصوبة، في مجمله، تحت عتبة الولدَين الاثنَيْن لكلّ امرأة، لن تكون الهجرةُ إذذاك الحلّ الأثير والسهل الذي كان يُمكن لها أن تكونه في حالاتٍ أخرى، بحيث يُطرَح بعد ذلك سؤالٌ أكثر عُمقاً: أيّ مُجتمع نريد؟ هل نريد ديموغرافيا في حالة الاستقرار، أو بشريّة في طور الاندثار، أم شيئاً آخر؟".
في العام 2023، أسهمَ دين سبيرز في صحيفة "النيويورك تايمز" في مقالةٍ حول التحدّيات التي يواجهها كوكبٌ يُعاني من تدهورٍ ديموغرافي. كتَبَ يقول: "الخصوبة المُتراجِعة تعني أنّه سيكون هناك مليارات الحيوات غير المعيوشة خلال القرون المُقبلة"، داعياً البشريّة إلى التفكير في "بناء مستقبل الوفرة، وتوفير حياة أو وجودٍ نَوعيّ لعددٍ كبيرٍ من السكّان، سماته الاستقرار والازدهار".
حصدتِ المقالةُ سَيلاً من التعليقات اللّاذعة. فسجَّل عددٌ من القرّاء رفضاً يتّسم بالقلق على أجيال المُستقبل، شاجبين بالأحرى الضغط الديموغرافي الحالي: "أتذكّر كوكباً بنصف سكّانه، وكان الأمر رائعاً" علَّق أحدهم متأسّفاً. وقال آخر: إذا كان ثمّة من فضلٍ لانخفاض عدد السكّان على تباطؤِ جزءٍ من الدّمار أو الخراب الذي نتسبَّب به، وانعكست الآية، فإنّني أرى في هذا الانخفاض سبباً للابتهاج بدلاً من القلق".
يقول دين سبيرز إنّه سعيد بسائر ردود الفعل هذه، والتي ينوي تجميعها في كتابٍ لاحقٍ له: "الحوار مفتوح، وهذا شيء جيّد".
من الناحية السياسيّة، يتمثّل أحد الخيارات في الاستثمار في البرامج الدّاعمة للإنجاب، والتي، في حال أَصابت نجاحاً، سيَنتهي بها الأمر على المدى الطويل إلى تمويل نفسها بنفسها. هكذا يَدرس الكونغرس النداءات التي أطلقها كلٌّ من الحزبَيْن الدّيمقراطي والجمهوري من أجل توسيع نطاق الإعفاءات الضريبيّة المفروضة على العائلات. لكنّ عُلماء الديموغرافيا يقدّرون أنّ مساعدةً عائليّة متواضعة للأهل لن تُغيِّر في هذه المُعادَلة بصورة جوهريّة.
في القرن العشرين، كانت لدى دولٍ مختلفة سياساتٌ ترمي إلى الحدّ من حجْم العائلات، بدءاً من الصين وسياسة الطفل الواحد. وفي مُواجَهة انخفاضٍ كارثيّ في تعداد السكّان، قد ترى السلطاتُ العامّةُ نفسَها مُرغَمةً على إعادة النّظر في مسألة تقييد الحقوق الإنجابيّة للنساء بغية زيادة معدّل المواليد. وفقاً لتحليلٍ جرى في الولايات المُتّحدة بعد قرار دوبس جاكسون الذي أصدرته المحكمة العليا في العام 2022، والذي ألغى الحقَّ الدستوري في الإجهاض، قَفَزَ عددُ المواليد بنسبة 2 % في 13 دولة كانت قد مَنعت التعطيل أو الإيقاف الطوعيّ للحَمل.
المُعارضون للحدّ من الحقوق الجنسيّة وتلك الخاصّة بالإنجاب يرفضون التدابير المانعة للحريّة، والتي تأتي بنتائج عكسيّة من حيث معدّل المواليد. كوريا الجنوبيّة مَنعتِ الإجهاضَ منذ أكثر من ستّين سنة، ولديها أضعف معدّل مواليد في العالَم. في حال أصبحت المزايا الضريبيّة مرتبطةً بتوزيعٍ أفضل لمهامّ الوالدَيْن، سيكون لديها فرصة في زيادة المواليد أكبر من تلك التي قد تتأتّى من إملاءات السلطات العامّة.
