على الرّغم من ارتفاع سعر الذهب إلى 2431 دولاراً للأونصة في نيسان (أبريل) الماضي، يرى المراقبون أنّه لم يصل بعد الى مستواه التاريخيّ. وذلك إشارةً إلى أنّه في كانون الثاني (يناير) 1980 كان سعر الأونصة 850 دولاراً، وإذا تمّ تحويل هذا السعر إلى دولاراتِ اليوم، يبلغ 3000 دولار. ولكن مع ارتفاع التضخّم، وفي ظلّ التطوّرات الجيوسياسيّة في مناطق عدّة من العالَم، واستمرار حرب روسيا على أوكرانيا، وكذلك الحرب في الشرق الأوسط، بخاصّة بين إسرائيل والفلسطينيّين في غزّة، والتي تشمل جنوب لبنان، وتداعياتها، من توتّراتٍ أمنيّة واحتمالِ التوسّع في العمليّات العسكريّة، كلّ ذلك يُمكن أن يُسهِم في ارتفاع سعر الذهب الى مستوياتٍ قياسيّة قد يصل إلى 2600 دولار في نهاية العام الحاليّ، ثمّ يرتفع تدريجيّاً، مع تذبْذباتٍ محدودة، ليتجاوز 4000 دولار في العام 2030.
يُصادف العامُ الحاليّ مرور80 عاماً على توقيع اتّفاقيّة "بريتون وودز" في العام 1944، بحضور44 دولة، والتي تمّ بموجبها إنشاء نظام تسعير العملات للدول المتقدّمة اقتصاديّاً، مقابل الدولار وسعرٍ مُحدَّد من الذهب، وأصبحت العملة الأميركيّة عملة الاحتياط. والتزمتِ الولايات المتّحدة بضمان تغيير قيمتها بوزنٍ معيّن من الذهب للدول الحائزة للدولار متى اقتضت الحاجة. لكن يبدو أنّ هذه الاتّفاقيّة لم تُدرِك في حينها احتمالَ عدم قدرة الولايات المتّحدة على تغطية الاحتياطات "الدولاريّة" المُتراكِمة لهذه الدول. وقد حصلَ ذلك في العام 1971، عندما قامت ألمانيا الغربيّة وفرنسا باستبدالهما الذهب باحتياطيّات الدولار، واضطرَّت واشنطن الى التخلّي عن التزاماتها، وحصلَ ما سُمّي "صدمة نيكسون" بإعلان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب. وبذلك سقط نظام "بريتون وودز" بعد مرور27 عاماً على توقيعه. وتمّ التخلّي تدريجيّاً عن "المعيار الذهبي" من قِبَلِ معظم الدول، وفق حاجتها إلى التركيز بشكلٍ أكبر على اقتصادها الداخلي، وتوفير مرونة أكبر لبنوكها المركزيّة في التعامل مع الأزمات الاقتصاديّة.
ولعلّ من أهمّ ميزات ارتباط قيمة الذهب مباشرةً بالدولار، أنّه وسيلة لضمان استقرار العملات في إطار "المعيار الذهبي" الذي يُنظر إليه كوسيلة لمنْع التضخُّم. وساعد هذا الاستقرار في تعزيز التجارة والاستثمار. وكان من الصعب على الحكومات طباعة كميّاتٍ زائدة من النقود الورقيّة، من دون شراء المزيد من الذهب للحفاظ على سعر الصرف الثابت، وتجنُّب مخاطر تقلّبات أسعار الصرف.
