لَفتني مقالُ أحدِ أساتذة الفلسفة العرب البارزين حول "أزمة الاستشراق في خلفيّاتها الثقافيّة والسياسيّة" في إحدى الصحف العربيّة اللّندنيّة. وعلى الرّغم من أنّ هذا الموضوع ليس من ضمن اختصاصي المباشر، إلّا أنّني قارنتُ قراءاتي المتواضعة حوله وبعض ما جاء في المقال المنشور، فأحببتُ أن أدلي بدلوي الصغير فيه.
يبدأ الكاتبُ بتحديد منهجيّة دقيقة وموفَّقة عندما يُقسِّم الاستشراقَ ويُميّزه إلى موضوعاتٍ عدّة، حيث اعتبرَ عن حقّ إنَّ: "الأدبيّ غير العلميّ وكلاهما غير الاجتماعيّ والسياسيّ". إلّا أنّه لا يَلتزم هو نفسه بهذه القسمة حين يقول في إحدى جزئيّات مقاله:
"من الضروري في هذا السياق أن أخصّ الاستشراقَ الألماني بذكرٍ طيِّب؛ إذ انفردَ بمَيله الأكاديمي الصِّرف ورغبته الصادقة في الانعتاق من سطوة السلطان السياسي. صحيح أنّه من العلوم الدخيلة في ألمانيا، ولكنّه ما عتّم أن اندمجَ في النظام البحثي الجامعي الألماني، وقد آزرته العواملُ السياسيّة المتعلّقة بانكفاء المقاطعات الألمانيّة وإعراضها عن التوسُّع الاستعماري الجامح. فاكتفى المُستشرقون الألمان بفضيلةِ البحث العلمي المحض، ولو أنّ الجيل الرومانسي من الاستشراق الألماني عادَ فاستَثمرَ لاحقاً الأبحاثَ المُنجَزَة في توطيد التصوُّراتِ القوميّة الجرمانيّة. بفضل جهود المُستشرِق الألماني هاينريش فلايشر (1801 - 1888) الذي اعتنى بتحقيق نصوص أبي الفداء والزمخشري والقاضي البيضاوي، تأسَّست في مدينة لايبتسيش في العام 1845 الجمعيّة المشرقيّة الألمانيّة، وغايتها احتضان الاستشراق الألماني في إطار المؤسّسة البحثيّة المستقلّة".
لا اعتراض على الحديث عن فضيلة البحث العلمي المحض واهتمامه بالنصوص العربيّة عند المُستشرِقين الألمان، حتّى ولو كانت قد وطَّدت للتصوُّرات القوميّة الجرمانيّة، لكنّنا نسأل عن دقّة توصيفه للجانب السياسي عندما يشير إلى إعراضِ ألمانيا عن "التوسُّع الاستعماري الجامح". هنا يبدو أنّ أستاذ الفلسفة مُتّفقٌ مع أستاذ الأدب الإنكليزي الذي أَطلق النقاش حول مسألة الاستشراق قَبل نحو نصفِ قرن، أي إدوارد سعيد نفسه، في استبعاد الألمان والهولنديّين عن تهمة الاستشراق كما حدَّدها سعيد وربَطها بعلاقات القوّة الاستعماريّة. لكنّ أكثر من باحثٍ عارَضَ سعيد في ما يتعلّق بهذه النقطة. على سبيل المثال يقول الدكتور رضوان السيّد، الضليع في الموضوع. في كتابه "المُستشرقون الألمان: النشوء والتأثير والمصائر"، الذي صَدَرَ في طبعته الأولى في العام 2007: "...الطريف أنّ السبب الذي من أجله أَعرض إدوارد سعيد عن محاولة نقْض الاستشراق الألماني هو أمرٌ تاريخي وليس منهجيّاً. فقد ذهبَ إلى أنّ المُستشرِقين الألمان ما كانوا عتاة فاعلين في "المؤسّسة"، فضلاً عن أنّ "المؤسّسة" ما كانت رئيسيّة في الحركة الاستعماريّة في العالَمَيْن العربي والإسلامي. وكِلا الأمرَيْن غير صحيح أو غير دقيق. فالألمان كانت لديهم رغبات استعماريّة شرهة ومُعلنة، لكنّها ما صارت فاعلة إلّا بعد الوحدة الألمانيّة في العام 1870.