عالِم الديموغرافيا "ليمان ستون" Lyman Stone الباحث في "معهد دراسات الأسرة، The Institute for Family Studies (IFS)"، والمعهد هو مجموعةُ تَفكّر مُحافِظة، قدَّر كذلك أنّ من شأن تدابير دعْم الأسر، حتّى لو كانت متواضعة، "أن تُثمِر في نهاية المطاف وأن تُلحَظ جدواها على المسار الديموغرافي طويل المدى"، ويمكن أن يكون لها في الواقع، تأثيرٌ على الأزواج الذين يتردّدون في أن ينجبوا طفلاً واحداً لأسبابٍ ماليّة.
ومُشيراً إلى تباطؤ المواليد لدى النساء اللّواتي تقلّ أعمارهنّ عن 30 سنة، يَعتبر ليمان ستون أنّ المُجتمع يُمكنه أن يَخضع لإعادةِ تنظيم بطريقةٍ مُعاكسة لهذا الاتّجاه: تخيّلوا "أن نَمنح كلَّ شخصٍ دون سنّ الثلاثين دَخلاً أساسيّاً متواضعاً على مستوى العالَم كلّه. الذي سيحدث عندئذ هو أنّ الجميع سيتّجهون إلى التعليم العالي".
هذا سيَسمح بتحفيز الأزواج من الشباب على الإنجاب مبكّراً، وأن يكون لديهم عدد أكبر من الأطفال، بما أنّ سنّ الطفل الأوّل يُحدِّد، إلى حدّ بعيد، الخصوبة الإجماليّة للمرأة. في مثل هذا السيناريو، "يغدو لدى الأزواج الذين هُم في العشرينيّات من العمر هدفان: إيجاد عمل وإنجاب أطفال".
إنّ إصلاحاً ضريبيّاً كبيراً للإنجاب من شأنه أن يُلقي بجزءٍ كبير من تكاليفه على النّاخبين الأكبر سنّاً، وهو ما يجعل الأمر على قدرٍ متزايد أكثر فأكثر من الحساسيّة في الديمقراطيّات التي تشهد شيخوخة سكّانها.
في اليابان، الناخب المُسنّ، والذي يعود إليه في الغالب قرار توزيع الميزانيّة الضئيلة، أصبحت أعداده أكثر من الشباب. وبعيداً عن إعادة توزيع المساعدات الاجتماعيّة لمصلحة الوالدَيْن الشباب وأطفالهم، يُمكن للمُتقاعدين أن يفضِّلوا مَنْحَ المزيد لأولويّاتهم الخاصّة.
هذه المعضلات ستكون أقلّ حدّة في العقود المُقبلة في حال تراجَعت وتيرة نقْص المواليد أو في حال استقرارها. لكنّ تطوُّر سكّان العالَم، بحُكم التعريف، لا يُمكن التنبّؤ به. أيّاً كانت كميّة المُعطيات التي تُدرجونها في نماذجكم، يبقى من الضروريّ معرفة كيف نبقى متواضعين، بحسب ما يشير إلى ذلك المُختصّون. "لا أحد بشَّرَ بطفرة مواليد ما بعد العام 1945، تذكِّر "ساره هايفورد" Sarah Hayford. "عُلماء الاجتماع والديموغرافيا لا يملكون مفاتيح تطوُّر السكّان كلّها".
*مؤسّسة الفكر العربيّ
* ينشر بالتزامن مع ورية أفق الإلكترونية
تضاعَف سكّان العالَم خلال القرن العشرين، ليبلغَ تعدادهم 6,2 مليار نسمة؛ وقد غذّى هذا النموّ الديموغرافيّ، وبشكلٍ متواصل، مَخاوفَ من اكتظاظٍ سكّانيّ، ومن صراعاتٍ وانهيارٍ بيئيّ. غير أنّ هذا المَيل هو على وشكِ أن ينقلبَ ليصبحَ معكوساً.
