محمود حيدر
لو كان من مُراجَعةٍ تقويميّة لصورة الغرب الحديث، سواء لجهة رؤيته لذاته أم للآخر، لكانت اللّحظة التاريخيّة الرّاهنة هي الأكثر تناسُباً ومُقتضيات هذه المهمّة. ومن مُعايَنةٍ إجماليّة لتلك الصورة، سنتبيَّن مدى ما وصلتْ إليه النّزعة الاستعلائيّة وإنكار الآخر في التفكير الغربيّ. أكثر من ذلك، فقد نتبيَّن مَشهداً يُرينا ضرباً من عقدة «نفس/ حضاريّة» بدا شفاؤها أدنى إلى المستحيل.
ولكي نقترب من مقصدنا، سنمضي إلى استقراء ما ظَهَرَ من تنظيراتٍ أَفرطتِ الحداثةُ عبرها بتمجيدِ ذاتها حتّى التقديس. مبتدأ المعضلة يظهر في التأسيس الفلسفي لعصر التنوير. ويصحّ أن نقول إنّها ظهرتْ مع الكوجيتو الديكارتي الذي أَسّس للحداثة بِنيانَها الأنطولوجي وهندستَها المعرفيّة؛ ثمّ كان لها أن تمتدّ إلى مجمل مواريثها ولمَّا تنته تداعياتها إلى يَومنا الحاضر. أبرز ظواهر المعضلة أنّ الحداثات التي استورثتِ العقلانيّة الديكارتيّة وأقامتها دربةً لها لفَهْمِ العالَم، مضتْ بعيداً في التأويل والأدْلَجة لتنتهي إلى الفرديّة والنسبيّة والشكّ المعرفيّ بكلّ شيء، إلّا شكّ الأنا بوجودها من حيث إنّها تُفكّر. ولعلّ الربط الوثيق الذي أجراه ديكارت بين الأنا أفكّر والأنا موجود، سيؤدّي إلى رسوخِ أوّل تغطية فلسفيّة للنزعة الفرديّة في ثقافة الغرب الحديث. ربّما لهذا السبب وغيره، سيفقد «الكوجيتو» براءته المعرفيّة، إذ انسَلَكَ في ثنايا التفكير الأوروبي ليُنتِجَ ثقافةً إنكاريّة للإيمان الدّيني مقرونةً بنزعةِ الاستعلاء على كلّ آخر غير أوروبي. لقد سبقَ لبعض الذين نَقدوا تهافُت العقلانيّة الديكارتيّة كالفيلسوف الألماني فرانز فون بادر Franz Von Baader (1756-1841) أن بيَّن ذلك التهافُت بالحجّة الدامغة. لقد رأى إلى الـ «أنا» موجود (ergo sum) التي تلي «الأنا أفكّر» (Cogito) كتعبيرٍ صارخٍ عمًّن يريد أن يُظهر نفسَهُ بالتفكير والكينونة بمَعزل عن الخالِق. والنتيجة: انفلات الأنا من كلّ وازعٍ روحاني، واستبدادها سياسيّاً واجتماعيّاً بكلّ مَن يُغاير فرديّتها، ومَن لا يدخل تحت سلطانها. وبسبب من هذَيْن (الانفلات والاستبداد) تحوَّل الكوجيتو الديكارتي إلى انعطافةٍ أنطولوجيّة ومَعرفيّة نحو الأنا المُكتفية بذاتها، ليُصبح العالَم الحديث محكوماً إلى أنانيّتَيْن نَشأتا كتوأمٍ لا انفصام له: أنانيّة مقدِّسة للذات وأنانيّة مُدنِّسة للغَير. على حين كان الأثر المترتّب عنهما معاً في البناء الثقافي الغربي، ظهور ليبراليّة مُستعلية أَنشات نظاماً سياسيّاً واقتصاديّاً وإيديولوجيّاً في منتهى الأنانيّة والاستعلاء العنصري. جغرافيّات الشرق
استتباعاً لمَسار الاستعلاء على الغَير، لم يكُن حال الشرق، والشرق العربي الإسلامي على وجه الخصوص، مجرّد نظير جغرافيّ للغرب، وإنّما هو (بالنسبة إلى ميتافيزيقا الاستعلاء المُشار إليها) تحيُّزٌ جيو - ديني وحضاري ينبغي النَّظر إليه بارتيابٍ بوصفه خَصماً أو عدوّاً مُفترَضاً. ذاك ما أفادَ به التراث الاستشراقي الأوروبي الذي حَفَرَ سبيلَهُ بالتوازي مع صعود الحداثة وبداية تشكُّل مركزيّة الغرب. بَدت إجراءات المُستشرِقين – سوى ندرة منهم – كإعرابٍ جليٍّ عن مضمرات اللَّاهوت الكولونيالي. فلقد رأى إلى الشرق كنقيضٍ تكوينيٍّ للغرب، وابتنى وعيَهُ العرقيّ على قاعدةٍ أنثرو- فلسفيّة مؤدّاها أنّ كلّ عوامل التفوُّق المُتحقِّقة في الغرب، هي معدومة في الشرق. وما من شكٍّ أنّ مثل هذه الأطروحة، ستَجد ظهوراتها في ما نظَّر له جمعٌ من الفلاسفة وعُلماء الاجتماع حيال جغرافيّات الشرق والجغرافيا العربيّة - الإسلاميّة بوجهٍ خاصّ.
