لو سئلنا أن نصف المجتمع العربي المعاصر بكلمة جامعة تعبر في إيجاز ووضوح عن حالته الحاضرة، لوصفناه بأنه مجتمع (قلق)، ولأمدتنا الكلمة بمعان واسعة تشمل مختلف الجهات العملية والانفعالية والذهنية لهذا المجتمع. والقلق من وجهة النظر الاجتماعية نذير عاطفي يرفع صوته ليدلنا على أن جهة من حياتنا قد فقدت نقطة ارتكازها وبدأت تنهار. فهو أشبه بجرس خطر ترسله أعماقنا الصامتة وترمي به إلى إنذارنا. إننا نقلق، لأننا قد بدأنا نملك وعياً بحياة أسمى من الحياة التي نحياها، وكأننا قد بدأنا نتجزأ إلى كيانين أحدهما يدرك الحاضر والآخر يدرك مستقبلا حياً يجعله يقارن وينفعل ويبدأ بالاحتجاج. فالقلق ليس إلا رد فعل صحي نواجه به نقص حياتنا. إنه أشبه بالحمى التي يقابل بها الجسم الصحيح طلائع المرض المهاجم.
وهذا القلق يتخذ أشكالاً مختلفة، منها الشكل البسيط الذي يعانيه الأفراد على صورة توتر نفسي مستمر، ومنها
أشكال معقدة أبرزها ما سنسميه هنا بقلق المقاييس ونعني به تأرجح نظمنا وعدم ارتكازها إلى مستند نظري ثابت. فنحن إجمالاً قوم حائرون لا نملك آراء مستقرة ولا نثبت على خطط، وحتى إذا أتيح لنا أن نختار خطة عامة فسرعان ما نتركها قبل أن نبلغ النتيجة، وما هذا إلا لأننا ننظر إلى الموضوعات من مستويات متعددة تتجاذبنا فتتداخل أحكامنا وتتعدد ارتكازاتها. وليس أكثر ضياعاً من مجتمع يسمح لوجهات النظر المتعددة أن تنفذ إلى حياته. فالحياة ملأى بالمفاهيم المتناقضة وما من فكرة نؤمن بها، إلا وهناك فكرة معاكسة تعارضها. إن سلوكنا، في هذه الحالة، يفقد النقطة التي يمكن أن نقيسه وفقها، ولهذا لا يمكن أن نقيسه. وهو في هذا يشبه والسرعة، التي يستحيل أن نقيسها ما لم نملك نقطة ثابتة في مكان ما، فاذا لم يكن ثمة ثبات لم يمكن لنا قياس سرعة. وهذا الثبات المفقود في حياتنا بحر منا من أن نتمسك بأي حكم، فلكل قضية فيما يلوح لنا وجهان متعاكسان. ومن هذا التقلقل الفكري العام تنشأ الظاهرة الكبرى التي تتغلغل في حياتنا كلها. وهي الظاهرة التي تختار أن نسميها بالتجزيئية، ونقصد بها جنوحنا إلى عزل الظواهر عن بعضها ودراستها مفصولة وكأننا نفترض أن حياتنا تتكون من مجموعة من المجالات المتضاربة التي اجتمعت مصادفة في خليط. فنحن قد اعتدنا أن نلتقط من كل مستوى من مستويات الفكر نقطة نسلط عليها الضوء وندرسها معزولة عن سائر النقاط، فبدلاً من أن ندرس مشاكلنا باعتبارها محصلة لمختلف القوى، تعمل على عزل هذه القوى عزلاً قاطعاً فنتناول
اللغة وكأنها عنصر مفصول عن الدين، ونرى السياسة كياناً منفصلا عن قضايا الفن، ويخيل إلينا أن العلوم دائرة معارضة لدائرة الآداب. وهكذا تنتهي بنا كل دراسة إلى زاوية ضيقة نصدر منها أحكاماً مصطنعة تزيدنا حيرة وارتباكاً. والحق أننا نكاد ننسى أن حياتنا ليست في حقيقتها غير ترابط متين يشد هذه العناصر كلها في وحدة وثيقة، حتى تكاد كل ظاهرة أن تحتوي في عالمها الأصغر على صورة كاملة للظواهر الأخرى. أن بين مختلف العناصر التي تتألف منها حياة المجتمع علاقة تشبه قانون السبب والنتيجة، فكل عنصر إنما هو نتيجة للعناصر الأخرى وسبب لها أيضاً.
1957*
* شاعرة وكاتبة عراقية «1923 - 2007»