وبحسب التوقّعات، فإنّ البشريّة التي يقترب عدد سكّانها من نحو ثمانية مليارات نسمة، ستبلغ ذروتها عند حوالى العشرة مليارات نسمة، وذلك قَبل أن تبدأ بالانخفاض. نهاية التوسُّع المُتواصل للبشريّة هي إذاً في الأُفق.
وعندما تأتي هذه النهاية، فإنّ كلّ النّقاش الدائر حول الديموغرافيا، والمُستنِد حتّى الآن إلى فكرة أنّ خصوبة البشريّة تتجاوز قدرات الأرض، سيتَّخذ له منعطفاً آخر. تراجُع النموّ السكّانيّ يُمكنه أن يكون أكثر سرعةً من ذلك الذي اتّخذه النموّ نفسه، وستكون هذه الفترةُ فترةَ تراجُعٍ قاسية للغاية، لا هوادة فيها، ولا يُمكن التنبّؤ معها بما يُمكن أن تَجرّ إليه.
الانخفاض المُنتظَر في عدد السكّان هو النتيجة المنطقيّة للهبوط الحاليّ لمعدَّل الولادات، والذي لا يطاول الدول الغنيّة والديمقراطيّة مثل ألمانيا وكوريا الجنوبيّة فقط: فهذا الانخفاض لن يوفِّر أيّ بلد أو أنّه لن يوفِّر معظم البلدان. الاقتصاديّ وعالِم الديموغرافيا في جامعة تكساس في أوستن "دين سبيرز" Dean Spears يؤكّد ذلك: "السيناريو الأكثر احتمالاً في ما يخصّ المُستقبل هو أنّنا سنَشهد فترةً طويلة من تناقُص السكّان".
هذه الرؤية تُثير أسئلة وقضايا حسّاسة حول إمكانيّة استمرار مُجتمعٍ مزدهرٍ يتمتّع بمؤسّساتٍ صلبة وقويّة.
شيخوخة السكّان بالنسبة إلى انخفاض التركيبة السكّانيّة باتت أمراً واقعاً في بلدانٍ مثل إيطاليا واليابان، حيث معدّل الخصوبة، الذي هو في أدنى مستوياته، يؤدّي بالفعل إلى انخفاضٍ في عدد النّاشطين من السكّان ويَضع الماليّة العامّة على المحكّ. لكنْ، بالنّظر إلى اتّساعه وشمول مداه، سيكون من الأصعب تخيُّل هذا التحوُّل الديموغرافي القادم، الذي ستغدو كلّ البلدان وكلّ مناطق العالَم مَعنيَّةً به في غضونِ قرنٍ من الزّمان، كما سيكون من الأصعب استباق ما سيؤول إليه من جوانبه ووجوهه كافّة.
حتّى وقتٍ قريب، أَفلتت الولايات المتّحدة ممّا يسمّيه الديموغرافيّون "فخّ الخصوبة"، أو "الحلقة المُفرغة للخصوبة"، وهو ما يَعني أنّ عددَ الأُسر أصبح أقلّ فأقلّ. لكنْ، بين الهبوط المستمرّ لمعدّل المواليد منذ العام 2008 وفترة الانخفاض الصافي للهجرة، يُشبه الهرم الديموغرافي الأميركي أكثر فأكثر نظيره الأوروبي: يقلّ عدد الشباب لتمويل تقاعُد السكّان المُسنّين.
في العام 2028، وللمرّة الأولى في تاريخ الولايات المتّحدة، سيُمثّل مَن هُم فوق سنّ الـ 65 عاماً، 20 % من إجمالي تعداد السكّان، وهو ما يُعادل أولئك الذين تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً.