قوّة الذهب
إذا كانت الولايات المتّحدة قد تخلّت عن "المعيار الذهبي"، فإنّها لم تتخلّ عن امتلاك الذهب وتخزينه لدى البنك الاحتياطي الفيديرالي، للحفاظ على قيمة الدولار. ففي العام 1930 كانت تُسيطِر على نحو 40 في المئة من احتياطي الذهب في العالَم، وعندما علّقت في العام 1933 قابليّة تحويل الذهب وصادراته، انخفضت قيمة الدولار، بعد تحديد سعر أونصة الذهب بـ 35 دولاراً، ما أدّى الى تدفُّق الذهب إليها، وبالتالي مُضاعَفة احتياطها أربع مرّات خلال ثماني سنوات، حتّى أصبحت في العام 1950، تسيطر على أكثر من 70 في المئة من ذهب العالَم، حرصاً منها على تجنُّب أيّ قلق بشأن قدرتها على الوفاء بالتزاماتها بسعر صرف الذهب مقابل الدولار. وعلى الرّغم من ذلك تصاعدتِ المخاوف من أنّ الولايات المتّحدة لن تكون قادرةً على الوفاءِ بالتزاماتها، بعدما أدّى العجز المُستمرّ في ميزان المدفوعات إلى تداوُل كميّة كبيرة من الدولارات، وتراجُع احتياطها من الذهب نتيجة تدفّقه إلى الخارج.
ومع الأخْذ بالاعتبار التطوّرات التي شهدها الاقتصاد العالَمي في العقود الخمسة الماضية من حروبٍ ونزاعاتٍ واضْطراباتٍ أمنيّة، وما رافقها من انقساماتٍ و"تحالفات مصالح"، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، مع ظهور وباء "كورونا" والحرب الروسيّة على أوكرانيا واستمرارها منذ شباط (فبراير) 2022، ثمّ أخيراً الحرب الإسرائيلية على غزّة وهي مُستمرّة من 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، تضاعَف الاهتمامُ بالذهب لأنّه أفضل "ملاذ آمن" في ظلّ كلّ هذه التطوّرات وتداعيات مخاطرها، حتّى أنّه اشتدّ الطلب عليه من البنوك المركزيّة في العالَم، وسجَّلَت أسعاره مستوياتٍ عالية غير مسبوقة بلغت نحو2431 دولاراً للأونصة في نيسان (أبريل) الماضي. وقُدِّر حَجم تداوُل الذهب يوميّاً حول العالم بنحو 150 مليار دولار.
ووفق تقرير مجلس الذهب العالَمي، بلغَ الطلب على الذهب خلال الفصل الأوّل من العام الحالي 1238 طنّاً على أساس سنوي، وهو الأعلى منذ الفصل الأوّل لعام 2016، وعزّزت البنوك المركزيّة من قوّة الطلب، إذ أضافت 290 طنّاً إلى احتياطيّاتها. وقد دفعتْ هذه التطوّرات المناجمَ إلى زيادة الإنتاج 4 في المئة إلى 893 طنّاً، مُقارَنةً بارتفاع الفصل الأوّل من العام 2023 والبالغ 855 طنّاً. وأَظهر التقريرُ أنّ ثلثَيْ الإنتاج الجديد جاء من الصين التي زادت إنتاجها بنسبة 5 في المئة، ومن غانا بنسبة 15 في المئة، وذلك للإفادة من هوامش الأرباح المرتفعة للمناجم، والتي تجاوزت 16 في المئة.
وعلى الرّغم من ارتفاع احتياطيّ الصين من الذهب إلى 2279 طنّاً، وذلك بشرائها 17 طنّاً، فإنّ نسبته تشكّل فقط 4.6 في المئة من مجموع احتياطيّاتها من العملات الأجنبيّة، وهي تحتلّ المرتبة السادسة على قائمة أهمّ الدول المالكة لاحتياطي الذهب عالميّاً. والفَرق كبير جدّاً بينها وبين الولايات المتّحدة التي تحتلّ المرتبة الأولى باحتياطيّ بلغَ 8133 طنّاً، ويُمثِّل 78.7 في المئة من احتياطي العملات الأجنبيّة، تليها ألمانيا بفارقٍ كبير، إذ يبلغ احتياطها الذهبي 3362 طنّاً، يُمثِّل 76.1 في المئة من العملات الأجنبيّة، ثمّ إيطاليا ولديها 2452 طنّاً، تُمثِّل 70.7 في المئة، وفرنسا لديها 2436 طنّاً، تُمثِّل 66 في المئة. أمّا روسيا فهي تحتلّ المرتبة الخامسة باحتياط ذهبيّ يبلغ 2330 طنّاً، يُمثِّل 23.7 في المئة من احتياطيّاتها من العملات الأجنبيّة.
