وفاء البوعيسي

وفاء البوعيسي

باعتبارنا كائنات اجتماعيّة، لدينا جميعاً حاجات أساسيّة تتعلّق بالحبّ والأمان والانتماء. ولا يزال هذا مطبوعاً في نظامنا العصبيّ على ما أظنّ. وقد يكون من طبيعة الأنثى الرغبة الواضحة في الاهتمام والمُراعاة والتهدئة والبكاء بالتحديد، كمُتنفّسٍ جيّد وصحّيّ، إذ لا يوجد شيء خاطئ أبداً في ذرْفِ الدمع. فلماذا بربّكم لا يكون الأمر كذلك للرجال؟

في عالَمنا العربيّ، تظلّ دموع الرجال غير مريحة، حتّى في هذا العالَم الضاغط الذي يسحق الفرد ويهدر كرامته ويُعرِّض حياته للفوضى، إلى حدٍّ يكاد يكون من الصعب تصديق أنّهم لا يبكون بانتظامٍ كلّ يوم. ثمّة أجيالٌ متعاقبة من الرجال لم تذرف الدَّمعَ منذ الطفولة، ولو جاء البكاء كردِّ فعلٍ طبيعي على حَدَثٍ سعيد أو لحظة فخرٍ في حياة أحد أفراد العائلة؛ أو لحالةِ حزنٍ أو خوفٍ تتعلّق بمشكلةٍ صحيّة تؤثِّر على شخصٍ عزيز. والأسوأ من ذلك على الإطلاق، أنّ الواحد منهم لم يبكِ قطّ أمام امرأة تزوَّجها. وهذا شيء غير صحّي على الإطلاق.

فكرة التعبير عن المشاعر بالبكاء تُعَدّ في مُجتمعاتٍ كثيرة علامة ضعف، ولاسيّما إِذا صدرت عن الرجال. وهي ناتجة عن موقفٍ مُتجذّرٍ في التوقُّعات الثقافيّة والمُجتمعيّة المُحيطة بأدوار الجنسَيْن والقوالب النمطيّة المصمَّمة لكلٍّ منهما. وهناك معتقدات تقليديّة حول الكيفيّة التي ينبغي أن يتصرَّف بها الرجالُ والنساءُ في الظروف الصعبة؛ حيث يُتوقَّع من الرجال الالتزام بسماتٍ خاصّة مثل القوّة والصلابة وضبْط النَّفس العاطفي. ويُعتبر البكاء انحرافاً عن تلك المعايير، إذ تُحدِّد الثقافةُ الذكوريّةُ عموماً للرجل متى يَحزن وكيف يتصرَّف في أوقاته العصيبة، ويُعَدّ البكاء فيها مسموحاً عند موت الأصول والفروع. ولا بأس أن يذرف الدَّمع (القليل جدّاً منه يكفي) ثمَّ له أن يُرسِل لحيته ويُهمِل هندامه بضعة أيّام ليعود ويستأنف حياته من جديد.

الكبْت العاطفي

وهذا ليس شيئاً يخصّ عالَم الشرق الذكوري فقط. ففي بريطانيا مثلاً، اختار شابٌّ التنكُّرَ في قناعٍ يُظهر رجلاً يبكي في عيد الهالوين، فكان ذلك الزيّ هو الأكثر رُعباً على الإطلاق. إذ تسبَّب في صراخ الأطفال وسخرية الرجال وهُم يسألونه إن كان قد داهمه الحيض فجأة. وبعض النساء تقيَّأنَ جرّاء الصدمة.

وفي الولايات المتّحدة، أدلى كهلٌ بتصريحٍ للإعلام، يُفيد بأنّه لم يبكِ مُذ كان في الحادية عشرة من عمره؛ وقد عبّر عن خوفه من أنّه قد يجهش بالبكاء عند مُشاهدة مقطع فيديو عاطفي، أو رؤية غروب الشمس على الشاطئ. وأنّه قد لا يتمكّن من التوقُّف بعد ذلك أبداً. لهذا كان الكهل يحمل معه زجاجةً من الكحول طوال الوقت ليستطيع استكمال حياته من دون أن يتعرَّض للاستهزاء.