انخفاض المواليد يتمّ الشعور به في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي في الولايات المتّحدة. وهذا الأمر لا ينبغي أن يستغرق وقتاً طويلاً كي يشمل مرحلة التعليم العالي: عدد التلاميذ في سنّ الدخول إلى الجامعة ينبغي أن يصل إلى ذروته في العام 2025، وذلك قَبل أن يبدأ بتراجعٍ ملحوظ لسنوات كثيرة - وهو تهديد للمؤسّسات الصغيرة التي لا تفرض شروطَ قبولٍ قاسية. بحسب دراسةٍ لشركة ماكينزي، فإنّ المدارس والجامعات غير المُدرجة من بين أفضل مئة مدرسة وجامعة، يُمكن أن تَشهد انخفاضاً بنسبة 12 % في معدّلات الالتحاق بها، مُقارنةً بالأرقام العائدة للعام 2012، عندما وَصلت شرائحٌ كبيرة من جيل الألفيّة إلى الحَرَمِ الجامعي.
سَبق لمؤسّسات التعليم العالي أن شهدت تراجُعاً في تعداد المُسجَّلين في ثمانينيّات القرن الفائت، نظراً إلى أنّ أعداد "الجيل إكس" المُسجَّلة في الثانويّات كانت أقلّ من أعداد الجيل السابق عليه. لكنّ هذا التراجُع جرى تعويضه بالوصول الأكثر كثافة للنساء إلى الجامعة.
ولمواجَهة هذا الانخفاض في المواليد المُسجَّل منذ العام 2008، ينبغي على الجامعات الصغيرة أن تَدمج أكثر فأكثر، ومن دون شكّ، طلّاباً مُتحدّرين من الأقليّات قليلة التمثيل أو من ذوي الدخل المنخفض، وتكييف أقساطها وبرامجها للسماح للطلّاب بالحصول على شهاداتهم من دون الغرق في الديون مدى الحياة. ويُمكن للتعليم العالي أيضاً، وبالإضافة إلى تلاميذ المرحلة الثانويّة المتخرّجين حديثاً، أن يتوجَّه إلى جمهورٍ من الراشدين الأكبر سنّاً، والتكيُّف بذلك مع التحوُّل الديموغرافي. "ثمّة طُرقٌ عدّة للتفكير في مسألة الأشخاص الذين يتسجّلون في الجامعة" تقول "ساره هايفورد" Sarah Hayford بإصرار، وهي عالِمة اجتماع وديموغرافيا في جامعة ولاية أوهايو العامّة.
على نطاقٍ أوسع، فإنّ مجتمعاً بمعدّل مواليد منخفض يُحتِّم التفكُّر بالاقتصاد بطريقةٍ مختلفة؛ إذ ستكون لدى الموظّفين، سواء في القطاع الخاصّ أم العامّ، صعوبةٌ أكبر في التجنيد والاستقطاب في مجتمعٍ يتقلّص فيه عدد السكّان النّاشطين. وبالنّظر إلى عددِ سكّانٍ يشيخ ويعيش لفتراتٍ أطول، لكنْ مع أمراضٍ مُزمنة، فإنّ الأولويّة تعود حينئذٍ إلى ضرورة ملء المناصب في قطاعات الصحّة والخدمات الاجتماعيّة، التي تتطلَّب يداً عاملة كثيفة.
وكما هو الحال في بلدانٍ أخرى، فإنّ الولايات المتّحدة تعتمد على فائض السكّان النّاشطين، الذين يُسهمون من خلال الضرائب في تمويل المعاشات التقاعديّة والعناية الطبيّة بالمُتقاعدين. انخفاض معدّل المواليد يؤدّي في النهاية إلى ارتفاع نسبة الإعالة الديموغرافيّة، أي العلاقة بين تعداد الذين تتمّ إعالتهم وتعداد السكّان الناشطين أو مَن هُم في سنّ العمل، والتي تُجبر الدول على البحث عن إيراداتٍ جديدة أو على تقليصِ حَجْم المعاشات التقاعديّة، أو الاثنَيْن معاً.
في آخر نشرة حول توقّعاتها الديموغرافيّة، لاحظت إدارةُ الضمان الاجتماعي [التي تُدير معاشات التقاعُد والعجز] انخفاضَ معدّل الخصوبة في الولايات المتّحدة. لكنّها تتوقّع أيضاً انتعاش المواليد بحلول العام 2050 إلى مستوى معدّل تجديد الأجيال، وتخفيف الضغط على تمويل المعاشات التقاعديّة.