استثمار الدولار
في الماضي كان يُنظر إلى الدولار والذهب على أنّهما أفضل الملاذات الآمنة للمُستثمِرين، ولكن يُنظر اليوم إلى الذهب على أنّه الأكثر أماناً، حتّى أنّ البنوك المركزيّة في البلدان الناشئة، تقود معظم عمليّات شراء الذهب في الأسواق العالميّة، مع العِلم أنّ الدولار مَحميّ بأكبر كتلة "ذهبيّة" تملكها الولايات المتّحدة، وتعتمده التجارة العالميّة منذ الحرب العالميّة الثانية، وهو يستحوذ (وفق بيانات صندوق النقد الدوليّ) على 58 في المئة من مجموع احتياطيّات البنوك المركزيّة البالغ نحو 13 تريليون دولار، مقابل 20 في المئة لليورو، ونحو 2.7 في المئة للرينمينبي الصيني. مع العِلم أنّ حصّة العملة الأميركيّة كانت 70 في المئة قَبل عقدَيْن. ولكنْ على الرّغم من ضعف الدولار، يتّفق المراقبون بغالبيّة ساحقة على أنّه لا يُمكن أن يَفقد هَيْمنته على عملات العالَم، لأنّه لا يوجد "البديل"، لذلك يتّجه بعض المُستثمِرين للّحاق بالبنوك المركزيّة نحو الذهب.
ووفق القواعد التقليديّة ثمّة علاقة عكسيّة بين سعر الفائدة والذهب. بمعنى أّنّه كلّما ارتفع سعر الفائدة، انخفض سعر الذهب، وهذا يصحّ في الأوضاع الطبيعيّة، حيث يوجد استقرار اقتصادي عالَمي، أيّ لا تضخّم ولا مخاطر ركود. وتفسير ذلك يكمن بمعدّل العائد، أي كلّما ارتفعت أسعار الفائدة ارتفع معها العائد على السندات والإيداعات المصرفيّة فيتّجه حينها رأس المال إلى شراء الدولار للدخول به، إمّا استثماراً بسندات الخزانة أو يضعه إيداعاً في المصارف لتحقيق الأرباح وفق قواعد السوق. وهذا الأمر يؤدّي حُكماً إلى تقوية الدولار في مقابل ضعف الذهب. أمّا في الحالات الاقتصاديّة غير الطبيعيّة، أيّ حين يكون هنالك تضخّمٌ، تتبدَّل المُعادَلة السابقة وتُصبح العلاقة طرديّة، بمعنى أنّه كلّما ارتفع سعر الفائدة، ارتفع سعر الذهب، والسبب في ذلك يعود أيضاً إلى معدّل العائد، أيّ أنّ هذه العلاقة تُصبح هنا طرديّة حين يدخل عنصر آخر وهو التضخُّم، ويأتي رفْعُ سعر الفائدة كمحاولةٍ من المصارف المركزيّة للحدّ من الطلب من خلال التحفيز على شراء سندات الخزانة أو الإيداع في المصارف؛ إنّما قد لا تتحقّق الغاية في هذه المُعادلة حين يُصبح معدّل التضخّم أعلى من معدّل سعر الفائدة؛ لذا يتّجه رأس المال إلى التحوُّط بالمعدن الأصفر، ما يُسبِّب زيادة في الطلب عليه، وينعكس ارتفاعاً في سعره في السوق. ولا تقتصر العلاقة على هذه المُعادلة، بل يتدخّل أيضاً عددٌ من المعايير، منها عوائد سندات الخزانة ومؤشّرات الاقتصاد الأميركي لمعدّل البطالة وبيانات التوظيف. ومن الطبيعي أن تصبح العلاقة أكثر تعقيداً حين تتدخَّل عوامل جيوسياسيّة. وهذا ما يحصل حاليّاً في مناطق عدّة من العالَم.
