فاطمة المزيني

على هامش إحدى الفعاليات الثقافية تحدثت مع كاتب كبير، كانت المرة الأولى التي التقيه فيها وإن كنت أقرأ أطروحاته ورؤاه الفلسفية منذ زمن طويل، وكنت في ما سبق أصنفه كمفكر عبقري، وهذا بناء على ما قرأت من أعماله. لكنني حين تحدثت معه حديثًا مباشرًا تغيرت فكرتي عنه تمامًا، إذ بدا رجلًا تقليدي الفكر وضيق الأفق، اكتشفت مثلًا أن نظرته للمرأة كما يطرحها في كتاباته وتنظيراته مختلفة تمامًا عما يظهر عند تعامله مع المرأة في الواقع. لقد كنت في تلك اللحظة عقلًا متحفزًا ولم يكن هو أكثر من رجل!

دفعني هذا الموقف للتساؤل..

هل يعيش المثقف اليوم أزمة انفصام فكري؟ فتراه عقلًا خالصًا حين يكتب ويتجلى على الورق، ثم ما إن تلامس قدماه الأرض حتى يتأطر بالعادي، ويتقولب في البدائي، ويتموضع خلف أفضليته التي أسبغها المجتمع على نوعه لا على تجربته! والنتيجة هذه الكثرة من المثقفين الوظيفيين والشعراء الناظمين الذين يفتقرون للاستنارة الحقيقية المحركة للتاريخ.

المثقفون الجدد صنفان.. الأول متمكن من أدواته لكنه دوغمائي لم يتخلص من قيود التطرف الفكري وإن ادعى غير ذلك، أما الآخر فهم أولئك الذين خرجوا من عباءة العلوم الزائفة كالطاقة وتطوير الذات، ثم احتضنتهم دور النشر والمقاهي الثقافية. وكلا الصنفين بحاجة ماسة للتنوير.

لكن ما التنوير؟

لن أخرج عن تعريف الفيلسوف إيمانويل كانط للتنوير بأنه (الاستخدام الصحيح للعقل).

وكيف يكون الاستخدام الصحيح؟ يكون استخدامًا حرًا ناقدًا، أي دون توجيه من أي آخر سواء كان شخصًا أو مؤسسة أو سائدًا جمعيًا.

والتنوير فعل شجاع يحتاج للهمة والجرأة، التنوير ليس عملًا للجبناء والكسالى الذين يكررون ما يملى عليهم دون أن يزعجوا عقولهم التي تشيخ في رؤوسهم مبكرًا من ندرة الاستخدام.

كما أن التنوير ليس تصادميًا بطبيعته، بل هو حالة وعي قابلة للنمو من خلال تمحيص الأفكار والانفتاح على الجدليات مهما كانت معتقداتنا.

الثقافة أقوى عوامل التغيير الاجتماعي، بيد أنه لا يمكن أن يؤثر المثقف في المجتمع إيجابيًا إن كان هو نفسه يجسد الأنماط المجتمعية بحذافيرها. فتجده يرى العمل الثقافي باعتباره (أكل عيش) والمرأة على أنها (أنثى محتملة فقط)، ويغرق في وهم (النجومية) فلا يبقى من فعله الفكري إلا ما يحفظ له ضوء وجهه.

أعتقد أننا بحاجة لإحياء فكرة التنوير في أوساطنا الثقافية خاصة، ذلك أن تكاثر أشباه المثقفين ينذر باختطاف الوعي الجمعي وتحويله عن مسار النهوض والانفتاح إلى مزيد من الانغلاق والإقصاء.

علينا أن ننطلق من فكرة التنوير تحديدا لإعادة تعريف الأخلاق والفضيلة والحريات والاتصال الإنساني وتعريف الثقافة أولا وأخيرًا.