وفي الوقت الذي اندفعوا فيه لخلْق مجالٍ حيوي في أوروبا، التي زعموا أنّهم كانوا يختنقون فيها تحت وطأة الحصارات البريطانيّة والفرنسيّة والنمساويّة، اتَّجهوا صوب إفريقيا لانتزاع بعض الأقاليم، ثمّ صوب آسيا العثمانيّة، لإقامة علاقة استراتيجيّة مع الرجل المريض في مُواجَهة الروس والبريطانيّين والفرنسيّين على حدٍّ سواء. ومنذ السنوات الأولى لاستراتيجيّتهم العثمانيّة استعانوا بالمُستشرِقين وعُلماء الدراسات العربيّة والإسلاميّة. وتدلّ على ذلك النقاشات التي اندلعت بين المُستشرقين الألمان من جهة، والهولنديّين والبريطانيّين والفرنسيّين من جهة ثانية، عشيّة الحرب العالميّة الأولى. كما أنّ هؤلاء اتّهموا المُستشرقين الألمانَ بالتحزُّب للعثمانيّين نفاقاً وانسجاماً مع سياسات دولتهم. وضربوا أمثلة على ذلك بالمؤسّسات التي أنشأتها الإمبراطوريّة الألمانيّة في أوائل القرن العشرين لخدمة استراتيجيّتها في العالَم الإسلامي - كما ضربوا أمثلة بتحوّلات الدراسات الاستشراقيّة في المدى القصير إنفاذاً لتلك السياسات أو الاستراتيجيّات.
قال سنوك هورغرونيّة، المُستشرق الهولّندي الكبير الذي خدمَ سياسات دولتها في أندونيسيا - إنّ مارتن هارتمان [الصحافي والمستشرق الألماني] الذي صار مُدرِّساً في المعهد الاستعماري في هامبورغ قد كتبَ كتابه "رسائل رحلة إلى سورية" ورسائل غير سياسيّة من تركيا عامَيْ 1911، 1912 وفيهما يدعو النصرة للسياسة الفرنسيّة والمطامع الفرنسيّة (من أجل التحديث) هناك؛ ثمّ عاد بعد أربع سنوات، ليُشيد بالخلافة العثمانيّة، وليَعتبر نداء الجهاد الذي أصدره شيخ الإسلام العثماني، مُلزِماً لسائر المسلمين، حتّى أولئك الذين لا يخضعون للسيطرة السياسيّة للسلطان العثماني!
وكان هجوم هور غرونيه أشدّ على كارل هاينريش بيكر Becker إذ اعتبر الجهاد أو الحرب المقدَّسة التي دعا إليها الخليفة/ السلطان العثماني صناعة ألمانيّة! وما اكتفى هارتمان بالردّ عليه؛ بل ردَّ عليه أيضاً المستشرقُ الشهير كارل هاينريش بيكر الذي صار وزيراً للثقافة في جمهوريّة فايمار، مدافعاً عن "موضوعيّة" الاستشراق الألماني. لكنّ دفاعه انصبَّ أيضاً على وطنيّة المُستشرقين الألمان، وضرورة وقوفهم إلى جانب دولتهم ووطنهم في الحرب. وذكَّر بيكر هور غرونيه بأنّه هو نفسه عمل مُستشاراً لحكومة هولندا في أندونيسيا، وما كانت تقاريره ونصائحه لتلك الحكومة نابعة دائماً من بشاشة مع المسلمين أو حبٍّ لهم. وأطروحة بيكر في جانبها الجدّي، ترى أنّ الموضوعيّة العلميّة، لا تعني بالضرورة العداء للمسلمين، ولا الخصومة معهم، وأنّ الموقف الشخصي الوطني أو القومي أو التبشيري، ينبغي ألّا يؤثِّر على رؤية الاستشراق للحضارة الإسلامية العالميّة النّزوع والتوجُّه.