الاستعلاء كفلسفة سياسيّة
قد يكون فريدريك هيغل أحد أبرز فلاسفة الحداثة الذين نظّروا للإسلام كخصمٍ جيو – ديني مريبٍ للغرب المسيحي. في مُحاضراته التي ألقاها في العام 1831، تعدَّدت إشارات هذا الفيلسوف إلى الإسلام، لكنّه كان لا يزال بالنسبة إليه على هامش تاريخ الأديان، ويَصفه بأنّه دينُ التوحيد المحض والبساطة في الاعتقاد؛ إذ ينظر إلى الله بوصفه إلهاً مجرّداً وليس عيانيّاً، لكنّه ظلَّ في تصوّر هيغل مُحمَّلاً بشيءٍ من صفات الإله اليهودي. يرى هيغل أنّ بساطة المُعتقد الإلهي أدّت إلى ذيوعِ الإسلام بين شعوبٍ مُختلفة، بيد أنّ تجريد هذا المُعتقد وتعاليه قد أدّيا إلى استبعادِ السببيّة والاستدلال. كما أنّ هذا التجريد هو المسؤول عن نَبْذِ الإسلام للوسائط التشبيهيّة والتجسيميّة وتحريم التصوير التجسيمي، دَرءاً لمُشابهة أعمال الله. لكن في المقابل يَصف هيغل الإسلامَ بالخشوع والصوريّة، الأمر الذي أدّى في رأيه إلى غياب روح الحريّة، وشيوع الضرورة أو الجبر، والتعصّب، والرغبة في السيطرة على العالَم بالجهاد الحربي.
في حقبة ما بعد الحداثة، يَظهر تصوّر ماكس فيبر (Max Weber) حول «السوسولوجيا الخالية من القيَم» كامتدادٍ لهذه العقدة حيال الشرق. أَخَذَ فيبر بفَرَضيّةِ أنّ حقلَ إنتاج المعرفة، هو جزءٌ لا يتجزّأ من إنتاج الروابط السلطويّة في المُجتمعات الحديثة، ما يعني على وجه الدقّة، أنّ الحقلَ الذي تُنتِجُ فيه الحداثةُ مَعارفَها وقيَمَها هو نفسه الحقل الذي يَحكم استراتيجيّات السلطة الكولونياليّة في مَسارِ هَيْمَنَتِها المتعدّدة الألوان والمَضارب. الفرضيّة نفسها نَجدها أيضاً لدى الفرنسي ميشيل فوكو (Michel Foucault)، وإن لم تندرج في السياق العنصريّ نفسه. يرى فوكو أنّ ثمّة تلازُماً بين السلطة والمعرفة، فحيث لا يوجد علاقةٌ سلطويّةٌ من دون القانون المُلازم لحقلٍ معرفي، لا توجد معرفة لا تسلّم بالعلاقات السلطويّة وتشكّل هذه العلاقات في الوقت عَينه. يؤكِّد فوكو أنّ «السلطة تُنتِج معرفة»، فإحداهما تَحتاج الأخرى من أجل المُحافَظة على النظام الذي يَخدم السلطة والمعرفة معاً. فالتحالُف بين السلطة والمعرفة أدّى في العقل الحداثي الغربي إلى وجود آخرٍ جحيمي يُمكن أن يكون هو نفسه «المجنون»، و»المُجرم»، و»المُنحرِف». هذه الثلاثيّة من النعوت سوف تُخلع على الشرق كنقيضٍ حضاري للغرب، وبوصفه هذا الآخر الجحيمي الذي ينبغي محو ماهيّته الإنسانيّة وهويّته الحضاريّة. ويُمكننا من خلال مُعايَنة سيَر المناقشة هذه، أن نقول إنّ تصوُّر الغرب لذاته، كان مُرتبطاً مباشرةً، وبالضرورة، بالبنية المنحرفة المزعومة عن «الآخر». وما كان الاستشراقُ في هذا السياق، سوى ضربٍ من خطابٍ مؤلَّف من شبكةٍ من التصنيفات والجداول والمفاهيم التي يتمّ من خلالها تعريف الشرق والسيطرة عليه في الوقت عَينه.