التضخُّم وتفاقُم الديون
وفي ظلّ كلّ هذه التطوّرات، دخلَ "التضخّم" وتداعياته بقوّة معركةَ السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض بين الرئيس الحالي الديموقراطي جو بايدن والرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب، والتي ستُحسم نتائجها في تشرين الثاني (نوفمبر) المُقبل. وفي إحدى المناسبات قال بايدن: "خطّتي لمُعالجة التضخُّم تبدأ باقتراحٍ بسيط، باحترام بنك الاحتياطي الفيديرالي، واحترام استقلاليّته، وهو ما فعلْته وسأواصِل القيام به". في حين كان نَهج ترامب، ولا يزال، مُمارسة الضغط على رئيس الفيديرالي جيروم باول. ولم يخفِ امتعاضه الشديد من سياسته واتّهامه بـ "ممارسة العمل السياسي" لمصلحة الحزب الديموقراطي، ومُهدِّداً في حال انتُخب رئيساً للولايات المتّحدة بأنّه سيسعى إلى تغييره، بعد انتهاء ولايته في بداية العام 2026.
ويقود باول حاليّاً معركة "الفائدة" ضدّ "التضخُّم"، الذي بلغَ في آذار (مارس) الماضي 3.5 في المئة، وذلك بموجب تفويض يمنحه "استقلاليّة" عن الكونغرس والبيت الأبيض؛ ويسعى إلى تخفيضٍ تدريجيٍّ لهذا التضخُّم ليصلَ إلى الرقم المُستهدَف (2 في المئة) والبدء بخفْض سعر الفائدة الذي يتراوح حاليّاً بين 5.25 في المئة و5.5 في المئة. ولكنّه لم يُحدِّد موعداً للبدء بتنفيذ سياسته، في سياق توقّعاتٍ شديدة التبايُن؛ ففيما يتوقّع "جيه بي مورغان" و"غولدمان ساكس" أن يبدأ الخفْض الأوّل للفائدة في تمّوز (يوليو) المُقبل، يُراهن "ويلز فارغو" على أيلول (سبتمبر)، في حين يَتوقّع "بنك أوف أميركا" الخفْض الأوّل في كانون الأوّل (ديسمبر). أمّا باول نفسه، فيرى "أنّ توقيت أسعار الفائدة متوقّف على إحساس المسؤولين بثقة أكبر إزاء احتمال استمرار التضخُّم في التراجع إلى 2 في المئة، وذلك في اقتصادٍ قويّ يَستمرّ في تجاوُز التوقّعات".
وتعكس الانتخابات المُرتقَبة مساراً حاسماً للمستقبل السياسي والاقتصادي. ولذا تَبرز أهميّة مؤشّرات التضخُّم وأسعار الفائدة والبطالة ومعدّلات النموّ، من بين العوامل التي يَنظر إليها الناخبون عن كثب، ويربطون أداء الاقتصاد بسياسات الحكومة القائمة وقدرتها على توفير الرخاء والاستقرار. مع الأخْذ بالاعتبار ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وكذلك ارتفاع تكلفة قروض الأسرة، بما فيها قروض السكن، وتراكُم مشكلة الديون المتعثّرة لدى المصارف.
ولكن تبقى المشكلة "الأخطر"، في تراكُم الدَّين العامّ الذي سجَّل مستوياتٍ غير مسبوقة، ووُصفت بأنّها "قنبلة موقوتة" تُهدِّد اقتصادَ أميركا والعالَم. وبلغة الأرقام ارتفعَ هذا الدَّين في ولاية ترامب (2017 - 2021) بنحو 7.6 تريليون دولار إلى 27.8 تريليون دولار. أمّا في ولاية بايدن، فقد ارتفعَ إلى نحو 34.63 تريليون دولار في نهاية آذار (مارس) الماضي. وإذا استمرَّ بهذه الوتيرة، يُتوقّع أن يتجاز 36 تريليون دولار في نهاية ولايته في كانون الثاني (يناير) 2025. وبذلك يكون قد زادَ بنحو8.2 تريليون دولار، مُتجاوِزاً حجْم الدَّين الذي سجّله عهد ترامب بنحو600 مليار دولار. ولكنّ المُراقبين يرون أنّه في حال انتُخب ترامب رئيساً، يُمكن أن يرتفع حَجْم الاقتراض في المستقبل، ولاسيّما أنّه وَعَدَ بتمديد تخفيضاته الضريبيّة، وخفْض الضريبة على الشركات من 21 في المئة حاليّاً إلى 15 في المئة، ما يَعني مزيداً من العجز المالي وارتفاعاً في تراكُم الدَّين.