وإذا وسَّعنا تعريف الاستشراق ضمّاً لعلاقة التفوُّق وربطها بممارسة القوّة الاستعماريّة الجامحة في أكثر من مكانٍ، لَوجدنا أنّ ألمانيا لا تمثِّل استثناءً في النَّوع، بل في الحَجْم، ولَتوقَّفنا بعض الشيء عند اعتراف الدولة الألمانيّة بمسؤوليّتها عن الإبادة لعشرات الآلاف من سكّان ناميبا الأفريقيّة في العقد الأوّل من القرن العشرين.
إذن، كان الاستشراق الألماني، في جزءٍ منه على الأقلّ، مُرتبطاً بالمصالح القوميّة الألمانيّة التي هي من طبيعة الأشياء، فإنّ فعل الإبادة في ناميبا لا يُمكن تجاوزه. ولعلّنا يُمكن أن نتخيَّل أنّ هذا الاستثناء لم يكُن ليبقى استثناءً، لو أنّ البلدان الاستعماريّة الكبرى تركتْ لألمانيا مجالاً لتوسعة استعمارها.
من القوميّة إلى الدّين
خبرتْ برلين أيضاً اتّجاهاً استشراقيّاً آخر مرتبطاً بالدّين، وبالمذهب الإنجيلي، تحديداً ثمّ باليهوديّة الصهيونيّة؛ إذ كانت ألمانيا تتبع سياسةً ثقافيّة - دينيّة في القرن التّاسع عشر. ونستطيع الإشارة إلى أنّ العديد من الدول الأوروبيّة كانت تَبني وتوسِّع حضورَها، بخاصّة في فلسطين من خلال الاختراق الثقافي - الدّيني، والسَّير بسياسة حماية الأقلّيات الوافدة أو المُهاجرة إلى هناك. وقد تعاونَ الألمان مع مذهبٍ ألماني إنجيلي معروف بفرسان الهيكل (تمبلرز) الذين أنشأوا مُستعمرات - أو بالأحرى مستوطنات - في فلسطين من دون أن يكون لديهم برنامج سياسي. وقد كتبَ قنصل أميركا في بيروت لرؤسائه في واشنطن في العام 1880:
"إنّ المستوطَنة الألمانيّة في حيفا تُكافح من أجل البقاء. وهي تتألَّف من حوالى مائتي مُستوطِنٍ، وهُم أناس طيّبون ومُجتهدون لديهم منازل نظيفة جيّدة [،] شوارع، وحقول وكروم مزروعة بعناية، ومدارس جيّدة، وإحداها مدرسة داخليّة للفتيات. نشأتْ لدى فرسان الهيكل، من ناحية، والعرب الفلسطينيّين المُسلمين والمسيحيّين المحليّين، من ناحية أخرى، كراهيّة متبادلة ومواقف عدم احترام منذ بداية الأنشطة الاستيطانيّة لفرسان الهيكل في العام 1858. ولم يفرِّق فرسان الهيكل بين العرب المُسلمين والمسيحيّين المحليّين وشَعروا أنّ الجميع كانوا أدنى منهم".