لقد أَطلق توسُّع الغرب التاريخي موجاتٍ هائلة من التغطية الفلسفيّة والفكريّة، اجتمعتْ عناصرُها لتَستولد عصبيّةً أوروبيّة ذات جناحَيْن: الفرادة العرقيّة والاستعلاء الحضاري. وتأسيساً على هذه العصبيّة صيغت رؤية الغربيّ لكلّ ما هو غير غربيّ طبقَ ذهنيّةٍ «أغياريّة» لا ترى التنوُّعَ الإنساني إلّا كحقلِ اختبارٍ ومَسرح غَلَبة. لم ينأَ فلاسفة الحداثة، امتداداً إلى ورثتهم في حقبة ما بعد الحداثة، من تسويغ هذه الذهنيّة لتغدو أساساً علميّاً وفلسفيّاً «يُشَرْعِن» التفوُّقَ عبر التنظير لهرميّةٍ مزعومة تقوم عليها الحضارات البشريّة. ولا شكّ أنّ رسوخَ هذا البناء العرقي لهويّة الغرب، سيؤثِّر بعُمق على علاقته بباقي العالَم. فقد جاءت أطروحة «العالميّة المرآة» لتُرسِّخ في الوعي التاريخي للغرب نزعةَ الاستعلاء عبر ثلاثة مجالات: حقوق الإنسان، والتدخّل الإنساني، والاقتصاد. ففي إطار النموذج الحداثي الغربي تَكتسب عالميّةُ حقوق الإنسان شرعيّتَها بفعل السمة العالَميّة لمبدئها المؤسِّس الذي يَزعم أنّ العقل الغربي منذ التدوين اليوناني إلى الحداثات المُتعاقبة، هو العقل الذي يَنشر أنوارَه على العالَم كلّه، وكذلك الزّعم أنّ الحضارة الغربيّة هي المكان الوحيد والمتميِّز والحصري الذي تنبثق منه القيَم التي تُحدِّد المرحلة النهائيّة من التطوّر البشري. أمّا ترجمة هذا المبدأ، فقد جرى تسييلها عبر مسلَّمة مركَّبة مؤدّاها: الإيمان بعالميّة القيَم الغربيّة، والمُماثلة القطعيّة والتطابُق بين حقوق الإنسان وهذه القيَم.
ما لاحَظه إدوارد سعيد
وفقاً لهذه المسلَّمة، صار يُنظر إلى أيّ مُعارَضةٍ نقديّة لقيَم الحداثة، وما بعد الحداثة، على أنّها تشكيكٌ بعالَميّة حقوق الإنسان، وبالحريّات الفرديّة. بهذا المُقتضى أَمست العلاقةُ مع الشعوب الأخرى - التي زَعَمَ اللَّاهوتُ السياسي الغربي بأنّها علاقة تبشير بحضارة التنوير- جزءاً من عمليّة الأنْسَنة، ولو جَرَت وقائعها بالقوّة القهريّة. وسنرى كيف حوَّلَ غربُ ما بعد الحداثة نظريّةَ مقولة التدخّل الإنساني إلى أطروحةٍ إنقاذيّة تحت ذريعة الحروب العادلة. وما الحرب على الشعب الفلسطيني في غزّة اليوم على سبيل المثال، وقَبل ذلك على العراق وأفغانستان ومنطقة البلقان، سوى ترجمة عمليّة تُضفي الطّابعَ الإنساني على حروب الغرب المفتوحة على العالَم.
