لموسيقى البلوز تاريخ (فكرة) تمثَّلت باضطهاد العبيد في أمريكا. هذا الأمر يُمكن أن يكون مدخلا مهمًا للتفكير في سؤال: هل للأغنية السعودية تاريخ / فكرة، نقلها من التشتّت العام الفردي الموازي لتشتّت جغرافية المكان قبل التوحيد وتحولاته الحِقبيّة، إلى طورٍ يُمكن معه أن تُسمى (الأغنية السعودية)؟
أذكر أنَّ لمحمد عبده تصريحين (يكادان) أن يكونا متناقضين، الأول قوله إذا أردنا أن نُوثِّق للأغنية السعودية فمن طلال مداح نبدأ، وإذا أردنا توثيقًا للموسيقى السعودية فالبدء بطارق عبد الحكيم. والتصريح الثاني وصفه لنفسه أنَّه مؤسس الأغنية السعودية.
والسؤال: ما الفكرة الناظمة التي تجعل من أغنية ما، أغنيةً سعودية؟
هذه المقالة تطرح السؤال ولا تدّعي شيئا إلا أنها تفكر بالكتابة عن مفاتيح تستخدمها، وتحاول أن تضع نقاطها فوق حروف المتعة الغنائية لخيّاطَيْ الأغنية السعودية طلال ومحمد. وأول المفاتيح وبهجتها طلال مداح؛ الذي أعدّه أول ناظم خيط غنائي مرتبط بتاريخ المملكة وتحولاته. لكن كيف يُجَرَّد من نتاجه تاريخًا للفكرة السعودية التي تطورت مع تطور الدولة؟ يمكن التفكير بأبرز فكرة فاصلة في تاريخ الجزيرة وهي التوطين والتحديث، ومن معانيها: (أن يُوطَّنَ إنسان الجزيرة ليتمكن من التحديث)، وما فعله طلال بنقل الأغنية المتمذهبة إلى طور (الكَبْلهة) هو تحديث بعد توطين، وما كان لطلال أن يفعل ذلك لولا تحولات حديثة في المكان نفسه. وتحديث طلال يشبه حداثة الشعر التي دخلت على الجزيرة من حيث الامتدادات الداخلية والخارجية، وهو ما يلتقي مع تحديث بدر بن عبد المحسن للشعر العامي من مصادر خارجية، وهذا الأمر يجعل لمفهوم الأغنية السعودية دلالات متعددة، قد تُفسّر التضاد في تصريح محمد عبده، حيث كان محمد مهمومًا بالتوثيق الجزيري من داخل تاريخه القديم وتحديثه، لكنه استفاد من طلال مداح في نوعية التحديث الخارجي، وهذا ما يجعل المقالة ترى بأن طلال مداح فنان ذاتي يُعنى بالتغيير الذي يمس تحولاته هو، لا موضوع المكان المترامي الأطراف. إلا أن هذا المس الذاتي يطور شكل الأغنية إلى وعي جديد بالضرورة بحكم مكانة طلال المركزية. أما محمد عبده فهو المفتاح الثاني وهو فنان موضوعي، من حيث إن أغانيه تمثل الأرض المترامية، وهموم المراحل التي عبرت بها السفينة الكبرى، وهو فنان ذاتي من حيث شخصيته المزدوجة: الظالم والمظلوم، الفقير والغني، المعتزل والمخالط، القديم والحديث، البدوي والحضري، ويمكن أن يُضاف إليها الرصين والهبيل، المبدع والمسف، لا قدحًا في الفنان محمد عبده، بل ذكرًا لما استقر في الأذهان؛ جراء المناوشات الدائمة حول محمد. وقد تتلمذ حس محمد الفني على من سبقوه ومنهم طلال مداح، وهو من هذه الجهة يأتي تاليًا في تأسيس الأغنية السعودية، أما الجهة الموضوعية التي ارتبطت بالمشروع المشترك مع خالد الفيصل وبدر بن عبد المحسن فإن لها توجيها آخر، قد يعطي الأولوية لمحمد في تأسيس الأغنية السعودية، ولا أدري ما المفتاح المناسب لها؟
يمكن أن نستخدم التوطين والتحديث مرة أخرى ولكن من داخل الأغنية بوصفها موضوعًا لهما، أي توطين الأغنية السعودية بمعنى توثيقها المؤسساتي، وتحديثها يعني تطويرها المقيد بتاريخها كما هو، وتأخذ مسارين: مسار اجتماعي نفسي يغوص في ذاتية محمد عبده المزدوجة، ومسار ديني اجتماعي سياسي يتعلق بموضوعات البُنى المتغيرة في تشكيل الدولة الحديثة. وهنا أعود لما بدأت به المقالة، وهو موسيقى البلوز التي هي صوت تاريخ اضطهاد العبيد في تطور آهاته وأوجاعه، حتى استوى على سوقه ممثلًا لموسيقى غربية خاصة، ولا أظنّ أن نفسية محمد تبعد كثيرا عن الآهات والأوجاع الذاتية الوطنية، فهو في زمن ما بلحظة واحدة أذّن وغنى الألحان