علاوة على ذلك، لم يكُن لهذا النشاط الاستعماري تأثيرٌ حميد على المُجتمع الفلسطيني نفسه. ففي 3 تمّوز/ يوليو 1880، على سبيل المثال، أفادَ القائمُ بأعمال القنصل البريطاني في بيروت، جون ديكسون، عن الاضْطرابات التي وقعتْ في حيفا بين المسيحيّين والمُسلمين قائلاً: "يبدو أنّ سبب هذا الاضطراب هو شعور الغيرة من جانب السكّان المُسلمين تجاه الحالة المزدهرة ... للمُستوطَنة الألمانيّة التي أُنشئت في حيفا منذ عدّة سنوات، ويُظهِر تناقضاً ملحوظاً مع الحالة البائسة للسكّان المسلمين. ويبدو أنّ هذا الشعور قد أظهر نفسه أخيراً في اندلاع التعصُّب الإسلامي [كذا]. وأبلغ ديكسون في نهاية رسالته، وتماشياً مع ما أصبح سلوكاً تقليديّاً للسياسة الاستعماريّة البريطانيّة في ذلك الوقت، رئيسَهُ بالإجراء الذي اتّخذه بالفعل: "أنا على ثقة من أنّ سعادتك ستوافق على الإجراء الذي اتّخذته في إرسال سفينة حربيّة إلى مكان الاضطراب".
على الرّغم من فشل "فرسان الهيكل" في جهودهم الشاملة في ما يتعلَّق بالاستيطان الدّيني، إلّا أنّه في وقتٍ لاحق من القرن التّاسع عشر، أَذعنت الدولةُ الألمانيّة ومعها نفر من المُستشرقين الألمان، للاستيطان اليهودي حيث اعتقدوا أنّه سيَنشر الثقافة الألمانيّة في الأراضي المقدَّسة كما قالت الباحثة الألمانيّة سوزان مارشند في كتابها "الاستشراق في عصر الإمبراطوريّة"؛ إذ كان لدى الألمان فكرة، لا تختلف كثيراً عن المهمّة الفرنسيّة الحضاريّة، مفادها أنّه تمّ تكليفهم بمهمّات خاصّة لنقل الثقافة إلى الآسيويّين غير المُستنيرين. وفي نهاية القرن التّاسع عشر، كانت اللّغة الألمانيّة وتأثيرها أكبر من تأثير أيّ دولة أوروبيّة أخرى. لم يحدث هذا التطوُّر من خلال المستوطَنات الألمانيّة فحسب، بل من خلال المستوطَنات اليهوديّة أيضاً. وفي الحالة الأخيرة، أكَّد الباحثُ الألماني هانز رود أنّه: "بالإضافة إلى المستوطَنات الألمانيّة، كان العنصر اليهودي في فلسطين قادراً على نشرِ اللّغة والثقافة الألمانيّة. وينبغي منْحُها الاهتمام المناسب. إنّ علاقات ألمانيا مع الصهيونيّة، هي في مصلحة ألمانيا". أمّا مارتن هارتمان، الذي زار فلسطين في 1912 - 1913 فقال:
"إنّ الألمانيّة تتحرَّك في الشرق بطريقتها الصامتة الهادئة؛ فهي لا تدّعي احتكار تعليم أهل الشرق وتدريبهم، ولا تريد خلْق الظروف التي يُمكن أن تَخدم تنفيذ مخطّطات شوفينيّة. عندما قال الناس: من بلغراد إلى بغداد، فإنّ اليهود مثَّلوا جسراً للّغة الألمانيّة والثقافة الألمانيّة. ربّما يكون هذا بعيد المنال إلى حدٍّ ما. لكنّ الحركة اليهوديّة الكبيرة، التي استقرَّت في فلسطين، يُمكنها أن تخلق مادّةً فعّالة [يُبنى عليها] بكلّ معنى الكلمة. ويُمكننا أن نثقَ بالقادة القائلين إنّه إلى جانب المساعي القوميّة اليهوديّة في فلسطين - والتي تمثِّل أولويّة بالنسبة إليهم - سيتمّ تعزيز المصالح الألمانيّة. ستُراقِب حكومة الإمبراطوريّة والجمهور الألماني أنشطةَ المؤسّسات التي سيكون لها طابع وشخصيّة ألمانيّة وفقاً لإدارتها والمُعلّمين العاملين هناك". وخلال الحرب العالميّة الأولى، "أعفت ألمانيا مُمثّلي الصهيونيّة الألمانيّة في برلين وإسطنبول ويافا من الخدمة العسكريّة؛ وتمتَّع الصهاينة غير الألمان، الذين أصبحوا أكثر نفوذاً من الصهاينة الروس، بالحصول على الدّعم الألماني في أوروبا وفي الإمبراطوريّة العثمانيّة".
