هادي اليامي

تتوالى الصفعات القانونية التي تتلقاها دولة الاحتلال الإسرائيلي خلال الفترة الأخيرة على خلفية المجازر المتواصلة التي ترتكبها قواتها ضد المدنيين في قطاع غزة، وانتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي والأعراف والمعاهدات الدولية والتي كانت سببًا مباشرًا في تصاعد حدة الإدانات الدولية لهذا النظام المارق.

لم تكد حكومة تل أبيب اليمينية المتطرفة تفيق من الصدمة التي تلقتها في الأمم المتحدة عندما صوتت الأغلبية الساحقة لصالح منح فلسطين العضوية الكاملة للمنظمة الدولية، حتى دعا مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه، وهي التوصية التي أفقدت دولة الاحتلال صوابها وطفق مسؤولوها يوجهون شتائمهم البذيئة بحق المحكمة وقضاتها، ثم فاجأتهم محكمة العدل الدولية وهي تصدر قرارها بضرورة الوقف الفوري لخطط الاعتداء على رفح، وكان هذا القرار التاريخي بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.

هذه الانتصارات القانونية التي حقّقها الفلسطينيون خلال الفترة الماضية تثبت أن الحقوق تظل ثابتة في ملفات المنظمات الدولية وفي وجدان الأمم، حتى وإن أخفتها دوافع السياسة وضغوطات المصالح الذاتية فسوف تبرز من جديد، وأنه مهما حاول العدو الإسرائيلي طمس الحقائق وتغييبها إلا أن نور الشمس لا يمكن أن يحجبه غربال مهترئ.

كما توضح بجلاء حجم العزلة الدولية التي تعيشها تل أبيب نتيجة لسياساتها المتعجرفة واستعلائها على العالم، وتراجع الدعم الذي كانت تتمتع به في السابق نتيجة لكثير من الأكاذيب التي ظلت تكررها وادعائها المظلومية ومزاعمها بأن العرب والمسلمين معتدون يريدون حرمانها من الوجود. كما لجأت تل أبيب لاستخدام أوراق دينية وعرقية للحصول على الدعم الغربي، مثل معاداة السامية واستهداف اليهود.

وأكبر دليل على المحنة التي يعيشها الاحتلال، إضافة إلى الهزائم القانونية التي تلقاها، هو تلك المظاهرات الحاشدة التي تشهدها جامعات الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول الكبرى، حيث ظلت تلك المؤسسات التعليمية التي تصنع قادة المستقبل موالية لإسرائيل حتى وقت قريب، لكن الموقف تغير بمقدار 180 درجة بعد أن شاهد العالم أجمع قسوتها في التعامل مع المدنيين العزل، وكيف أن طائراتها تستهدف الأطفال الأبرياء والشيوخ والنساء وتحرمهم من الحصول على الغذاء وتدمر مستشفياتهم ودور عبادتهم.

هذا التغيّر الأخير في المواقف دفع بعض دول العالم إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب، وحفّز دولًا أخرى على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فيما أكدت دول أخرى أنها تعتزم السير على ذات الطريق.

ربما يعتقد البعض أن قرارات الشرعية الدولية تظل عديمة الفائدة ودون أثر لأن إسرائيل لن تنفذها وهذا غير صحيح، فتلك القرارات تمثّل مصدر ضغط هائل عليها لأن بقية دول العالم سوف تنفّذها وهو ما أعلنته ألمانيا التي أكدت أنها ستقوم بتوقيف نتنياهو ووزير دفاعه وتسلمهما لمحكمة الجنايات إذا قاما بزياتها، رغم أنها من الدول القلائل التي ما زالت تقف بجوار إسرائيل.

حتى داخل الولايات المتحدة التي تعرف بأنها الحليف التاريخي لإسرائيل والتي تدعمها بالسلاح والأموال والمواقف السياسية المنحازة في دوائر صنع القرار العالمي فقد دعا العديد من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ إلى تغيير طريقة التعامل مع تل أبيب ووقف الدعم الأمريكي فورًا، مشيرين إلى أن أموال دافعي الضرائب تستخدم في إبادة المدنيين وانتهاك القانون الدولي.

الآن أمام الدول العربية والإسلامية فرصة تاريخية لتفعيل هذه القرارات وتوظيفها لخدمة القضية الفلسطينية عبر التوجّه مجددًا نحو مجلس الأمن الدولي ومطالبته بالاعتراف بدولة فلسطين، ولا شك أن تجديد هذا المطلب سيضع الولايات المتحدة في موقف محرج ربما يدفعها للامتناع عن استخدام حق الفيتو. وحتى إذا أقدمت على استخدامه فإن النتيجة ستكون المزيد من اعترافات الدول الأخرى بفلسطين وإدانة إسرائيل بوصفها كيانًا مارقًا ومطاردًا أمام المحكمة الجنائية الدولية.

كما تكمن خطورة هذه القرارات الدولية المناوئة لتل أبيب في أنها ستشكّل بالتأكيد عائقًا دون مواصلة كثير من الدول والمؤسسات العالمية الوقوف إلى جانبها، فالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال سيجد صعوبة كبيرة بعد الآن في تقديم المساعدات لإسرائيل.

وتبقى الإشارة إلى أن هذه المكاسب القانونية والدبلوماسية هي ثمار لجهود عملية ومدروسة قادتها السعودية لحشد المجتمع الدولي إلى جانب الفلسطينيين، واستخدمت فيها مكانتها المرموقة ووظّفت لها التقدير الكبير الذي يجده قادتها في كافة المحافل الدولية، حيث كان التحرك مدروسًا وبعيدًا عن الارتجال والعشوائية.

وبذلت الدبلوماسية السعودية جهودًا كبيرة لحث دول العالم على الوقوف إلى جانب الفلسطينيين، وأجرى وزير الخارجية سمو الأمير فيصل بن فرحان اتصالات مكثفة بنظرائه وقادة البرلمانات وخاصة في أوروبا لتحقيق هذه الغاية. كما كان لرئاسة السعودية للجنة الوزارية التي شكّلتها القمة العربية أثر كبير في نجاح أعمال اللجنة، فكان التناغم كبيرًا والتنسيق واضحًا في أعمالها مما أهلها لتحقيق هذا النجاح.

وتبدو المعضلة القانونية التي تواجه إسرائيل بارزة في أن القرار يدعو كذلك إلى إعادة فتح معبر رفح أمام دخول المساعدات إلى القطاع، وأن تضمن إسرائيل وصول أي لجنة تحقيق دولية لتقصي الحقائق بشأن تهم جرائم الحرب والإبادة الجماعية بالقطاع، وأن تلتزم بتقديم تقرير للمحكمة خلال شهر عن الخطوات التي ستتخذها.

كذلك فإن المحكمة الدولية التي عادة لا تعدّل في قراراتها المتعلقة بالتدابير الوقائية إلا في حالات استثنائية، فعلت ذلك هذه المرة بما يمثل سابقة، حيث أشارت إلى أن الظروف تقتضي تغيير القرار الذي أصدرته في 28 مارس الماضي، وهو ثاني قرار يلزم إسرائيل باتخاذ تدابير طارئة لضمان حماية المدنيين والامتثال لمعاهدة منع الإبادة الجماعية، وهو ما يمثل هزيمة قانونية مكتملة الأطراف للكيان المحتل.