من سنوات أَصدرت مجلّة "لونوفيل أوبسرفاتور" الفرنسيّة، في سلسلة "Hors série" عدداً خاصّاً بعنوان "الأميركيّون(LES AMERICAINS) ". شارَكَ فيه عددٌ من الأسماء الأميركيّة البارزة، حواراً أو آراءً، في سائر مناحي الحياة في الولايات المتّحدة لينتهي القارئُ إلى هذا السؤال: هل الكائن الأميركيّ، كنتاجٍ للتفاعُلات السوسيولوجيّة، إثنيّاً، وفلسفيّاً، وإيديولوجيّاً، وحتّى جينيّاً، بين كلّ تلك الأنواع، يشبه أيّ كائنٍ بشريٍّ آخر إذا ما أَخذنا بالاعتبار ما دعاها بول كروغمان (نوبل في الاقتصاد - 2008) "الأهوالَ التكنولوجيّة التي صَنَعْنَاها بأيدينا"؟
هذا الكائن المُركَّب سرياليّاً، في مُجتمعٍ مُركَّبٍ سرياليّاً أيضاً، والذي يَختزِل أو يَختزِن كلّ ثقافات الدنيا، وكلّ الترسّبات التاريخيّة، موجود في كلّ مكان، إن بالأساطيل، أو بالأطباق، أو باللّباس، ناهيك بالشبكة العنكبوتيّة التي أَحدثت زلزالاً في الإيقاع الكلاسيكي إن للعلاقات بين الأُمم (والمُجتمعات) أو في مَسار الأزمنة.
وكان عالِم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو قد رأى في الرقصات الأميركيّة المُستحدَثة، ولاسيّما "الروك أند رول"، انعكاساً لنقطةِ التقاطُع بين أسئلةِ الجسد وأسئلةِ الروح (الأسئلة الماورائيّة)، على الرّغم من أنّ جذورها تعود الى قبائل بدائيّة لم تتمكّن من بلْورةِ أيّ أسئلة "في حضرة الحياة كما في حضرة الغَيب"، لتَغدوَ، في تشكيلها الصاخب، نَوعاً من العصيان السايكولوجي على الحضارة الحديثة التي تقودها الولايات المتّحدة والتي تُحاول تقويضَ الإنسان داخل الإنسان.
لكنّ ما يُستشَفّ من بعض الآراء التي نَشَرتها المجلّةُ أنّ كلَّ شيء في أميركا بَدأ، هيستيريّاً، بالألدورادو، أي الطريق إلى الذهب الذي توجَّس بنيامين فرنكلين من أن يكونَ الطريق إلى الجحيم، تاركاً لويل ديورانت صاحب "قصّة الحضارات"، أن يُلاحِظ كيف أنّ الولايات المتّحدة، كظاهرة إمبراطوريّة فذّة، تَختلف عن أيّ ظاهرة إمبراطوريّة أخرى. وعلى الرّغم من ذلك، وكوريثةٍ للإمبراطوريّات الأوروبيّة، لم تتمكَّن من صَوْغِ مفهومٍ خاصّ لقيادة العالَم، ليبقى ماثِلاً في الوعي، وفي اللّاوعي، ظِلُّ ذلك الكاوبوي الذي كان يَشعر، وهو على صهوة حصانه، بأنّ مِهنته هي تدجين المستحيل. ما حَدَثَ أنّها سارَتْ وفقَ منطقِ الإمبراطوريّات التي آلت إلى الغروب "لأنّ منطق القوّة هو طريق المجانين، وربّما طريق العباقرة، إلى الموت"، كما قال ديورانت .
كلّ تلك المعجزات التكنولوجيّة، وإلى حدّ التخطيط لفَتْحِ مطاعم ماكدونالدز على سطح المرّيخ، كما قال الرئيس التنفيذي للسلسلة كريس كيمكزينسكي، وقد بلغ به الخيال حدّ القول إنّه واثقٌ من أنّ "الكائنات الفضائيّة ستَعشق أطباقَنا"، لن تَحمي الإمبراطوريّة "التي لا بدّ أنّ التاريخ الذي يتقمّص، في أحيانٍ كثيرة، الشيطان، يَنتظرها عند مفترقٍ ما" تبعاً لرأي نعّوم تشومسكي.