*مؤرِّخ وأستاذ جامعي من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.
يبدأ الكاتبُ بتحديد منهجيّة دقيقة وموفَّقة عندما يُقسِّم الاستشراقَ ويُميّزه إلى موضوعاتٍ عدّة، حيث اعتبرَ عن حقّ إنَّ: "الأدبيّ غير العلميّ وكلاهما غير الاجتماعيّ والسياسيّ". إلّا أنّه لا يَلتزم هو نفسه بهذه القسمة حين يقول في إحدى جزئيّات مقاله:
"من الضروري في هذا السياق أن أخصّ الاستشراقَ الألماني بذكرٍ طيِّب؛ إذ انفردَ بمَيله الأكاديمي الصِّرف ورغبته الصادقة في الانعتاق من سطوة السلطان السياسي. صحيح أنّه من العلوم الدخيلة في ألمانيا، ولكنّه ما عتّم أن اندمجَ في النظام البحثي الجامعي الألماني، وقد آزرته العواملُ السياسيّة المتعلّقة بانكفاء المقاطعات الألمانيّة وإعراضها عن التوسُّع الاستعماري الجامح. فاكتفى المُستشرقون الألمان بفضيلةِ البحث العلمي المحض، ولو أنّ الجيل الرومانسي من الاستشراق الألماني عادَ فاستَثمرَ لاحقاً الأبحاثَ المُنجَزَة في توطيد التصوُّراتِ القوميّة الجرمانيّة. بفضل جهود المُستشرِق الألماني هاينريش فلايشر (1801 - 1888) الذي اعتنى بتحقيق نصوص أبي الفداء والزمخشري والقاضي البيضاوي، تأسَّست في مدينة لايبتسيش في العام 1845 الجمعيّة المشرقيّة الألمانيّة، وغايتها احتضان الاستشراق الألماني في إطار المؤسّسة البحثيّة المستقلّة".
لا اعتراض على الحديث عن فضيلة البحث العلمي المحض واهتمامه بالنصوص العربيّة عند المُستشرِقين الألمان، حتّى ولو كانت قد وطَّدت للتصوُّرات القوميّة الجرمانيّة، لكنّنا نسأل عن دقّة توصيفه للجانب السياسي عندما يشير إلى إعراضِ ألمانيا عن "التوسُّع الاستعماري الجامح". هنا يبدو أنّ أستاذ الفلسفة مُتّفقٌ مع أستاذ الأدب الإنكليزي الذي أَطلق النقاش حول مسألة الاستشراق قَبل نحو نصفِ قرن، أي إدوارد سعيد نفسه، في استبعاد الألمان والهولنديّين عن تهمة الاستشراق كما حدَّدها سعيد وربَطها بعلاقات القوّة الاستعماريّة. لكنّ أكثر من باحثٍ عارَضَ سعيد في ما يتعلّق بهذه النقطة. على سبيل المثال يقول الدكتور رضوان السيّد، الضليع في الموضوع. في كتابه "المُستشرقون الألمان: النشوء والتأثير والمصائر"، الذي صَدَرَ في طبعته الأولى في العام 2007: "...الطريف أنّ السبب الذي من أجله أَعرض إدوارد سعيد عن محاولة نقْض الاستشراق الألماني هو أمرٌ تاريخي وليس منهجيّاً. فقد ذهبَ إلى أنّ المُستشرِقين الألمان ما كانوا عتاة فاعلين في "المؤسّسة"، فضلاً عن أنّ "المؤسّسة" ما كانت رئيسيّة في الحركة الاستعماريّة في العالَمَيْن العربي والإسلامي. وكِلا الأمرَيْن غير صحيح أو غير دقيق. فالألمان كانت لديهم رغبات استعماريّة شرهة ومُعلنة، لكنّها ما صارت فاعلة إلّا بعد الوحدة الألمانيّة في العام 1870.