لقد كان للثقافة العنصريّة الإمبرياليّة دَورٌ حاسمٌ في تكوين التصوّر الغربي للإسلام والمُجتمعات الشرقيّة بوجهٍ عامّ. وهو ما لاحَظه إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» لمّا رأى أنّ السياسات الاستعماريّة والغربيّة المُعادية للإسلام، تشكَّلت بسبب التنميط الاستشراقي الذي استخدَمه الغربيّون كخطابٍ إخضاعي. لقد بَدأتِ الحداثةُ مشروعَها السوسيو - بوليتيكي في تكوين هويّةٍ أوروبيّةٍ أو غربيّةٍ منذ مطلع القرن السابع عشر في كلّ شيء: العقلانيّة، والديمقراطيّة السياسيّة، والفردانيّة؛ ناهيك بالعدميّة على مختلف أشكالها وتلاوينها.
وفي مقابل ذلك، كان ذلكم التجاهُل المُتعمَّد للتأثير غير الغربي، أي التأثير الشرقيّ في تراث الغرب. وكما عبَّر كنغ King «يبدأ كلّ تأريخ للفلسفة الغربيّة مع اليونانيّين، ويتجاهل أيّ تأثير إفريقيّ وشرقيّ على اليونانيّين القدامى. والأهمّ في هذا، هو غياب الإشارة إلى الدور الذي قام به «تراث الأسرار» المصري والشرقي في تشكيل المُقاربات والأفكار الفلسفيّة اليونانيّة.
مِن أظهر ما ترتَّبَ عن هذا الأُفق الاستعلائي، أن تموضَعت رؤية الحداثة الفلسفيّة على رؤية العرب والمُجتمعات الإسلاميّة بوصفها شرقاً مذموماً في تكوينه الحضاري. ولقد انبنَت على وضعيّةٍ كهذه إيديولوجيّةٌ صمَّاء تُفصِح عن غربٍ مُمتلئ بلاهوتِهِ ومزهوٍّ بحداثته، وشرقٍ هو بالنسبة إليها أدنى إلى مكانٍ فسيح لامتحان رغباتها.
*باحث في الفلسفة من لبنان
*ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.
ولكي نقترب من مقصدنا، سنمضي إلى استقراء ما ظَهَرَ من تنظيراتٍ أَفرطتِ الحداثةُ عبرها بتمجيدِ ذاتها حتّى التقديس. مبتدأ المعضلة يظهر في التأسيس الفلسفي لعصر التنوير. ويصحّ أن نقول إنّها ظهرتْ مع الكوجيتو الديكارتي الذي أَسّس للحداثة بِنيانَها الأنطولوجي وهندستَها المعرفيّة؛ ثمّ كان لها أن تمتدّ إلى مجمل مواريثها ولمَّا تنته تداعياتها إلى يَومنا الحاضر. أبرز ظواهر المعضلة أنّ الحداثات التي استورثتِ العقلانيّة الديكارتيّة وأقامتها دربةً لها لفَهْمِ العالَم، مضتْ بعيداً في التأويل والأدْلَجة لتنتهي إلى الفرديّة والنسبيّة والشكّ المعرفيّ بكلّ شيء، إلّا شكّ الأنا بوجودها من حيث إنّها تُفكّر. ولعلّ الربط الوثيق الذي أجراه ديكارت بين الأنا أفكّر والأنا موجود، سيؤدّي إلى رسوخِ أوّل تغطية فلسفيّة للنزعة الفرديّة في ثقافة الغرب الحديث. ربّما لهذا السبب وغيره، سيفقد «الكوجيتو» براءته المعرفيّة، إذ انسَلَكَ في ثنايا التفكير الأوروبي ليُنتِجَ ثقافةً إنكاريّة للإيمان الدّيني مقرونةً بنزعةِ الاستعلاء على كلّ آخر غير أوروبي. لقد سبقَ لبعض الذين نَقدوا تهافُت العقلانيّة الديكارتيّة كالفيلسوف الألماني فرانز فون بادر Franz Von Baader (1756-1841) أن بيَّن ذلك التهافُت بالحجّة الدامغة. لقد رأى إلى الـ «أنا» موجود (ergo sum) التي تلي «الأنا أفكّر» (Cogito) كتعبيرٍ صارخٍ عمًّن يريد أن يُظهر نفسَهُ بالتفكير والكينونة بمَعزل عن الخالِق. والنتيجة: انفلات الأنا من كلّ وازعٍ روحاني، واستبدادها سياسيّاً واجتماعيّاً بكلّ مَن يُغاير فرديّتها، ومَن لا يدخل تحت سلطانها. وبسبب من هذَيْن (الانفلات والاستبداد) تحوَّل الكوجيتو الديكارتي إلى انعطافةٍ أنطولوجيّة ومَعرفيّة نحو الأنا المُكتفية بذاتها، ليُصبح العالَم الحديث محكوماً إلى أنانيّتَيْن نَشأتا كتوأمٍ لا انفصام له: أنانيّة مقدِّسة للذات وأنانيّة مُدنِّسة للغَير. على حين كان الأثر المترتّب عنهما معاً في البناء الثقافي الغربي، ظهور ليبراليّة مُستعلية أَنشات نظاماً سياسيّاً واقتصاديّاً وإيديولوجيّاً في منتهى الأنانيّة والاستعلاء العنصري. جغرافيّات الشرق
استتباعاً لمَسار الاستعلاء على الغَير، لم يكُن حال الشرق، والشرق العربي الإسلامي على وجه الخصوص، مجرّد نظير جغرافيّ للغرب، وإنّما هو (بالنسبة إلى ميتافيزيقا الاستعلاء المُشار إليها) تحيُّزٌ جيو - ديني وحضاري ينبغي النَّظر إليه بارتيابٍ بوصفه خَصماً أو عدوّاً مُفترَضاً. ذاك ما أفادَ به التراث الاستشراقي الأوروبي الذي حَفَرَ سبيلَهُ بالتوازي مع صعود الحداثة وبداية تشكُّل مركزيّة الغرب. بَدت إجراءات المُستشرِقين – سوى ندرة منهم – كإعرابٍ جليٍّ عن مضمرات اللَّاهوت الكولونيالي. فلقد رأى إلى الشرق كنقيضٍ تكوينيٍّ للغرب، وابتنى وعيَهُ العرقيّ على قاعدةٍ أنثرو- فلسفيّة مؤدّاها أنّ كلّ عوامل التفوُّق المُتحقِّقة في الغرب، هي معدومة في الشرق. وما من شكٍّ أنّ مثل هذه الأطروحة، ستَجد ظهوراتها في ما نظَّر له جمعٌ من الفلاسفة وعُلماء الاجتماع حيال جغرافيّات الشرق والجغرافيا العربيّة - الإسلاميّة بوجهٍ خاصّ.
الاستعلاء كفلسفة سياسيّة
قد يكون فريدريك هيغل أحد أبرز فلاسفة الحداثة الذين نظّروا للإسلام كخصمٍ جيو – ديني مريبٍ للغرب المسيحي. في مُحاضراته التي ألقاها في العام 1831، تعدَّدت إشارات هذا الفيلسوف إلى الإسلام، لكنّه كان لا يزال بالنسبة إليه على هامش تاريخ الأديان، ويَصفه بأنّه دينُ التوحيد المحض والبساطة في الاعتقاد؛ إذ ينظر إلى الله بوصفه إلهاً مجرّداً وليس عيانيّاً، لكنّه ظلَّ في تصوّر هيغل مُحمَّلاً بشيءٍ من صفات الإله اليهودي. يرى هيغل أنّ بساطة المُعتقد الإلهي أدّت إلى ذيوعِ الإسلام بين شعوبٍ مُختلفة، بيد أنّ تجريد هذا المُعتقد وتعاليه قد أدّيا إلى استبعادِ السببيّة والاستدلال. كما أنّ هذا التجريد هو المسؤول عن نَبْذِ الإسلام للوسائط التشبيهيّة والتجسيميّة وتحريم التصوير التجسيمي، دَرءاً لمُشابهة أعمال الله. لكن في المقابل يَصف هيغل الإسلامَ بالخشوع والصوريّة، الأمر الذي أدّى في رأيه إلى غياب روح الحريّة، وشيوع الضرورة أو الجبر، والتعصّب، والرغبة في السيطرة على العالَم بالجهاد الحربي.