*كاتب ومحلّل اقتصادي من لبنان
* ينشر بالتزامن مع ورية أفق الإلكترونية.
يُصادف العامُ الحاليّ مرور80 عاماً على توقيع اتّفاقيّة "بريتون وودز" في العام 1944، بحضور44 دولة، والتي تمّ بموجبها إنشاء نظام تسعير العملات للدول المتقدّمة اقتصاديّاً، مقابل الدولار وسعرٍ مُحدَّد من الذهب، وأصبحت العملة الأميركيّة عملة الاحتياط. والتزمتِ الولايات المتّحدة بضمان تغيير قيمتها بوزنٍ معيّن من الذهب للدول الحائزة للدولار متى اقتضت الحاجة. لكن يبدو أنّ هذه الاتّفاقيّة لم تُدرِك في حينها احتمالَ عدم قدرة الولايات المتّحدة على تغطية الاحتياطات "الدولاريّة" المُتراكِمة لهذه الدول. وقد حصلَ ذلك في العام 1971، عندما قامت ألمانيا الغربيّة وفرنسا باستبدالهما الذهب باحتياطيّات الدولار، واضطرَّت واشنطن الى التخلّي عن التزاماتها، وحصلَ ما سُمّي "صدمة نيكسون" بإعلان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب. وبذلك سقط نظام "بريتون وودز" بعد مرور27 عاماً على توقيعه. وتمّ التخلّي تدريجيّاً عن "المعيار الذهبي" من قِبَلِ معظم الدول، وفق حاجتها إلى التركيز بشكلٍ أكبر على اقتصادها الداخلي، وتوفير مرونة أكبر لبنوكها المركزيّة في التعامل مع الأزمات الاقتصاديّة.
ولعلّ من أهمّ ميزات ارتباط قيمة الذهب مباشرةً بالدولار، أنّه وسيلة لضمان استقرار العملات في إطار "المعيار الذهبي" الذي يُنظر إليه كوسيلة لمنْع التضخُّم. وساعد هذا الاستقرار في تعزيز التجارة والاستثمار. وكان من الصعب على الحكومات طباعة كميّاتٍ زائدة من النقود الورقيّة، من دون شراء المزيد من الذهب للحفاظ على سعر الصرف الثابت، وتجنُّب مخاطر تقلّبات أسعار الصرف.
قوّة الذهب
إذا كانت الولايات المتّحدة قد تخلّت عن "المعيار الذهبي"، فإنّها لم تتخلّ عن امتلاك الذهب وتخزينه لدى البنك الاحتياطي الفيديرالي، للحفاظ على قيمة الدولار. ففي العام 1930 كانت تُسيطِر على نحو 40 في المئة من احتياطي الذهب في العالَم، وعندما علّقت في العام 1933 قابليّة تحويل الذهب وصادراته، انخفضت قيمة الدولار، بعد تحديد سعر أونصة الذهب بـ 35 دولاراً، ما أدّى الى تدفُّق الذهب إليها، وبالتالي مُضاعَفة احتياطها أربع مرّات خلال ثماني سنوات، حتّى أصبحت في العام 1950، تسيطر على أكثر من 70 في المئة من ذهب العالَم، حرصاً منها على تجنُّب أيّ قلق بشأن قدرتها على الوفاء بالتزاماتها بسعر صرف الذهب مقابل الدولار. وعلى الرّغم من ذلك تصاعدتِ المخاوف من أنّ الولايات المتّحدة لن تكون قادرةً على الوفاءِ بالتزاماتها، بعدما أدّى العجز المُستمرّ في ميزان المدفوعات إلى تداوُل كميّة كبيرة من الدولارات، وتراجُع احتياطها من الذهب نتيجة تدفّقه إلى الخارج.
