مجاهد عبدالمتعالي

أتعاطف مع المفكر السياسي القدير الدكتور توفيق السيف في مقالاته بالشرق الأوسط، والتي تدل على صبر وسعة بال وحكمة وبعد نظر مبنية على «التطبع والتربية الذاتية»، فملامحه الحادة تدل على العكس تمامًا، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على صرامة في «تربية الذات على السمو الفكري».

ويكفي القارئ أن يستعيد لقاءاته ومواجهاته المتلفزة مع بعض المقتاتين على الذحل الطائفي ليرى كم كان السيف «جنتلمان» رجولة ونبلاً وحكمة أمام القاصرين عن مفهوم المواطنة الذي يحاول طرحه السيف في معظم اشتغالاته بحكم همه الوطني الصادق منذ نشأته في بيئة عززت بداخله سؤال المواطنة أمام «الهويات القاتلة/أمين معلوف»، ولهذا أكاد أقول إن مشروعه الفكري يدور في فلك هذا المفهوم، ومن الاختزال المخل أن نتوهم «سؤال المواطنة» كسؤال عابر يكفيه كتاب أو مقال، فهو سؤال الحداثة الأول كمفهوم يشمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وحتى الثقافي بالمعنى الشامل للإنسان وحقوقه في العصر الحديث.

أتعاطف مع الدكتور توفيق السيف منذ زيارتي اليتيمة لمنزله الكريم بالقطيف قبل أكثر من سبع سنوات لأسباب من أهمها: قاعدته العلمانية الصلبة على المستوى الفكري، لكنها ليست علمانية لائكية بالمفهوم الفرنسي، بل علمانية متدينة أقرب للمفهوم الإنجليزي، وثانيًا تجربة سياسية ناضجة من المعارضة «دون إنشقاق» إلى المصالحة «دون ذوبان»، وأخيرًا سبب «ذاتي» يعود إلى ما نشأت عليه من أوراق أجدادي الشافعية التي جعلتني أغبط قبل ثمانية عشر عامًا أحد أفراد أسرة الزواوي الحجازية، وهو يحكي ما يعيشونه من التزام خاص بالمذهب الشافعي حتى الآن، حيث إن أحد أجدادهم هو مفتي الشافعية الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الزواوي الإدريسي الحسني الشافعي، كان عضوًا في مطلع عام 1345هـ بمجلس الشورى برئاسة الأمير فيصل بن عبدالعزيز «النائب العام»، وبعضوية 12 شخصًا اختارهم الملك عبدالعزيز جميعًا، ومن ضمنهم الشيخ عبدالرحمن الزواوي، كل هذا أعاد لي الذاكرة إلى مقال قديم كتبته في هذه الجريدة بعنوان «شافعية الجنوب أيام زراعة البن».

كل هذه المقدمة ليعرف القارئ سبب شعوري بالتقاطع مع أمثال توفيق السيف والقائمة تطول لتشمل كل من يؤمن بالتعددية الثقافية لدولة تبلغ مساحتها (2.150.000 كم2 وهي أضعاف مساحة المملكة المتحدة، بريطانيا/ 243.610 كم2)، فجزء مني بدوي خالص عندما أستعيد حكايات والدي عن تنقلاته صغيرًا مع قافلة الجمال ما بين جيزان ورجال ألمع وأبها، وكيف أن الإبل أنواع، فالجمل الخبتي/ نسبة إلى الخبت، ترتعد فرائصه عندما يصعد بحموله إلى جبال تهامة الحجاز في رجال ألمع فيبدأ دور الإبل الجبلية لينقلوا عليها الأحمال التي كانت على ظهور القافلة الخبتية، وهناك نوع ساحلي يستطيع السير بالأحمال على سباخ الملح الزلقة وهكذا، وهذه التفاصيل تهم من كان يستخدم الإبل كوسيلة نقل، وربما لا يعرفها الآن من يتخذها للزينة والتفاخر.

أقول: جزء مني بدوي بسبب التقاطع مع حكايا والدي فيما قبل وسائل السفر الحديثة، وجزء مني حضري حجازي وأنا أقرأ في أحد كتب عبدالله عبدالجبار أن الحجاز يمتد جنوباً إلى وادي تثليث «راجع التيارات الأدبية الحديثة/ الفصل الثاني»، ثم أجد تأكيد ذلك في كتاب «افتراق العرب» لهشام بن محمد الكلبي المتوفي (204هـ) ص26، 24 حيث قسم أقطار جزيرة العرب إلى خمسة أقسام.