وعلى ما يبدو أنّ كلّ تلك الأجيال من الرجال (شرقاً وغرباً) قد استوعبت الرسائل المفروضة عليها منذ الطفولة، وهي أنّ «الأولاد لا يبكون»، وأنّ النساء يزدرين الرجل الذي يستسلم لمشاعره الطبيعيّة حدّ البكاء. وبعد كلّ هذه القرون من الكبْت العاطفي للرجال المحرومين من تسريح دموعهم، تحوَّل الكثير منهم إلى قشرة شخص مكبوتة وسريعة الانفعال. ولفترةٍ طويلةٍ من حياتي، انتبهتُ إلى القلق الذي يحمله الرجالُ تجاه مسألة البكاء أمام نسائهم بالذّات، لأنّهم يخشون أن يبدو الأمر كما لو أنّه ضعفٌ في رجولتهم. كما انتبهتُ إلى أنّ الرجال الذين لا يتمكّنون من البكاء تعبيراً عن مشاعرهم، عادةً ما يُواجهون صعوبةً في فَهْمِ مشاعر الآخرين، بغضّ النّظر عن مدى رغبتهم في ذلك.

مُفاجأة بريني براون

عودة للمرأة التي تزدري دموع رجلها، سيُفاجئنا كتاب «Daring Greatly» (الجرأة العظيمة) للكاتبة Brené Brown (بريني براون)، الذي تناولت فيه دراسةَ الفارقَ في كيفيّة شعور الرجال والنساء عندما يتعلَّق الأمر بالبكاء. وأنّه وإن كانت المرأة في الثقافة الذكوريّة تُعاني اضْطهاداً من النظام الأبوي، إلّا أنّ سيّدات كثيرات لم يتورَّعن عن إدامة الجانب المُظلم من النظام الأبوي، من خلال إرسال رسائل خزي وتوبيخ للرجل الذي يذرف دموعه أمامهنّ.

في المقابلات التي أجرتها براون، كان الرجال يتحدّثون عن كيف كانت النساء ينتقدْنهم باستمرار لكونهم غير مُنفتحين وغير حسّاسين على الإطلاق؛ وكيف كنَّ يتوسَّلْنَ إليهم للسماح لهنّ بالتعرُّف إلى سريرتهم، كي يكشفوا عن مَخاوفهم. لكن عندما تحلّى الرجال بالشجاعة الكافية للقيام بذلك وبكوا أمامهنّ، كانت الرسالة التي تلقّوها من النساء هي: «لا أستطيع تحمُّل ضعفكَ». «عليك أن تكون رجلاً». «ماذا أَبقيتَ لابنتكَ الصغيرة»؟

وثمّة نسوة عبَّرنَ عن خوفهنّ من أنّ رؤية الأبناء الذكور لأبائهم باكين ومنهارين سيَجعلهم أطفالاً ناعمين وسيُعرِّضهم للتنمُّر، وأنّ على الرجال مُقاوَمة ضعفهم وسحْق خيباتهم لئلّا يتحوّلوا إلى رجالٍ ضعفاء، لأنّ هذا بالذات ما ينبغي أن يفعله الرجال الأقوياء.

حسناً يَجدر بالمرأة سواء أكانت شرقيّة أم غربيّة أن تَعلم أنّه لا يُمكن لأيّ أحد، حتّى شريكها، أن يُخْدِّر مشاعره بشكلٍ انتقائي، أو أن يُلقي غطاءً على أحزانه، أو حتّى أن يصنع سقفاً لقدرته على الشعور بالبهجة. علاوةً على ذلك، فالحزن مثل السعادة وسائر المشاعر الأخرى تماماً، هو مجرّد طاقة مسجونة نحتاج إلى تحريرها. وهُما معاً، السعادة والحزن، ليسا شيئاً نخجل منه أو نحتاج إلى إخفائه.

فرصة لتعلُّم كيفيّة الحبّ

إنّ رؤية الشريك ينهار باكياً تظلّ تذكيراً رائعاً بأنّه يشعر بالعمق نفسه الذي تشعر به المرأة في نفسها، بل أكثر منها. هذا لأنّ المرأةَ كان قد سُمح لها تاريخيّاً بتصريف أحزانها وإحباطاتها عبر البكاء والشكوى. أمّا الرجل، فلم يتمّ تشجيعه على الوصول إلى تلك الأقانيم الإنسانيّة العميقة في نفسه البتّة، بل جُبل على مقاومتها وقمْعها والتبرّؤ منها، بسبب الرسائل القاسية التي تلقّاها طوال فترة نشأته.