ومع الأخْذ بالاعتبار التطوّرات التي شهدها الاقتصاد العالَمي في العقود الخمسة الماضية من حروبٍ ونزاعاتٍ واضْطراباتٍ أمنيّة، وما رافقها من انقساماتٍ و"تحالفات مصالح"، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، مع ظهور وباء "كورونا" والحرب الروسيّة على أوكرانيا واستمرارها منذ شباط (فبراير) 2022، ثمّ أخيراً الحرب الإسرائيلية على غزّة وهي مُستمرّة من 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، تضاعَف الاهتمامُ بالذهب لأنّه أفضل "ملاذ آمن" في ظلّ كلّ هذه التطوّرات وتداعيات مخاطرها، حتّى أنّه اشتدّ الطلب عليه من البنوك المركزيّة في العالَم، وسجَّلَت أسعاره مستوياتٍ عالية غير مسبوقة بلغت نحو2431 دولاراً للأونصة في نيسان (أبريل) الماضي. وقُدِّر حَجم تداوُل الذهب يوميّاً حول العالم بنحو 150 مليار دولار.
ووفق تقرير مجلس الذهب العالَمي، بلغَ الطلب على الذهب خلال الفصل الأوّل من العام الحالي 1238 طنّاً على أساس سنوي، وهو الأعلى منذ الفصل الأوّل لعام 2016، وعزّزت البنوك المركزيّة من قوّة الطلب، إذ أضافت 290 طنّاً إلى احتياطيّاتها. وقد دفعتْ هذه التطوّرات المناجمَ إلى زيادة الإنتاج 4 في المئة إلى 893 طنّاً، مُقارَنةً بارتفاع الفصل الأوّل من العام 2023 والبالغ 855 طنّاً. وأَظهر التقريرُ أنّ ثلثَيْ الإنتاج الجديد جاء من الصين التي زادت إنتاجها بنسبة 5 في المئة، ومن غانا بنسبة 15 في المئة، وذلك للإفادة من هوامش الأرباح المرتفعة للمناجم، والتي تجاوزت 16 في المئة.
وعلى الرّغم من ارتفاع احتياطيّ الصين من الذهب إلى 2279 طنّاً، وذلك بشرائها 17 طنّاً، فإنّ نسبته تشكّل فقط 4.6 في المئة من مجموع احتياطيّاتها من العملات الأجنبيّة، وهي تحتلّ المرتبة السادسة على قائمة أهمّ الدول المالكة لاحتياطي الذهب عالميّاً. والفَرق كبير جدّاً بينها وبين الولايات المتّحدة التي تحتلّ المرتبة الأولى باحتياطيّ بلغَ 8133 طنّاً، ويُمثِّل 78.7 في المئة من احتياطي العملات الأجنبيّة، تليها ألمانيا بفارقٍ كبير، إذ يبلغ احتياطها الذهبي 3362 طنّاً، يُمثِّل 76.1 في المئة من العملات الأجنبيّة، ثمّ إيطاليا ولديها 2452 طنّاً، تُمثِّل 70.7 في المئة، وفرنسا لديها 2436 طنّاً، تُمثِّل 66 في المئة. أمّا روسيا فهي تحتلّ المرتبة الخامسة باحتياط ذهبيّ يبلغ 2330 طنّاً، يُمثِّل 23.7 في المئة من احتياطيّاتها من العملات الأجنبيّة.