الوطنية واعتزل ليلحن القصائد الحديثة كأنشودة المطر والطين، ويقرأ القرآن، ويخرج مع الناس متفائلا بإنهاء الغزو العراقي، وما إن تغرب الشمس حتى يعود متشائمًا متذبذبا ليدوزن الروح بريشة الفنان. هذا التضاد ترتديه الذات الإنسانية؛ لتفهم نفسها أولا، ولتفهم عملها ثانيا، وليس لنا لنفهمه في سياق الأغنية السعودية إلا أن هذه الذات تشرّبت خصيصة جامعة لأفراد الجزيرة بأطيافهم ومشاربهم، وتزعم المقالة أنها التصوف الإحساني، وهو متعلق بما جاء في الحديث: «إِن الله كتب الإحسان على كل شيء»، وهو مفسر في حديث آخر: «أن تعبد الله كأنك تراه»؛ ليخلص من مجموعها معنى يستحضره أفق إنسان الجزيرة، وهو عبادة الله بالمحبة الكلية، وذاك هو الفرق بين الإنعام والإحسان؛ إذ الأول لا يُفهم إلا بالتفضل على الغير، أما الإحسان فهو على النفس أيضا، ومهما بَعُدت الشُقّة بين جهات المكان المترامي وقبائله إلا كان هذا الجامع آسِرًا، ومن عبادة الله الآهات الإحسانية التي صرخ بها بلال الحبشي ليحرر النفس؛ فتحولت إلى أذان في مسجد المدينة، وآهات عبيد أفريقيا التي تحولت إلى موسيقى البلوز، وآهات محمد عبده التي تحولت إلى أذان من نوع موسيقي جزيري، ويمكن أن نتأملها مع المسار الثاني بوصفها آلام الجزيرة وآفاقها، ومن موافقات هذا الأمر أن سمّى محمد عبده مؤسسته (صوت الجزيرة).
المساران الذاتي والموضوعي يلتقيان في المشروع الغنائي الذي (نفترض) أن محمد عبده يقصده لما قال: «أنا مؤسس الأغنية السعودية»، ومن هنا رأينا الأسس التي شكلت الدولة السعودية -كالدين والقيم الاجتماعية العامة للنسيج القبلي والعائلي، والتغيرات السياسية، والثقافة الشعبية لكل منطقة- تَمثَّلت في القوالب الغنائية التي اعتنى بها محمد عبده، وفي مضامين الكلام المُغَنّى، وفي الإضافات الموسيقية على ما هو خارجي بعد تأويله جزيريًا، كأنشودة المطر وغيرها.
وفي المقالة القادمة سأكتب ما يتجلى في النفس عن موسيقى البلوز وعلاقتها بموسيقى جزيرية صنعتها الشخصية المزدوجة.
أذكر أنَّ لمحمد عبده تصريحين (يكادان) أن يكونا متناقضين، الأول قوله إذا أردنا أن نُوثِّق للأغنية السعودية فمن طلال مداح نبدأ، وإذا أردنا توثيقًا للموسيقى السعودية فالبدء بطارق عبد الحكيم. والتصريح الثاني وصفه لنفسه أنَّه مؤسس الأغنية السعودية.
والسؤال: ما الفكرة الناظمة التي تجعل من أغنية ما، أغنيةً سعودية؟
هذه المقالة تطرح السؤال ولا تدّعي شيئا إلا أنها تفكر بالكتابة عن مفاتيح تستخدمها، وتحاول أن تضع نقاطها فوق حروف المتعة الغنائية لخيّاطَيْ الأغنية السعودية طلال ومحمد. وأول المفاتيح وبهجتها طلال مداح؛ الذي أعدّه أول ناظم خيط غنائي مرتبط بتاريخ المملكة وتحولاته. لكن كيف يُجَرَّد من نتاجه تاريخًا للفكرة السعودية التي تطورت مع تطور الدولة؟ يمكن التفكير بأبرز فكرة فاصلة في تاريخ الجزيرة وهي التوطين والتحديث، ومن معانيها: (أن يُوطَّنَ إنسان الجزيرة ليتمكن من التحديث)، وما فعله طلال بنقل الأغنية المتمذهبة إلى طور (الكَبْلهة) هو تحديث بعد توطين، وما كان لطلال أن يفعل ذلك لولا تحولات حديثة في المكان نفسه. وتحديث طلال يشبه حداثة الشعر التي دخلت على الجزيرة من حيث الامتدادات الداخلية والخارجية، وهو ما يلتقي مع تحديث بدر بن عبد المحسن للشعر العامي من مصادر خارجية، وهذا الأمر يجعل لمفهوم الأغنية السعودية دلالات متعددة، قد تُفسّر التضاد في تصريح محمد عبده، حيث كان محمد مهمومًا بالتوثيق الجزيري من داخل تاريخه القديم وتحديثه، لكنه استفاد من طلال مداح في نوعية التحديث الخارجي، وهذا ما يجعل المقالة ترى بأن طلال مداح فنان ذاتي يُعنى بالتغيير الذي يمس تحولاته هو، لا موضوع المكان