وفي الوقت الذي اندفعوا فيه لخلْق مجالٍ حيوي في أوروبا، التي زعموا أنّهم كانوا يختنقون فيها تحت وطأة الحصارات البريطانيّة والفرنسيّة والنمساويّة، اتَّجهوا صوب إفريقيا لانتزاع بعض الأقاليم، ثمّ صوب آسيا العثمانيّة، لإقامة علاقة استراتيجيّة مع الرجل المريض في مُواجَهة الروس والبريطانيّين والفرنسيّين على حدٍّ سواء. ومنذ السنوات الأولى لاستراتيجيّتهم العثمانيّة استعانوا بالمُستشرِقين وعُلماء الدراسات العربيّة والإسلاميّة. وتدلّ على ذلك النقاشات التي اندلعت بين المُستشرقين الألمان من جهة، والهولنديّين والبريطانيّين والفرنسيّين من جهة ثانية، عشيّة الحرب العالميّة الأولى. كما أنّ هؤلاء اتّهموا المُستشرقين الألمانَ بالتحزُّب للعثمانيّين نفاقاً وانسجاماً مع سياسات دولتهم. وضربوا أمثلة على ذلك بالمؤسّسات التي أنشأتها الإمبراطوريّة الألمانيّة في أوائل القرن العشرين لخدمة استراتيجيّتها في العالَم الإسلامي - كما ضربوا أمثلة بتحوّلات الدراسات الاستشراقيّة في المدى القصير إنفاذاً لتلك السياسات أو الاستراتيجيّات.
قال سنوك هورغرونيّة، المُستشرق الهولّندي الكبير الذي خدمَ سياسات دولتها في أندونيسيا - إنّ مارتن هارتمان [الصحافي والمستشرق الألماني] الذي صار مُدرِّساً في المعهد الاستعماري في هامبورغ قد كتبَ كتابه "رسائل رحلة إلى سورية" ورسائل غير سياسيّة من تركيا عامَيْ 1911، 1912 وفيهما يدعو النصرة للسياسة الفرنسيّة والمطامع الفرنسيّة (من أجل التحديث) هناك؛ ثمّ عاد بعد أربع سنوات، ليُشيد بالخلافة العثمانيّة، وليَعتبر نداء الجهاد الذي أصدره شيخ الإسلام العثماني، مُلزِماً لسائر المسلمين، حتّى أولئك الذين لا يخضعون للسيطرة السياسيّة للسلطان العثماني!
وكان هجوم هور غرونيه أشدّ على كارل هاينريش بيكر Becker إذ اعتبر الجهاد أو الحرب المقدَّسة التي دعا إليها الخليفة/ السلطان العثماني صناعة ألمانيّة! وما اكتفى هارتمان بالردّ عليه؛ بل ردَّ عليه أيضاً المستشرقُ الشهير كارل هاينريش بيكر الذي صار وزيراً للثقافة في جمهوريّة فايمار، مدافعاً عن "موضوعيّة" الاستشراق الألماني. لكنّ دفاعه انصبَّ أيضاً على وطنيّة المُستشرقين الألمان، وضرورة وقوفهم إلى جانب دولتهم ووطنهم في الحرب. وذكَّر بيكر هور غرونيه بأنّه هو نفسه عمل مُستشاراً لحكومة هولندا في أندونيسيا، وما كانت تقاريره ونصائحه لتلك الحكومة نابعة دائماً من بشاشة مع المسلمين أو حبٍّ لهم. وأطروحة بيكر في جانبها الجدّي، ترى أنّ الموضوعيّة العلميّة، لا تعني بالضرورة العداء للمسلمين، ولا الخصومة معهم، وأنّ الموقف الشخصي الوطني أو القومي أو التبشيري، ينبغي ألّا يؤثِّر على رؤية الاستشراق للحضارة الإسلامية العالميّة النّزوع والتوجُّه.