في حقبة ما بعد الحداثة، يَظهر تصوّر ماكس فيبر (Max Weber) حول «السوسولوجيا الخالية من القيَم» كامتدادٍ لهذه العقدة حيال الشرق. أَخَذَ فيبر بفَرَضيّةِ أنّ حقلَ إنتاج المعرفة، هو جزءٌ لا يتجزّأ من إنتاج الروابط السلطويّة في المُجتمعات الحديثة، ما يعني على وجه الدقّة، أنّ الحقلَ الذي تُنتِجُ فيه الحداثةُ مَعارفَها وقيَمَها هو نفسه الحقل الذي يَحكم استراتيجيّات السلطة الكولونياليّة في مَسارِ هَيْمَنَتِها المتعدّدة الألوان والمَضارب. الفرضيّة نفسها نَجدها أيضاً لدى الفرنسي ميشيل فوكو (Michel Foucault)، وإن لم تندرج في السياق العنصريّ نفسه. يرى فوكو أنّ ثمّة تلازُماً بين السلطة والمعرفة، فحيث لا يوجد علاقةٌ سلطويّةٌ من دون القانون المُلازم لحقلٍ معرفي، لا توجد معرفة لا تسلّم بالعلاقات السلطويّة وتشكّل هذه العلاقات في الوقت عَينه. يؤكِّد فوكو أنّ «السلطة تُنتِج معرفة»، فإحداهما تَحتاج الأخرى من أجل المُحافَظة على النظام الذي يَخدم السلطة والمعرفة معاً. فالتحالُف بين السلطة والمعرفة أدّى في العقل الحداثي الغربي إلى وجود آخرٍ جحيمي يُمكن أن يكون هو نفسه «المجنون»، و»المُجرم»، و»المُنحرِف». هذه الثلاثيّة من النعوت سوف تُخلع على الشرق كنقيضٍ حضاري للغرب، وبوصفه هذا الآخر الجحيمي الذي ينبغي محو ماهيّته الإنسانيّة وهويّته الحضاريّة. ويُمكننا من خلال مُعايَنة سيَر المناقشة هذه، أن نقول إنّ تصوُّر الغرب لذاته، كان مُرتبطاً مباشرةً، وبالضرورة، بالبنية المنحرفة المزعومة عن «الآخر». وما كان الاستشراقُ في هذا السياق، سوى ضربٍ من خطابٍ مؤلَّف من شبكةٍ من التصنيفات والجداول والمفاهيم التي يتمّ من خلالها تعريف الشرق والسيطرة عليه في الوقت عَينه.
لقد أَطلق توسُّع الغرب التاريخي موجاتٍ هائلة من التغطية الفلسفيّة والفكريّة، اجتمعتْ عناصرُها لتَستولد عصبيّةً أوروبيّة ذات جناحَيْن: الفرادة العرقيّة والاستعلاء الحضاري. وتأسيساً على هذه العصبيّة صيغت رؤية الغربيّ لكلّ ما هو غير غربيّ طبقَ ذهنيّةٍ «أغياريّة» لا ترى التنوُّعَ الإنساني إلّا كحقلِ اختبارٍ ومَسرح غَلَبة. لم ينأَ فلاسفة الحداثة، امتداداً إلى ورثتهم في حقبة ما بعد الحداثة، من تسويغ هذه الذهنيّة لتغدو أساساً علميّاً وفلسفيّاً «يُشَرْعِن» التفوُّقَ عبر التنظير لهرميّةٍ مزعومة تقوم عليها الحضارات البشريّة. ولا شكّ أنّ رسوخَ هذا البناء العرقي لهويّة الغرب، سيؤثِّر بعُمق على علاقته بباقي العالَم. فقد جاءت أطروحة «العالميّة المرآة» لتُرسِّخ في الوعي التاريخي للغرب نزعةَ الاستعلاء عبر ثلاثة مجالات: حقوق الإنسان، والتدخّل الإنساني، والاقتصاد. ففي إطار النموذج الحداثي الغربي تَكتسب عالميّةُ حقوق الإنسان شرعيّتَها بفعل السمة العالَميّة لمبدئها المؤسِّس الذي يَزعم أنّ العقل الغربي منذ التدوين اليوناني إلى الحداثات المُتعاقبة، هو العقل الذي يَنشر أنوارَه على العالَم كلّه، وكذلك الزّعم أنّ الحضارة الغربيّة هي المكان الوحيد والمتميِّز والحصري الذي تنبثق منه القيَم التي تُحدِّد المرحلة النهائيّة من التطوّر البشري. أمّا ترجمة هذا المبدأ، فقد جرى تسييلها عبر مسلَّمة مركَّبة مؤدّاها: الإيمان بعالميّة القيَم الغربيّة، والمُماثلة القطعيّة والتطابُق بين حقوق الإنسان وهذه القيَم.
