محمد السعد

لا يخفى علينا التأثير الكبير للفيلسوف الفرنسي فولتير في شريحة كبيرة من القراء والمثقفين العرب. وشهدنا في حقبة التسعينات وما بعدها انتشار اسمه بين كتاب الصحف والمنتديات الفكرية، وكيف كان يقدم في المقالات والأندية الأدبية باعتباره فيلسوفًا تنويريًا أدت أطروحاته الفكرية إلى فضح مؤسسة الكنيسة، وإماطة اللثام عن استغلال رجال الكنيسة لعامة الناس. وكيف صنعت تحولات فكرية واجتماعية ليس على مستوى فرنسا فحسب، بل على مستوى أوروبا بأكملها. هذه الصورة النمطية السائدة عن فولتير التي جعلت كثيرًا من المثقفين العرب يستلهمون تجربته، هي في الحقيقة صورة متخيلة وليست واقعية، صورة صنعتها الدعاية. وصراعه المحموم مع رجال الكنيسة، هو في الحقيقة صراع عقائدي ديني بالدرجة الأولى. فولتير وخلافًا للسائد عنه، كان يحمل معتقدات دينية رجعية أو بدائية إذا أردنا تحري الدقة.

دعونا نلقي نظرة سريعة على أحد أهم كتبه، (رسائل فلسفية) الذي يتضمن مجموعة من الرسائل تكشف عن معتقدات فولتير الدينية، وبسببها شن هجومه اللاذع على مؤسسة الكنيسة ورجالها، باعتبارهم خصومًا عقائديين. فلسفة فولتير تحمل مضامين عقدية طرحها في رسائله الفلسفية. فأول أربع رسائل في كتابه حملت عنوان (حول الكويكرية) والكويكرز هم أعضاء في مجموعة ذات جذور مسيحية نشأت في إنجلترا في خمسينيات القرن السابع عشر. والاسم الرسمي لهذه الطائفة اليوم هو جمعية الأصدقاء أو جمعية الأصدقاء الدينية. وفي رسائله يقدم فولتير طائفة الكويكرز الدينية بصورة جميلة وزاهية، بصورة الجماعة المتنورة والمتسامحة التي تؤمن بالمساواة بين البشر. في مقابل رجال الكنيسة الظلاميين وغير المتسامحين الذين يخدعون الناس ويحتكرون الحقيقة. وهنا يلعب فولتير دور رجل الدعاية والدعاية المضادة.

ما حقيقة طائفة الكويكرز وما طبيعة معتقدهم الديني؟ في الرسالة الثانية في كتاب فولتير، ترجمة عادل زعيتر، في النقاش الديني بين فولتير وأحد أعضاء جماعة الكويكرز يقول عضو الكويكرز: «إذا ما حركت عضوًا من أعضائك فهل تحركه بقوتك؟ كلا، لا ريب، لأن لهذا العضو في الغالب، حركات غير إرادية، ولذا فإن الذي خلق جسمك هو الذي يحرك هذا الجسم الفاني، وهل أنت الذي يكوِّن ما تتلقى نفسك من أفكار؟ كلا، وذلك لأنها تأتيك على الرغم منك، ولذا فإن خالق نفسك هو الذي يعطيك أفكارك، ولكن بما أنه ترك الحرية لفؤادك أعطى نفسك من الأفكار ما يستحق فؤادك، فأنت تحيا في الله، وفي الله تتحرك وتفكر، فما عليك، إذن، إلا أن تفتح عينيك لهذا النور الذي ينير جميع الناس حتى ترى الحقيقة».

في هذا الاقتباس من حديث عضو الكويكرز، نجد ملامح من عقيدة الحلول ووحدة الوجود، وأن الله يحل في مخلوقاته ويتحد معها. فطائفة الكويكرز يعتقدون أن الله موجود داخل كل شخص، ويؤمنون بالاتحاد الروحي مع الله، وأهم طقوسهم الدينية ما يعرف بتجربة التأمل الصامت التي تقودهم للحصول على الوحي مباشرة من الله دون واسطة. فقد شددت جماعة الكويكرز على التجارب الروحية الداخلية، وفي العصر الحديث لهم اجتماعات وملتقيات جماعية تسمح للأعضاء بالتواصل مع الله -كما يعتقدون- وعادة ما يجلس المصلون في حلقة دائرية حتى يتمكنوا من رؤية بعضهم البعض، ويمكثون في اجتماعاتهم الدينية في أوقات مطولة من الصمت الجماعي وكل فرد ينتظر أن ينال الإرشاد من الله مباشرة دون وسيط.

أن يخصص، فيلسوف بحجم تأثير فولتير، أربع رسائل متتالية كاملة لطائفة دينية صغيرة، ويبدي إعجابًا صريحًا واقتناعًا بطريقة اعتقادهم، فهذا يثير التساؤل عن العقائد المشتركة بين طائفة الكويكرز والفلاسفة في أوروبا، ومن خلالها يمكن معرفة طبيعة الفلسفة وتاريخها والسياقات الدينية والثقافية التي أنتجت معظم أفكار روادها البارزين عبر التاريخ. عقيدة وحدة الوجود، كما ذكرنا في هذا المقال وفي مقالات سابقة، عقيدة مهيمنة على أفكار الفلاسفة بصورة كبيرة، وبالتالي لا يمكن لنا فهم طبيعة الفلسفة وتاريخها الطويل دون أن نضعها داخل سياقها الصحيح وهو سياق عقيدة وحدة الوجود.