وإذا وسَّعنا تعريف الاستشراق ضمّاً لعلاقة التفوُّق وربطها بممارسة القوّة الاستعماريّة الجامحة في أكثر من مكانٍ، لَوجدنا أنّ ألمانيا لا تمثِّل استثناءً في النَّوع، بل في الحَجْم، ولَتوقَّفنا بعض الشيء عند اعتراف الدولة الألمانيّة بمسؤوليّتها عن الإبادة لعشرات الآلاف من سكّان ناميبا الأفريقيّة في العقد الأوّل من القرن العشرين.
إذن، كان الاستشراق الألماني، في جزءٍ منه على الأقلّ، مُرتبطاً بالمصالح القوميّة الألمانيّة التي هي من طبيعة الأشياء، فإنّ فعل الإبادة في ناميبا لا يُمكن تجاوزه. ولعلّنا يُمكن أن نتخيَّل أنّ هذا الاستثناء لم يكُن ليبقى استثناءً، لو أنّ البلدان الاستعماريّة الكبرى تركتْ لألمانيا مجالاً لتوسعة استعمارها.
من القوميّة إلى الدّين
خبرتْ برلين أيضاً اتّجاهاً استشراقيّاً آخر مرتبطاً بالدّين، وبالمذهب الإنجيلي، تحديداً ثمّ باليهوديّة الصهيونيّة؛ إذ كانت ألمانيا تتبع سياسةً ثقافيّة - دينيّة في القرن التّاسع عشر. ونستطيع الإشارة إلى أنّ العديد من الدول الأوروبيّة كانت تَبني وتوسِّع حضورَها، بخاصّة في فلسطين من خلال الاختراق الثقافي - الدّيني، والسَّير بسياسة حماية الأقلّيات الوافدة أو المُهاجرة إلى هناك. وقد تعاونَ الألمان مع مذهبٍ ألماني إنجيلي معروف بفرسان الهيكل (تمبلرز) الذين أنشأوا مُستعمرات - أو بالأحرى مستوطنات - في فلسطين من دون أن يكون لديهم برنامج سياسي. وقد كتبَ قنصل أميركا في بيروت لرؤسائه في واشنطن في العام 1880:
"إنّ المستوطَنة الألمانيّة في حيفا تُكافح من أجل البقاء. وهي تتألَّف من حوالى مائتي مُستوطِنٍ، وهُم أناس طيّبون ومُجتهدون لديهم منازل نظيفة جيّدة [،] شوارع، وحقول وكروم مزروعة بعناية، ومدارس جيّدة، وإحداها مدرسة داخليّة للفتيات. نشأتْ لدى فرسان الهيكل، من ناحية، والعرب الفلسطينيّين المُسلمين والمسيحيّين المحليّين، من ناحية أخرى، كراهيّة متبادلة ومواقف عدم احترام منذ بداية الأنشطة الاستيطانيّة لفرسان الهيكل في العام 1858. ولم يفرِّق فرسان الهيكل بين العرب المُسلمين والمسيحيّين المحليّين وشَعروا أنّ الجميع كانوا أدنى منهم".
علاوة على ذلك، لم يكُن لهذا النشاط الاستعماري تأثيرٌ حميد على المُجتمع الفلسطيني نفسه. ففي 3 تمّوز/ يوليو 1880، على سبيل المثال، أفادَ القائمُ بأعمال القنصل البريطاني في بيروت، جون ديكسون، عن الاضْطرابات التي وقعتْ في حيفا بين المسيحيّين والمُسلمين قائلاً: "يبدو أنّ سبب هذا الاضطراب هو شعور الغيرة من جانب السكّان المُسلمين تجاه الحالة المزدهرة ... للمُستوطَنة الألمانيّة التي أُنشئت في حيفا منذ عدّة سنوات، ويُظهِر تناقضاً ملحوظاً مع الحالة البائسة للسكّان المسلمين. ويبدو أنّ هذا الشعور قد أظهر نفسه أخيراً في اندلاع التعصُّب الإسلامي [كذا]. وأبلغ ديكسون في نهاية رسالته، وتماشياً مع ما أصبح سلوكاً تقليديّاً للسياسة الاستعماريّة البريطانيّة في ذلك الوقت، رئيسَهُ بالإجراء الذي اتّخذه بالفعل: "أنا على ثقة من أنّ سعادتك ستوافق على الإجراء الذي اتّخذته في إرسال سفينة حربيّة إلى مكان الاضطراب".