وأوضح أن مكة من تهامة، والحجاز يبدأ جنوبًا من تثليث مستشهدًا ببيت شعر لهبيرة بن عمرو يقول آخره: «وشهران من أهل الحجاز وواهب»، بالإضافة إلى استشهاده ببيت شعر لطرفة يضع تبالة وبيشة أعلى الحجاز، ولهذا فعبارة الروائي والشاعر أحمد أبو دهمان تتجاوز الدلالة البلاغية لتتقاطع مع الحقيقة التاريخية عندما يصف المنطقة فيقول: «هي حجاز اليمن، ويمن الحجاز» راجع مقال أحمد أبو دهمان بجريدة الرياض «أبجدية الرحيل»، ولا أنسى طفولتي عام 1981، ووالديّ يقولان ونحن في منزلنا بخميس مشيط: تجهزوا يا أولاد سنطلع «نقتفر أمبلاد في الحجاز»، ويقصدون بالاقتفار: النظر للمكان وتتبع ما حصل فيه، وأمبلاد يعني البلاد، حيث يسمون المصاطب الزراعية بلد وجمعها بلاد، وتَجمُّع البيوت الحجرية يسمونها أموطن/الوطن، والجهة المقصودة في الحجاز هي قرية أمقصيَّر في السودة، لكن مع التقدم العمراني تغيرت أشياء ومسميات كثيرة.

أما سبب الطابع الحضري/المدني الذي أشعر به فهو ما أجده في حكايا أهل عسير الجبلية من أنهم عند القحط لا يعمدون إلى الغزو، بل يعمدون إلى التكسب بتأجير قوة عملهم اليدوية في مواسم الحصاد على جهات أكثر وفرة في الزراعة جهة سراة الحجاز أو تهامة الحجاز، وقد يصل بهم المسير قديمًا إلى ساحل تهامة وصولاً إلى بيش التي يلقبونها «بيش العيش» لأنها خصبة عند قحط غيرها، ومقابل ما يبذلونه من عمل اليد يحصلون على جزء مقدر من حبوب الحصاد، وأقصى ما يقترفونه جنائيًا في هذا المجال هو سرقة شاه أو قطع عذوق الحب في أنصاف الليالي ليتم معاقبة الجاني بصفته فرد بغرامة متعارف عليها بين القبائل الجبلية، الحساسية الوحيدة والشديدة جدًا تكمن في حدود البلاد «القطع الزراعية» و«الحدود القبلية» فقط، وهي ثابتة معروفة من مئات السنين، ولا يوجد معنى للغزو الجماعي «الغارة الجاهلية للسلب والنهب».

وهذا ما يتوافق مع السرديات التاريخية لقوافل الحجاج القادمة من صنعاء إلى مكة والتي تمر بجبال الحجاز «سراة وتهامة» حاملة البن والقشر لتمارس التجارة بيعًا وشراءً في الأسواق الأسبوعية للقرى الريفية التي على طريقها إلى مكة دون خوف أو قلق باستثناء ما ورد تاريخيًا عن هجوم مفاجئ جهات قرى بللسمر، حيث دافعت قبائل بللسمر عن قافلة الحجاج ضد هذا الطارئ المستهجن في جبال الحجاز سراة وتهامة، مما جعل حتى بعض الصحف العربية آنذاك (1923) تتحدث عنه لغرابته وخروجه عن المألوف.

أقول هذه التقميشات التي استرسلت معها لأهميتها التاريخية التي جعلت البعض يتوهم عسير امتداد لليمن السياسي لأسباب إدارية عثمانية/تركية في نظام «السناجق» ثار عليها العسيريون سياسيًا طيلة تاريخهم، ولم يتذمروا منها لغويًا «اليمن تعني الجنوب، والشام يعني الشمال في حديثهم اليومي عن الجهات الأربع للشرق والغرب والشمال والجنوب»، ومثلها نظام السناجق العثماني الذي جعل «ولاية البصرة» تمتد إلى بعض النواحي الوسطى لجزيرة العرب، وللحديث بقية.