ما لاحَظه إدوارد سعيد
وفقاً لهذه المسلَّمة، صار يُنظر إلى أيّ مُعارَضةٍ نقديّة لقيَم الحداثة، وما بعد الحداثة، على أنّها تشكيكٌ بعالَميّة حقوق الإنسان، وبالحريّات الفرديّة. بهذا المُقتضى أَمست العلاقةُ مع الشعوب الأخرى - التي زَعَمَ اللَّاهوتُ السياسي الغربي بأنّها علاقة تبشير بحضارة التنوير- جزءاً من عمليّة الأنْسَنة، ولو جَرَت وقائعها بالقوّة القهريّة. وسنرى كيف حوَّلَ غربُ ما بعد الحداثة نظريّةَ مقولة التدخّل الإنساني إلى أطروحةٍ إنقاذيّة تحت ذريعة الحروب العادلة. وما الحرب على الشعب الفلسطيني في غزّة اليوم على سبيل المثال، وقَبل ذلك على العراق وأفغانستان ومنطقة البلقان، سوى ترجمة عمليّة تُضفي الطّابعَ الإنساني على حروب الغرب المفتوحة على العالَم.
لقد كان للثقافة العنصريّة الإمبرياليّة دَورٌ حاسمٌ في تكوين التصوّر الغربي للإسلام والمُجتمعات الشرقيّة بوجهٍ عامّ. وهو ما لاحَظه إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» لمّا رأى أنّ السياسات الاستعماريّة والغربيّة المُعادية للإسلام، تشكَّلت بسبب التنميط الاستشراقي الذي استخدَمه الغربيّون كخطابٍ إخضاعي. لقد بَدأتِ الحداثةُ مشروعَها السوسيو - بوليتيكي في تكوين هويّةٍ أوروبيّةٍ أو غربيّةٍ منذ مطلع القرن السابع عشر في كلّ شيء: العقلانيّة، والديمقراطيّة السياسيّة، والفردانيّة؛ ناهيك بالعدميّة على مختلف أشكالها وتلاوينها.
وفي مقابل ذلك، كان ذلكم التجاهُل المُتعمَّد للتأثير غير الغربي، أي التأثير الشرقيّ في تراث الغرب. وكما عبَّر كنغ King «يبدأ كلّ تأريخ للفلسفة الغربيّة مع اليونانيّين، ويتجاهل أيّ تأثير إفريقيّ وشرقيّ على اليونانيّين القدامى. والأهمّ في هذا، هو غياب الإشارة إلى الدور الذي قام به «تراث الأسرار» المصري والشرقي في تشكيل المُقاربات والأفكار الفلسفيّة اليونانيّة.
مِن أظهر ما ترتَّبَ عن هذا الأُفق الاستعلائي، أن تموضَعت رؤية الحداثة الفلسفيّة على رؤية العرب والمُجتمعات الإسلاميّة بوصفها شرقاً مذموماً في تكوينه الحضاري. ولقد انبنَت على وضعيّةٍ كهذه إيديولوجيّةٌ صمَّاء تُفصِح عن غربٍ مُمتلئ بلاهوتِهِ ومزهوٍّ بحداثته، وشرقٍ هو بالنسبة إليها أدنى إلى مكانٍ فسيح لامتحان رغباتها.
*باحث في الفلسفة من لبنان
*ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.