على الرّغم من فشل "فرسان الهيكل" في جهودهم الشاملة في ما يتعلَّق بالاستيطان الدّيني، إلّا أنّه في وقتٍ لاحق من القرن التّاسع عشر، أَذعنت الدولةُ الألمانيّة ومعها نفر من المُستشرقين الألمان، للاستيطان اليهودي حيث اعتقدوا أنّه سيَنشر الثقافة الألمانيّة في الأراضي المقدَّسة كما قالت الباحثة الألمانيّة سوزان مارشند في كتابها "الاستشراق في عصر الإمبراطوريّة"؛ إذ كان لدى الألمان فكرة، لا تختلف كثيراً عن المهمّة الفرنسيّة الحضاريّة، مفادها أنّه تمّ تكليفهم بمهمّات خاصّة لنقل الثقافة إلى الآسيويّين غير المُستنيرين. وفي نهاية القرن التّاسع عشر، كانت اللّغة الألمانيّة وتأثيرها أكبر من تأثير أيّ دولة أوروبيّة أخرى. لم يحدث هذا التطوُّر من خلال المستوطَنات الألمانيّة فحسب، بل من خلال المستوطَنات اليهوديّة أيضاً. وفي الحالة الأخيرة، أكَّد الباحثُ الألماني هانز رود أنّه: "بالإضافة إلى المستوطَنات الألمانيّة، كان العنصر اليهودي في فلسطين قادراً على نشرِ اللّغة والثقافة الألمانيّة. وينبغي منْحُها الاهتمام المناسب. إنّ علاقات ألمانيا مع الصهيونيّة، هي في مصلحة ألمانيا". أمّا مارتن هارتمان، الذي زار فلسطين في 1912 - 1913 فقال:
"إنّ الألمانيّة تتحرَّك في الشرق بطريقتها الصامتة الهادئة؛ فهي لا تدّعي احتكار تعليم أهل الشرق وتدريبهم، ولا تريد خلْق الظروف التي يُمكن أن تَخدم تنفيذ مخطّطات شوفينيّة. عندما قال الناس: من بلغراد إلى بغداد، فإنّ اليهود مثَّلوا جسراً للّغة الألمانيّة والثقافة الألمانيّة. ربّما يكون هذا بعيد المنال إلى حدٍّ ما. لكنّ الحركة اليهوديّة الكبيرة، التي استقرَّت في فلسطين، يُمكنها أن تخلق مادّةً فعّالة [يُبنى عليها] بكلّ معنى الكلمة. ويُمكننا أن نثقَ بالقادة القائلين إنّه إلى جانب المساعي القوميّة اليهوديّة في فلسطين - والتي تمثِّل أولويّة بالنسبة إليهم - سيتمّ تعزيز المصالح الألمانيّة. ستُراقِب حكومة الإمبراطوريّة والجمهور الألماني أنشطةَ المؤسّسات التي سيكون لها طابع وشخصيّة ألمانيّة وفقاً لإدارتها والمُعلّمين العاملين هناك". وخلال الحرب العالميّة الأولى، "أعفت ألمانيا مُمثّلي الصهيونيّة الألمانيّة في برلين وإسطنبول ويافا من الخدمة العسكريّة؛ وتمتَّع الصهاينة غير الألمان، الذين أصبحوا أكثر نفوذاً من الصهاينة الروس، بالحصول على الدّعم الألماني في أوروبا وفي الإمبراطوريّة العثمانيّة".
*مؤرِّخ وأستاذ جامعي من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.