المُفكِّر الأميركي، (يا للغرابة!) استعادَ كلاماً لكارل ماركس حول الدخول الإسبارطي إلى التاريخ. "إنّ التاريخ يتقدَّم من الناحية الخطأ من التاريخ". آخرون تحدّثوا عن النَّزعة الفرويديّة في النّظرة الفَوقيّة إلى التاريخ (تاريخ الآخرين هو، بشكلٍ أو بآخر، تاريخ أميركا). الأميركيّ نيكوس هيراس صفق الباب وراءه ليرى أنّ الناس يشبهون أزمنتهم أكثر ممّا يشبهون آباءهم. إذاً، هذا هو الزمن الأميركي (وليس القرن الأميركي فقط)، لكنّ لوردات وادي السيليكون، حيث الفردوس التكنولوجي، يتحدّثون عن "خطواتنا ما قَبل الأخيرة، والحثيثة، نحو حقبة ما بعد الزمن، جدليّاً، إلى ... ما بعد الإنسان!".
تشومسكي، اليهوديّ، أبدى خشيته من أن "نتبنّى النظرة التوراتيّة إلى الآخر، وحيث اليهودي ليس فَوق العالَم فقط، وإنّما أيضاً فوق التاريخ". براغماتيّة اليهودي الآخر إسحق دويتشر، مؤلِّف "اليهودي واللّايهودي"، جَعَلَتْهُ أقرب إلى المُقارَبة البراغماتيّة لـ "العبقريّة اليهوديّة". في رأيه أنّ ذلك يعود إلى كَون اليهودي يعيش على تخوم حضارةٍ ما وفي قلبها (نوع من الشيزوفرانيا الخلّاقة). وإذا كان الأميركيّون قد تأثَّروا بالطهرانيّين (البيوريتانز)، في تمثُّلهم الطقوسي "العهد القديم"، فهُم يعيشون، أيضاً، الشيزوفرانيا وإنْ بتفاصيل مُختلفة: الأميركي فوق العالَم وداخل هذا العالَم .
اللّغز الاستراتيجيّ
هل يعني ذلك التماهي اللّاهوتي بين الأميركي، إلى أيّ ديانة أو لا ديانة انتمى، واليهودي؟ كثيرون لم يتمكّنوا من فكّ "اللّغز الاستراتيجي" بين الولايات المتّحدة وإسرائيل. أوليفيه روا الذي لاحَظَ التداخُلَ بين البُعد الإيديولوجي والبُعد الاستراتيجي في العلاقات الأميركيّة - الإسرائيليّة، عادَ، أيضاً، إلى دَور البيوريتانز، ومُقارنتهم بين خروجهم من إنكلترا على يد الملك، والعبريّين الذين خَرجوا من مصر على يد الفرعون، ولكن "لا عصا موسى هناك بل عصا نتنياهو وهي تنهالُ على رأس جو بايدن".
إسرائيل "فكرة أميركيّة" قَبل أن تُصبح "وديعة أميركيّة". ناحوم غولدمان، وهو أحد آباء الدولة، قال "لولا الرئيس وودرو ويلسون لَما كان وعد بلفور". المؤرِّخ آفي شلايم رأى الانحدار الدراماتيكي نحو ثقافة اليمين التي هي، في نظره ثقافة الكهوف، ليُقارِن بين الدولة العبريّة والكائنات الخرافيّة التي تَبتدعها المخيّلة الهوليووديّة، وحيث لا تلبث تلك الكائنات أن تنقضَّ على مَن صَنَعَها .