استثمار الدولار
في الماضي كان يُنظر إلى الدولار والذهب على أنّهما أفضل الملاذات الآمنة للمُستثمِرين، ولكن يُنظر اليوم إلى الذهب على أنّه الأكثر أماناً، حتّى أنّ البنوك المركزيّة في البلدان الناشئة، تقود معظم عمليّات شراء الذهب في الأسواق العالميّة، مع العِلم أنّ الدولار مَحميّ بأكبر كتلة "ذهبيّة" تملكها الولايات المتّحدة، وتعتمده التجارة العالميّة منذ الحرب العالميّة الثانية، وهو يستحوذ (وفق بيانات صندوق النقد الدوليّ) على 58 في المئة من مجموع احتياطيّات البنوك المركزيّة البالغ نحو 13 تريليون دولار، مقابل 20 في المئة لليورو، ونحو 2.7 في المئة للرينمينبي الصيني. مع العِلم أنّ حصّة العملة الأميركيّة كانت 70 في المئة قَبل عقدَيْن. ولكنْ على الرّغم من ضعف الدولار، يتّفق المراقبون بغالبيّة ساحقة على أنّه لا يُمكن أن يَفقد هَيْمنته على عملات العالَم، لأنّه لا يوجد "البديل"، لذلك يتّجه بعض المُستثمِرين للّحاق بالبنوك المركزيّة نحو الذهب.
ووفق القواعد التقليديّة ثمّة علاقة عكسيّة بين سعر الفائدة والذهب. بمعنى أّنّه كلّما ارتفع سعر الفائدة، انخفض سعر الذهب، وهذا يصحّ في الأوضاع الطبيعيّة، حيث يوجد استقرار اقتصادي عالَمي، أيّ لا تضخّم ولا مخاطر ركود. وتفسير ذلك يكمن بمعدّل العائد، أي كلّما ارتفعت أسعار الفائدة ارتفع معها العائد على السندات والإيداعات المصرفيّة فيتّجه حينها رأس المال إلى شراء الدولار للدخول به، إمّا استثماراً بسندات الخزانة أو يضعه إيداعاً في المصارف لتحقيق الأرباح وفق قواعد السوق. وهذا الأمر يؤدّي حُكماً إلى تقوية الدولار في مقابل ضعف الذهب. أمّا في الحالات الاقتصاديّة غير الطبيعيّة، أيّ حين يكون هنالك تضخّمٌ، تتبدَّل المُعادَلة السابقة وتُصبح العلاقة طرديّة، بمعنى أنّه كلّما ارتفع سعر الفائدة، ارتفع سعر الذهب، والسبب في ذلك يعود أيضاً إلى معدّل العائد، أيّ أنّ هذه العلاقة تُصبح هنا طرديّة حين يدخل عنصر آخر وهو التضخُّم، ويأتي رفْعُ سعر الفائدة كمحاولةٍ من المصارف المركزيّة للحدّ من الطلب من خلال التحفيز على شراء سندات الخزانة أو الإيداع في المصارف؛ إنّما قد لا تتحقّق الغاية في هذه المُعادلة حين يُصبح معدّل التضخّم أعلى من معدّل سعر الفائدة؛ لذا يتّجه رأس المال إلى التحوُّط بالمعدن الأصفر، ما يُسبِّب زيادة في الطلب عليه، وينعكس ارتفاعاً في سعره في السوق. ولا تقتصر العلاقة على هذه المُعادلة، بل يتدخّل أيضاً عددٌ من المعايير، منها عوائد سندات الخزانة ومؤشّرات الاقتصاد الأميركي لمعدّل البطالة وبيانات التوظيف. ومن الطبيعي أن تصبح العلاقة أكثر تعقيداً حين تتدخَّل عوامل جيوسياسيّة. وهذا ما يحصل حاليّاً في مناطق عدّة من العالَم.
التضخُّم وتفاقُم الديون
وفي ظلّ كلّ هذه التطوّرات، دخلَ "التضخّم" وتداعياته بقوّة معركةَ السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض بين الرئيس الحالي الديموقراطي جو بايدن والرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب، والتي ستُحسم نتائجها في تشرين الثاني (نوفمبر) المُقبل. وفي إحدى المناسبات قال بايدن: "خطّتي لمُعالجة التضخُّم تبدأ باقتراحٍ بسيط، باحترام بنك الاحتياطي الفيديرالي، واحترام استقلاليّته، وهو ما فعلْته وسأواصِل القيام به". في حين كان نَهج ترامب، ولا يزال، مُمارسة الضغط على رئيس الفيديرالي جيروم باول. ولم يخفِ امتعاضه الشديد من سياسته واتّهامه بـ "ممارسة العمل السياسي" لمصلحة الحزب الديموقراطي، ومُهدِّداً في حال انتُخب رئيساً للولايات المتّحدة بأنّه سيسعى إلى تغييره، بعد انتهاء ولايته في بداية العام 2026.