المترامي الأطراف. إلا أن هذا المس الذاتي يطور شكل الأغنية إلى وعي جديد بالضرورة بحكم مكانة طلال المركزية. أما محمد عبده فهو المفتاح الثاني وهو فنان موضوعي، من حيث إن أغانيه تمثل الأرض المترامية، وهموم المراحل التي عبرت بها السفينة الكبرى، وهو فنان ذاتي من حيث شخصيته المزدوجة: الظالم والمظلوم، الفقير والغني، المعتزل والمخالط، القديم والحديث، البدوي والحضري، ويمكن أن يُضاف إليها الرصين والهبيل، المبدع والمسف، لا قدحًا في الفنان محمد عبده، بل ذكرًا لما استقر في الأذهان؛ جراء المناوشات الدائمة حول محمد. وقد تتلمذ حس محمد الفني على من سبقوه ومنهم طلال مداح، وهو من هذه الجهة يأتي تاليًا في تأسيس الأغنية السعودية، أما الجهة الموضوعية التي ارتبطت بالمشروع المشترك مع خالد الفيصل وبدر بن عبد المحسن فإن لها توجيها آخر، قد يعطي الأولوية لمحمد في تأسيس الأغنية السعودية، ولا أدري ما المفتاح المناسب لها؟
يمكن أن نستخدم التوطين والتحديث مرة أخرى ولكن من داخل الأغنية بوصفها موضوعًا لهما، أي توطين الأغنية السعودية بمعنى توثيقها المؤسساتي، وتحديثها يعني تطويرها المقيد بتاريخها كما هو، وتأخذ مسارين: مسار اجتماعي نفسي يغوص في ذاتية محمد عبده المزدوجة، ومسار ديني اجتماعي سياسي يتعلق بموضوعات البُنى المتغيرة في تشكيل الدولة الحديثة. وهنا أعود لما بدأت به المقالة، وهو موسيقى البلوز التي هي صوت تاريخ اضطهاد العبيد في تطور آهاته وأوجاعه، حتى استوى على سوقه ممثلًا لموسيقى غربية خاصة، ولا أظنّ أن نفسية محمد تبعد كثيرا عن الآهات والأوجاع الذاتية الوطنية، فهو في زمن ما بلحظة واحدة أذّن وغنى الألحان الوطنية واعتزل ليلحن القصائد الحديثة كأنشودة المطر والطين، ويقرأ القرآن، ويخرج مع الناس متفائلا بإنهاء الغزو العراقي، وما إن تغرب الشمس حتى يعود متشائمًا متذبذبا ليدوزن الروح بريشة الفنان. هذا التضاد ترتديه الذات الإنسانية؛ لتفهم نفسها أولا، ولتفهم عملها ثانيا، وليس لنا لنفهمه في سياق الأغنية السعودية إلا أن هذه الذات تشرّبت خصيصة جامعة لأفراد الجزيرة بأطيافهم ومشاربهم، وتزعم المقالة أنها التصوف الإحساني، وهو متعلق بما جاء في الحديث: «إِن الله كتب الإحسان على كل شيء»، وهو مفسر في حديث آخر: «أن تعبد الله كأنك تراه»؛ ليخلص من مجموعها معنى يستحضره أفق إنسان الجزيرة، وهو عبادة الله بالمحبة الكلية، وذاك هو الفرق بين الإنعام والإحسان؛ إذ الأول لا يُفهم إلا بالتفضل على الغير، أما الإحسان فهو على النفس أيضا، ومهما بَعُدت الشُقّة بين جهات المكان المترامي وقبائله إلا كان هذا الجامع آسِرًا، ومن عبادة الله الآهات الإحسانية التي صرخ بها بلال الحبشي ليحرر النفس؛ فتحولت إلى أذان في مسجد المدينة، وآهات عبيد أفريقيا التي تحولت إلى موسيقى البلوز، وآهات محمد عبده التي تحولت إلى أذان من نوع موسيقي جزيري، ويمكن أن نتأملها مع المسار الثاني بوصفها آلام الجزيرة وآفاقها، ومن موافقات هذا الأمر أن سمّى محمد عبده مؤسسته (صوت الجزيرة).
المساران الذاتي والموضوعي يلتقيان في المشروع الغنائي الذي (نفترض) أن محمد عبده يقصده لما قال: «أنا مؤسس الأغنية السعودية»، ومن هنا رأينا الأسس التي شكلت الدولة السعودية -كالدين والقيم الاجتماعية العامة للنسيج القبلي والعائلي، والتغيرات السياسية، والثقافة الشعبية لكل منطقة- تَمثَّلت في القوالب الغنائية التي اعتنى بها محمد عبده، وفي مضامين الكلام المُغَنّى، وفي الإضافات الموسيقية على ما هو خارجي بعد تأويله جزيريًا، كأنشودة المطر وغيرها.
وفي المقالة القادمة سأكتب ما يتجلى في النفس عن موسيقى البلوز وعلاقتها بموسيقى جزيرية صنعتها الشخصية المزدوجة.