عُلماء الديموغرافيا هُم أكثر تشكيكاً، ويذكّرون بأنّ بلداناً أخرى، ولاسيّما البلدان الأوروبيّة الأكثر كَرَماً من الولايات المتّحدة في ما خصّ المساعدات الاجتماعيّة، لم تتوصّل حتّى اليوم إلى قلبِ أو عكسِ انخفاض الخصوبة. لكن إذا لم يشهد معدّل المواليد ارتفاعاً عند بلوغ جيل الألفيّة مرحلة التقاعُد، فسيكون تعداد الشباب الذين سيدخلون سوق العمل أقلّ بكثير ممّا كان عليه عندما بدأ جيل طفرة المواليد (أي الجيل المولود بعد الحرب العالميّة الثانية بين عامَيْ 1946 و1964، بحسب مكتب تعداد الولايات المتّحدة - المُترجِمة) في المُغادرة.
الولايات المتّحدة، كبلدٍ جاذب للهجرة إلى حدٍّ كبير، يُمكنها التعويض عن بعض النقص في معدّلات السكّان النّاشطين من خلال توسعة حدودها أمام المزيد من العمّال الأجانب من الفئة العمريّة 25 - 54 سنة. وهو إجراء يسمح بتعزيز المواليد. وتُذكِّر عالِمة الديموغرافيا في جامعة كارولينا الشماليّة "كارين غوزو"Karen Guzzo قائلة إنّ "الأشخاص الذين يُهاجرون إلى الولايات المتّحدة أو غيرها، هُم في سنّ الإنجاب بعامّة".
لكن أيّا كانت قوّة هذا الإغواء بالنسبة إلى النّاخبين، فإنّ لهذه الرافعة حدوداً. ذلك أنّ الأمر ينتهي بالمُهاجرين إلى بلوغِ مرحلة الشيخوخة والتقاعُد، كما ينتهي الأمر بالعائلات إلى تبنّي قواعد بلد الاستقبال ومعاييره. السكّان من أصولٍ إسبانيّة كان لديهم في الماضي عددٌ أكبر من العائلات، كما هو الحال في بلدهم الأصلي. أمّا اليوم فإنّ معظم بلدان أميركا اللّاتينيّة تشهد تراجُع معدّل تجديد الأجيال لديها، والناس من الولايات المتّحدة المولودون في أميركا اللّاتينيّة لديهم معدّل خصوبة مُماثل لأولئك المولودين في الولايات المتّحدة.
المشكلة في الواقع عالميّة الطّابع: معدّل الخصوبة آخذٌ في التناقُص أينما كان، حتّى في أفريقيا، القارّة التي كان ينبغي أن تشهدَ خلال هذا القرن نموّاً سكّانيّاً أكثر سرعة. القسم الأكبر من البشريّة يعيش في بلدانٍ يكون للنساء فيها في المتوسّط مولودٌ أو مولودان، وهو معدّل يؤدّي إلى نقص هائل ومطّرد: كلّ جيل يغدو أقلّ تعداداً من الجيل السابق عليه.
في الواقع، تتبع عالِمة الديموغرافيا، كارين غوزو، منحنياتٍ أسيّة: إذا كان عدد مجموعة سكّانيّة يتزايد عندما يكون لدى الراشدين بينهم عددٌ كبيرٌ من الأولاد الذين سيُصبح لديهم أيضاً عائلات كبيرة، فإنّ العكس صحيح أيضاً. عندما يكون لراشدَيْن ولدٌ واحدٌ سيَلِدُ، مع طفلٍ وحيدٍ آخر، طفلاً واحداً، فإنّ الحسابَ سريع؛ هذا يعني انخفاضاً للسكّان بنسبة 75 %: خلال جيلَيْن، سيكون لدينا أربعة أجداد، ووالدان، وولدٌ واحدٌ. وإنّه لَتدهورٌ ديموغرافيّ صاروخيّ.
