حين كتب سارتر روايته الغثيان، سمّاها في أول الأمر (تأملات في الصدفة) فأي علاقة بين الصدفة والغثيان؟! هل هو شرب الإنسان لصدفَةِ وجوده حَدّ الغثيان؟ ربما الأهم من الإجابة إثبات أن هناك علاقات غريبة، كغرابة عنوان هذه المقالة، ولهذا لابد من سؤال: ما معنى أن أقول لأحدهم: رب صدفة خير من ألف ميعاد، مع أنَّ ثمة سببًا جعلنا نلتقي في المكان والزمان ذاته؟ فلو خرجتُ من بيتي قاصدًا المكتبة العامة، وخرجت امرأة اسمها فاطمة للفعل ذاته، فالتقينا وتعرفنا، ثم توطدت علاقتنا لدرجة العشق، فسنقول عن علاقتنا: (إنها صدفة تعقدت). ثمة غاية حكمت رغبتينا من الذهاب للمكتبة، وكانت وسيلة هذه الغاية: الذوق والرأي والمزاج. وهذا ما سَوّغ قولنا: (صدفة).
والسؤال: هل إذا كانت الأسباب ظاهرة كان اللقاء ميعادًا، وإذا كانت باطنة كان صدفة؟ ربما هي هكذا، مما يعني أن الأسباب واحدة، لكن حين يظهرها الإنسان بوعيه يفتخر قائلًا إنها ميعاد، وحين يخفق في إظهارها يُسمّيها صدفة. إذن: الصدفة هي الميعاد المجهول، وقد عَرَّفَت بعض المعاجم الفلسفية الصدفة بأنها ( اتفاق مجهول العلة).
هنا تصل المقالة إلى سؤال: لماذا جعل الإنسان الصدفة تضاد الميعاد مع أنها ميعاد جُهِلت أسبابُه؟ ربما لأنَّ غاية أفعال الإنسان في الدنيا يحكمها وعيٌّ ما، فيُسوغ عقله مفهوم الصدفة ويجعله متضادًا مع الميعاد، ومن حِكَم الناس قديما: «وبضدها تتميز الأشياء»؛ ومن معاني ذلك أن لو أزلنا التضاد لن يُميَّزَ شيء من شيء، وسيهلك الإنسان، وأنَّى لهذا المتكبر الجاهل أن يعترف بالتِّيْه. إذن هل لسلطة الوعي الذاتي دور في هذا الأمر، أي أن ما يخالفها لابد أن يكون مضادًا؟ لو صح هذا السؤال فإننا حين (نموت) سنقابل الصدفة الحقيقيةَ، أو الصدفةَ كما هي، لا كما نضعها في قواميسنا الإنسانية الواعية. أي أنَّنا سنُقابل الصدفةَ صدفة، وهذه المرة لن تكون الصدفة بأسباب وإلا لرجعنا إلى خندق الدنيا، ألا ترى القرآن يقول: (يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار)؟
وحين تكون هذه المقالة قد بدأت حديثها بالغثيان وصدفة الوجود مع سارتر، فإنها تُنهيها بالغثيان وصدفةٍ من صُدف ما بعد الموت، مع مقاتل بن سليمان الأزدي، وهو يصف مَقِيلَ أهل النار قائلا: فيأخذهم الغثيان وهو أخف العذاب.
التفاتة:
سألني صديق قديم -كقدم الصدفة ربما- بعد حوار: هل السؤال عن أصلِ الصدفة هو طريق للهرب من الصدفة نفسها؟ فللوهلة الأولى شَعرت أنَّ سؤاله يتعلق بالولادة التي أُعد لها العدة، لكنها تتوقف عند اختيار النطفة المحددة. إلا أنَّ هذا الصديق الخبيث انقض علي لمديح الصدفة قائلا: الصدفة فنانة الوجود التي ترسم كل شيء بقلم لا يملكه أحد، فكلما خالفنا قلم الصدفة جاءت الأحداث نصًا مهترئًا.
والسؤال: هل إذا كانت الأسباب ظاهرة كان اللقاء ميعادًا، وإذا كانت باطنة كان صدفة؟ ربما هي هكذا، مما يعني أن الأسباب واحدة، لكن حين يظهرها الإنسان بوعيه يفتخر قائلًا إنها ميعاد، وحين يخفق في إظهارها يُسمّيها صدفة. إذن: الصدفة هي الميعاد المجهول، وقد عَرَّفَت بعض المعاجم الفلسفية الصدفة بأنها ( اتفاق مجهول العلة).
هنا تصل المقالة إلى سؤال: لماذا جعل الإنسان الصدفة تضاد الميعاد مع أنها ميعاد جُهِلت أسبابُه؟ ربما لأنَّ غاية أفعال الإنسان في الدنيا يحكمها وعيٌّ ما، فيُسوغ عقله مفهوم الصدفة ويجعله متضادًا مع الميعاد، ومن حِكَم الناس قديما: «وبضدها تتميز الأشياء»؛ ومن معاني ذلك أن لو أزلنا التضاد لن يُميَّزَ شيء من شيء، وسيهلك الإنسان، وأنَّى لهذا المتكبر الجاهل أن يعترف بالتِّيْه. إذن هل لسلطة الوعي الذاتي دور في هذا الأمر، أي أن ما يخالفها لابد أن يكون مضادًا؟ لو صح هذا السؤال فإننا حين (نموت) سنقابل الصدفة الحقيقيةَ، أو الصدفةَ كما هي، لا كما نضعها في قواميسنا الإنسانية الواعية. أي أنَّنا سنُقابل الصدفةَ صدفة، وهذه المرة لن تكون الصدفة بأسباب وإلا لرجعنا إلى خندق الدنيا، ألا ترى القرآن يقول: (يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار)؟
وحين تكون هذه المقالة قد بدأت حديثها بالغثيان وصدفة الوجود مع سارتر، فإنها تُنهيها بالغثيان وصدفةٍ من صُدف ما بعد الموت، مع مقاتل بن سليمان الأزدي، وهو يصف مَقِيلَ أهل النار قائلا: فيأخذهم الغثيان وهو أخف العذاب.
التفاتة:
سألني صديق قديم -كقدم الصدفة ربما- بعد حوار: هل السؤال عن أصلِ الصدفة هو طريق للهرب من الصدفة نفسها؟ فللوهلة الأولى شَعرت أنَّ سؤاله يتعلق بالولادة التي أُعد لها العدة، لكنها تتوقف عند اختيار النطفة المحددة. إلا أنَّ هذا الصديق الخبيث انقض علي لمديح الصدفة قائلا: الصدفة فنانة الوجود التي ترسم كل شيء بقلم لا يملكه أحد، فكلما خالفنا قلم الصدفة جاءت الأحداث نصًا مهترئًا.