ومن الجميل جدّاً هنا أن يشهد الاثنان معاً على عرضٍ قويّ للإنسانيّة الحقيقيّة بينهما، وأن يَمنحا نفسيهما فرصةً لتعلُّم كيفيّة الحبّ والدَّعم بشكلٍ أفضل. وعندما يبكي رجلٌ أمام امرأة، يجب استقبال بكائه كشرفٍ كبير، لأنّه يُظهر لها أنّه لا يَثِق بقلبه فحسب، بل يثق أيضاً بنفسه كرجلٍ قادرٍ على إظهار مشاعره. فالرجل الذي تحرَّر من فكرة احتقار البكاء هو أبعد ما يكون عن الضعف، بل هو في الحقيقة رجل شجاع. بل إنّ بُكاءه هو المدخل إلى العلاقة الحميمة مع المرأة، وبمجرّد فتْح ذلك الباب للرجل، يُمكن للمرأة الدخول إليه ورؤية مَن يكون من الداخل حقّاً.

إنّ تعبير الرجل عن مشاعره الإيجابيّة والسلبيّة من خلال البكاء، ينبغي أن يُشعِر المرأة بمزيدٍ من الأمان في وجوده، لأنّها ستعرف على أيّ مستوىً هو كان قادراً تماماً على الاتّصال بمشاعره العاطفيّة الداخليّة، وكَم سيكون قويّاً بما يكفي للتعبير عمّا في دخيلته. ولأنّ دموعه قد نجحت في اجتياز ذلك الضغط المفروض عليه، وحتّى هذه اللّحظة تطلَّبت شجاعة كبيرة منه. وشخصيّاً أعتقد أنّ ثمّة قوّة وجمالاً في الاستسلام للبكاء عموماً، لكنّ استسلام الرجل له هو شيء بالغ الجمال. كما أنّ بكاءه يَحمل إحساساً بالمسؤوليّة أكثر بكثير ممّا يحمله بكاء المرأة. ورجل كهذا هو الأكثر جدارة بالثقة من غيره (طالما كان صادقاً وحقيقيّاً ولا يتلاعب ببكائه) لأنّ بكاءه أمام المرأة سيُظهر لها كم أنّه يُتقن نفسه، لدرجة أن يُواجه معها كلّ ما لديه من مصاعب تاريخيّة وصولاً لإنسانيّته. كما يُظهر أنّه على استعداد لمشاركتها المزيد والمزيد من نفسه. وأنّه يثق بها بدرجةٍ كافية ليَكشف لها عن نفسه بشكلٍ كامل.

علاقةٍ صوريّة

لكن يحدث كثيراً بين النساء أن تكون المرأة غير مرتاحة لبكاء الرجل، حدّ أن تنعته بالضعف أو تنفي عنه رجولته. وامرأة كهذه ستَجعل الرجل يشعر بعدم القدرة على أن يكون نفسه أمامها، ولن يستطيع أن يعبِّر لها عن أحاسيسه براحة. وغالباً ما كان افتقار المرأة للتعاطُف أكثر إزعاجاً وألَماً للرجل من الشعور الذي أدّى إلى إظهار دموعه أمامها في المقام الأوّل. وقد يؤدّي ذلك إلى خلْق حلقةٍ مفرغةٍ بين شخصَيْن يذرفان الدَّمع والمَشاعر والكلمات والعواطف، وهُما عالقَان في علاقةٍ صوريّة من دون روح أو حبّ.

أخيراً، إّن قمْعَ عواطف الرجال‏ تمشّياً مع التعسّف الذكوري، ‏لهو سبب مهمّ في ارتفاع إحصاءات الانتحار والاغتصاب والقتل، وإذا لم نسمح لتلك العواطف الطبيعيّة بأن تكون على سجيّتها، فإنّها ستتحوّل إلى بركانٍ لا يُمكن التحكُّم بانفجاراته. وكم أتمنّى أن أشهد على وجود تحوُّلٍ مجتمعيٍّ إنسانيٍّ عالمي، لا يُنظر فيه للبكاء (بخاصّة للرجال) على أنّه ضعفٌ أو خنوثةٌ أو نِتاج لاضْطرابٍ هرموني، بل النَّظر إليه على حقيقته البسيطة جدّاً، وهو كونه مجرّد إطلاق العنان لمشاعر فوّارة، منها المُحزن ومنها المُفرح، ما يعني أن تكون علاقاتنا أقوى، وفهمنا لأنفسنا أعمق.

*كاتبة وروائيّة من ليبيا

* ينشر بالتزامن مع دورية افق الإلكترونية.