دين سبيرز Dean Spears، المختصّ في اقتصاد التنمية، يدرس صحّة الطفولة والأمومة في شمال الهند. وقد لاحظَ أنّ انخفاض حجْم الأسر الهنديّة بات جزءاً من هذا الاتّجاه العالمي العابر للبلدان والمُجتمعات والاقتصادات المُختلفة في ما بينها اختلافاً كبيراً. وهو يضيف أنّه في حالة الانهيار العالمي للمواليد، فإنّ البلدان المَعنيَّة لن يعود بإمكانها استقدام عمّالٍ أجانب بالقدر الكافي ليحلّوا محلّ عمّالِها: "ما أن يُصبح المعدّلُ العالمي للخصوبة، في مجمله، تحت عتبة الولدَين الاثنَيْن لكلّ امرأة، لن تكون الهجرةُ إذذاك الحلّ الأثير والسهل الذي كان يُمكن لها أن تكونه في حالاتٍ أخرى، بحيث يُطرَح بعد ذلك سؤالٌ أكثر عُمقاً: أيّ مُجتمع نريد؟ هل نريد ديموغرافيا في حالة الاستقرار، أو بشريّة في طور الاندثار، أم شيئاً آخر؟".
في العام 2023، أسهمَ دين سبيرز في صحيفة "النيويورك تايمز" في مقالةٍ حول التحدّيات التي يواجهها كوكبٌ يُعاني من تدهورٍ ديموغرافي. كتَبَ يقول: "الخصوبة المُتراجِعة تعني أنّه سيكون هناك مليارات الحيوات غير المعيوشة خلال القرون المُقبلة"، داعياً البشريّة إلى التفكير في "بناء مستقبل الوفرة، وتوفير حياة أو وجودٍ نَوعيّ لعددٍ كبيرٍ من السكّان، سماته الاستقرار والازدهار".
حصدتِ المقالةُ سَيلاً من التعليقات اللّاذعة. فسجَّل عددٌ من القرّاء رفضاً يتّسم بالقلق على أجيال المُستقبل، شاجبين بالأحرى الضغط الديموغرافي الحالي: "أتذكّر كوكباً بنصف سكّانه، وكان الأمر رائعاً" علَّق أحدهم متأسّفاً. وقال آخر: إذا كان ثمّة من فضلٍ لانخفاض عدد السكّان على تباطؤِ جزءٍ من الدّمار أو الخراب الذي نتسبَّب به، وانعكست الآية، فإنّني أرى في هذا الانخفاض سبباً للابتهاج بدلاً من القلق".
يقول دين سبيرز إنّه سعيد بسائر ردود الفعل هذه، والتي ينوي تجميعها في كتابٍ لاحقٍ له: "الحوار مفتوح، وهذا شيء جيّد".
من الناحية السياسيّة، يتمثّل أحد الخيارات في الاستثمار في البرامج الدّاعمة للإنجاب، والتي، في حال أَصابت نجاحاً، سيَنتهي بها الأمر على المدى الطويل إلى تمويل نفسها بنفسها. هكذا يَدرس الكونغرس النداءات التي أطلقها كلٌّ من الحزبَيْن الدّيمقراطي والجمهوري من أجل توسيع نطاق الإعفاءات الضريبيّة المفروضة على العائلات. لكنّ عُلماء الديموغرافيا يقدّرون أنّ مساعدةً عائليّة متواضعة للأهل لن تُغيِّر في هذه المُعادَلة بصورة جوهريّة.
في القرن العشرين، كانت لدى دولٍ مختلفة سياساتٌ ترمي إلى الحدّ من حجْم العائلات، بدءاً من الصين وسياسة الطفل الواحد. وفي مُواجَهة انخفاضٍ كارثيّ في تعداد السكّان، قد ترى السلطاتُ العامّةُ نفسَها مُرغَمةً على إعادة النّظر في مسألة تقييد الحقوق الإنجابيّة للنساء بغية زيادة معدّل المواليد. وفقاً لتحليلٍ جرى في الولايات المُتّحدة بعد قرار دوبس جاكسون الذي أصدرته المحكمة العليا في العام 2022، والذي ألغى الحقَّ الدستوري في الإجهاض، قَفَزَ عددُ المواليد بنسبة 2 % في 13 دولة كانت قد مَنعت التعطيل أو الإيقاف الطوعيّ للحَمل.