ويقود باول حاليّاً معركة "الفائدة" ضدّ "التضخُّم"، الذي بلغَ في آذار (مارس) الماضي 3.5 في المئة، وذلك بموجب تفويض يمنحه "استقلاليّة" عن الكونغرس والبيت الأبيض؛ ويسعى إلى تخفيضٍ تدريجيٍّ لهذا التضخُّم ليصلَ إلى الرقم المُستهدَف (2 في المئة) والبدء بخفْض سعر الفائدة الذي يتراوح حاليّاً بين 5.25 في المئة و5.5 في المئة. ولكنّه لم يُحدِّد موعداً للبدء بتنفيذ سياسته، في سياق توقّعاتٍ شديدة التبايُن؛ ففيما يتوقّع "جيه بي مورغان" و"غولدمان ساكس" أن يبدأ الخفْض الأوّل للفائدة في تمّوز (يوليو) المُقبل، يُراهن "ويلز فارغو" على أيلول (سبتمبر)، في حين يَتوقّع "بنك أوف أميركا" الخفْض الأوّل في كانون الأوّل (ديسمبر). أمّا باول نفسه، فيرى "أنّ توقيت أسعار الفائدة متوقّف على إحساس المسؤولين بثقة أكبر إزاء احتمال استمرار التضخُّم في التراجع إلى 2 في المئة، وذلك في اقتصادٍ قويّ يَستمرّ في تجاوُز التوقّعات".
وتعكس الانتخابات المُرتقَبة مساراً حاسماً للمستقبل السياسي والاقتصادي. ولذا تَبرز أهميّة مؤشّرات التضخُّم وأسعار الفائدة والبطالة ومعدّلات النموّ، من بين العوامل التي يَنظر إليها الناخبون عن كثب، ويربطون أداء الاقتصاد بسياسات الحكومة القائمة وقدرتها على توفير الرخاء والاستقرار. مع الأخْذ بالاعتبار ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وكذلك ارتفاع تكلفة قروض الأسرة، بما فيها قروض السكن، وتراكُم مشكلة الديون المتعثّرة لدى المصارف.
ولكن تبقى المشكلة "الأخطر"، في تراكُم الدَّين العامّ الذي سجَّل مستوياتٍ غير مسبوقة، ووُصفت بأنّها "قنبلة موقوتة" تُهدِّد اقتصادَ أميركا والعالَم. وبلغة الأرقام ارتفعَ هذا الدَّين في ولاية ترامب (2017 - 2021) بنحو 7.6 تريليون دولار إلى 27.8 تريليون دولار. أمّا في ولاية بايدن، فقد ارتفعَ إلى نحو 34.63 تريليون دولار في نهاية آذار (مارس) الماضي. وإذا استمرَّ بهذه الوتيرة، يُتوقّع أن يتجاز 36 تريليون دولار في نهاية ولايته في كانون الثاني (يناير) 2025. وبذلك يكون قد زادَ بنحو8.2 تريليون دولار، مُتجاوِزاً حجْم الدَّين الذي سجّله عهد ترامب بنحو600 مليار دولار. ولكنّ المُراقبين يرون أنّه في حال انتُخب ترامب رئيساً، يُمكن أن يرتفع حَجْم الاقتراض في المستقبل، ولاسيّما أنّه وَعَدَ بتمديد تخفيضاته الضريبيّة، وخفْض الضريبة على الشركات من 21 في المئة حاليّاً إلى 15 في المئة، ما يَعني مزيداً من العجز المالي وارتفاعاً في تراكُم الدَّين.
*كاتب ومحلّل اقتصادي من لبنان
* ينشر بالتزامن مع ورية أفق الإلكترونية.