كم هي الأفكار التي كانت محرمة وأصبحت اليوم مشروعة، بل ويمارسها ذات المعارضين بأنفسهم! فالديموقراطية كانت كفرا لدى البعض إلى ما قبيل نجاح الثورة المصرية، ثم أصبحت المشاركة واجبة في يوم وليلة!

كنت أقرأ كتابا للدكتور غازي القصيبي رحمه الله يرد فيه على بعض من اتهمه بالعلمانية في التسعينيات، وبغض النظر عن تلك الأحداث والوقائع؛ فقد تعجبت أن عددا من تلك النقاط التي اتُّهم بها أصبح اليوم مشايخُ ينادون بنفس تلك الأفكار التي لم تتجاوز بعض المسائل الاجتهادية والتي فيها خلاف بين العلماء! وتبيّن - لي على الأقل - أن المسألة في جملتها هي خطأ في الفهم أو ربما عدم ثقة!
بعد عاصفة الاستعمار لمعظم البلاد الإسلامية؛ دخلت إلى ثقافتنا العديد من المصطلحات الجديدة التي لم تكن معهودة قبل ذلك، ومنها العلمانية والليبرالية ثم في الجانب الآخر الإخوانية والتحرير والسرورية والجهادية وغير ذلك. إلا أن الحقيقة أن المصطلحين الأولين ليسا في السعودية كحالتهما في غيرها، البلد الذي لم تدخله العلمانية ولا الليبرالية حقيقة! حيث الدولة تحكم بالشريعة ولله الحمد، والناس في معظمهم محافظون.
عند طرح هذا الموضوع الحساس يساورني الكثير من القضايا والإشكالات، وفي ظل التنافر وعدم الرغبة من البعض في الحوار والتفاهم الهادئ لا تزال تتعمق مشاكلنا خصوصا من الجهلة والمتطرفين من الجانبين.
يأتي الجانب المصنَّف بأنه علماني (وإن كانت هذه العبارات تحتاج إلى تعريف دقيق ونقاش) ويقول عنه الإسلاميون بأنه يُقصيهم ويحاول أن يتجاهلهم أو أن يضرب آراءهم ببعض، خاصة في المرحلة السابقة قبل دخول الإنترنت والفضائيات، بينما يجيبون بأنكم أنتم تمارسون نفس الممارسة في المنابر الإعلامية الخاصة بكم! ثم إنه بمتابعة ما يكتبه بعض الكتاب عن الإسلاميين؛ قد تجد الكثير من التجنّي وعدم الإنصاف، والبعض يحاول إما بقصد أو بجهل أن يمزج بين التيارات ويُحمّل طرفا نتيجة أفعال وأخطاء طرف آخر مثل تصرفات الحركات التكفيرية مثلا. كما أن التيارات الموصوفة بالعلمانية كثيرا ما تُتهم بعلاقات مشبوهة بالأطراف الأجنبية، وقد حصل في بعض الدول المجاورة أن كان أغلب من ساعد الطرف الأجنبي هم أبناء تلك التيارات! كما أن وقوف بعض المنابر الإعلامية المحسوبة على هذا التيار مع الغزو الأميركي للعراق كان عاملا كبيرا لتزايد هذه الشبهة. إلا أنه حتى من غير الأخلاقي أن يتخذ البعض لهذه الأمور مطرقة على رأس كل من يخالفهم الرأي!
وإذا نظرنا إلى التيار المقابل، فإننا نجد مشاكل أخرى، حيث العديد من الأفكار التي عقّدها الجمود الفكري والفقهي بالتقليد، وأصبح البعض يردد أفكارا قديمة قد لا تنطبق على عصرنا أو أن هناك خطأ في فهم الوقائع ومن ثمَّ تكييفها الفقهي أيضا! وكم هي الأفكار التي كانت محرمة وأصبحت اليوم مشروعة، بل ويمارسها ذات المعارضين بأنفسهم! والسبب هو الخطأ في الفهم والتسرع في الحكم. فقد كانت الديموقراطية كفرا بشكل مسلّم لدى البعض، إلى ما قبيل نجاح الثورة المصرية، ثم أصبحت المشاركة واجبة في يوم وليلة! وأصبح سراب الديموقراطية أملاً لدى البعض! إذاً كيف تفسر مثل هذا التغير السريع الذي ربما بُذل العديد من الجهود لأجل محاربة هذه الفكرة ثم في أيام ينقلب الرأي! أم أنه حلال علينا وحرام على بلابله الدَّوح!
الحقيقة أن العديد من الأفكار التي كانت محل أزمة بين التيارين المتضادين هي في حقيقتها أزّمها التطبيق والفهم التقليدي لها! وإلا فبالحوار والتجرّد بالتفكير في العديد من تلك الخلافيات ربما يتجاوز الطرفان الكثير من الخلاف! ثم إن استخدام مطرقة السلطة من بعض المحسوبين على التيار الأول - كما يفهمه الطرف الآخر - أو استخدام الآخرين للمنابر الدينية لأجل الأفكار الأيديولوجية مما يُعقد المشكلة ويجعلها مستعصية الحل! ويجب أن تبقى السلطة والدين خارج الصراعات الفكرية، طالما لم تتجاوز الاجتهاديات إلى المسلَّمات الحقيقية؛ وإلا فإن الضحية هو المجتمع والبلد بأسره، وبالتالي ما يُخَلّفه هذا الصراع أيضا من تخلف وتشنّج في فكر المجتمع وثقافته.
أعود وأقول إنه يُخطئ البعض عندما يأتي ويريد من بلد هو محضن الإسلام ووطنه الأول، ويريد منه أن يكون كالمجتمعات المنفتحة غير المسلمة، كما ويُخطئ البعض الآخر عندما يريد أن يكون البلد في عصر الانفتاح والحضارة سجنا وحصارا باسم الدين! فالشعب لا يريد الانحلال والخروج عن تعاليم الإسلام، كما لا يريد أن يخنقه البعض بأفكار واجتهادات مغلوطة تتغير كل يوم!
الحقيقة أن الموضوع له أبعاد وجوانب كثيرة، وربما من التسطيح أن نظن القضية سهلة وبسيطة، إلا أن الحوار والتفاهم مع الحكمة والعقل وتقديم المصلحة العليا للبلد وقبلها مصلحة الحفاظ على الدين سيؤدي إلى تجاوز الكثير من العقبات والمشاكل، خاصة مع صفاء النية والتجرد في التفكير، والله الهادي إلى سواء السبيل.