المُعارضون للحدّ من الحقوق الجنسيّة وتلك الخاصّة بالإنجاب يرفضون التدابير المانعة للحريّة، والتي تأتي بنتائج عكسيّة من حيث معدّل المواليد. كوريا الجنوبيّة مَنعتِ الإجهاضَ منذ أكثر من ستّين سنة، ولديها أضعف معدّل مواليد في العالَم. في حال أصبحت المزايا الضريبيّة مرتبطةً بتوزيعٍ أفضل لمهامّ الوالدَيْن، سيكون لديها فرصة في زيادة المواليد أكبر من تلك التي قد تتأتّى من إملاءات السلطات العامّة.
عالِم الديموغرافيا "ليمان ستون" Lyman Stone الباحث في "معهد دراسات الأسرة، The Institute for Family Studies (IFS)"، والمعهد هو مجموعةُ تَفكّر مُحافِظة، قدَّر كذلك أنّ من شأن تدابير دعْم الأسر، حتّى لو كانت متواضعة، "أن تُثمِر في نهاية المطاف وأن تُلحَظ جدواها على المسار الديموغرافي طويل المدى"، ويمكن أن يكون لها في الواقع، تأثيرٌ على الأزواج الذين يتردّدون في أن ينجبوا طفلاً واحداً لأسبابٍ ماليّة.
ومُشيراً إلى تباطؤ المواليد لدى النساء اللّواتي تقلّ أعمارهنّ عن 30 سنة، يَعتبر ليمان ستون أنّ المُجتمع يُمكنه أن يَخضع لإعادةِ تنظيم بطريقةٍ مُعاكسة لهذا الاتّجاه: تخيّلوا "أن نَمنح كلَّ شخصٍ دون سنّ الثلاثين دَخلاً أساسيّاً متواضعاً على مستوى العالَم كلّه. الذي سيحدث عندئذ هو أنّ الجميع سيتّجهون إلى التعليم العالي".
هذا سيَسمح بتحفيز الأزواج من الشباب على الإنجاب مبكّراً، وأن يكون لديهم عدد أكبر من الأطفال، بما أنّ سنّ الطفل الأوّل يُحدِّد، إلى حدّ بعيد، الخصوبة الإجماليّة للمرأة. في مثل هذا السيناريو، "يغدو لدى الأزواج الذين هُم في العشرينيّات من العمر هدفان: إيجاد عمل وإنجاب أطفال".
إنّ إصلاحاً ضريبيّاً كبيراً للإنجاب من شأنه أن يُلقي بجزءٍ كبير من تكاليفه على النّاخبين الأكبر سنّاً، وهو ما يجعل الأمر على قدرٍ متزايد أكثر فأكثر من الحساسيّة في الديمقراطيّات التي تشهد شيخوخة سكّانها.
في اليابان، الناخب المُسنّ، والذي يعود إليه في الغالب قرار توزيع الميزانيّة الضئيلة، أصبحت أعداده أكثر من الشباب. وبعيداً عن إعادة توزيع المساعدات الاجتماعيّة لمصلحة الوالدَيْن الشباب وأطفالهم، يُمكن للمُتقاعدين أن يفضِّلوا مَنْحَ المزيد لأولويّاتهم الخاصّة.
هذه المعضلات ستكون أقلّ حدّة في العقود المُقبلة في حال تراجَعت وتيرة نقْص المواليد أو في حال استقرارها. لكنّ تطوُّر سكّان العالَم، بحُكم التعريف، لا يُمكن التنبّؤ به. أيّاً كانت كميّة المُعطيات التي تُدرجونها في نماذجكم، يبقى من الضروريّ معرفة كيف نبقى متواضعين، بحسب ما يشير إلى ذلك المُختصّون. "لا أحد بشَّرَ بطفرة مواليد ما بعد العام 1945، تذكِّر "ساره هايفورد" Sarah Hayford. "عُلماء الاجتماع والديموغرافيا لا يملكون مفاتيح تطوُّر السكّان كلّها".
*مؤسّسة الفكر العربيّ
* ينشر بالتزامن مع ورية أفق الإلكترونية