غولدمان الذي كان أحد مهندسي الظلّ لاتّفاقيّة كامب ديفيد (اجتماع الصخيرات مع العاهل المغربي آنذاك الحسن الثاني، بحضور الصحافي الفرنسي اليهودي جان دانيال)، هالَهُ الشبق إلى الدمّ لدى القادة الإسرائيليّين الذين تعاقبوا على السلطة؛ بحيث يُفترض بمَن يَصل إلى القمّة أن يصلَ على جثثِ العرب .
رأى أنّ بقاءَ الدولة العبريّة، كي لا تتلاشى تدريجاً أمام الرياح الصفر التي تهبّ، موسميّاً، على الشرق الأوسط، رهنٌ بالتخلّي عن السياسات الهوجاء أو السياسات العمياء، والتحوُّل إلى فاتيكان، أو إلى كنيسٍ يهودي، "لأنّنا في زمنٍ لا تموت فيه ذاكرة الموتى". الأكاديميّة الأميركيّة، اليهوديّة، جوديت بتلر سألت "قد يكون باستطاعتنا، إذا ما عدنا إلى مُقتضيات الميدان في الحرب العالَميّة الثانية، أن نَحمل ضحايا هيروشيما على ظهورنا. هل باستطاعة الإسرائيليّين، كمُحتلّين، أن يحملوا ضحايا غزّة على ظهورهم؟".
أضافت: " ... ما الذي يجعلنا، كأميركيّين، إسرائيليّين إلى هذا الحدّ؟ الأصوات تعلو في الجامعات، وفي الشوارع، وحتّى في أروقة البيت الأبيض، حين نرى كيف نُزوِّد نتنياهو بأشدّ القنابل فَتكاً، ثمّ نحاول أن نغسل أيدينا من الجثث التي تتكدّس على طريق أورشليم. واشنطن هذه ليست ثقافتنا حين يَعتبر الجنرال رافاييل إيتان أنّ العربيَّ الجيّد هو العربيُّ الميّت". لعلَّها لم تقرأ ما صرَّح به أبا إيبان، وزير الخارجيّة الإسرائيليّة الراحل بين عامَيْ 1966 و1971 (حكومات ليفي أشكول، وييغال آلون، وغولدا مئير)، "أنّ الخطّ الأخضر بين إسرائيل والضفّة هو حدود أوشفيتز" أي حدود الهولوكوست، مع أنّ بعض المؤرّخين يرون في إيبان، الذي كان ضابطَ استخباراتٍ في الجيش البريطاني أقلَّ إيديولوجيّةً من أكثر نظرائه في إدارة الديبلوماسيّة الإسرائيليّة، لكأنّ العرب هُم مَن صنعوا المحرقة. وكما لو أنّ همجيّة ذلك النَّوع من اليمين لم تَتجاوز همجيّة النازيّة حين يَكتب المؤرِّخ يشعياهو ليبوفيتش "يوجد لدينا إسرائيليّون نازيّون. أن تكون يهوديّاً هذا لا يحميك من عدوى الفاشيّة"، كوجهٍ من وجوه البربريّة التي شاهدناها في غزّة، وأيضاً في الضفّة الغربيّة، حيث حَصدتِ الدبّابات 40 شابّاً فلسطينيّاً دفعةً واحدة في مُخيّم "نور شمس".
خطيئةُ الفلسطينيّين
ها إنّ الفيلسوف الأميركي نورمان فينكلشتاين يَستغرب كيف "أنّ اليهود في إسرائيل، بذلك المخزون الهائل من الآلام في أوروبا، قد أَفرغوا كلَّ تلك الآلام في رؤوس الفلسطينيّين الذين كانت كلّ خطيئتهم أنّهم وُجدوا منذ قرون على هذه الأرض التي ندعوها "أرض الميعاد"، ولا أدري ما إذا كان يهوه يريد أن يرصف هذه الأرض بجماجم الآخرين". أيّ شعب مختار حين يقول الكاردينال الراحل، ورئيس أساقفة باريس، لويس لوستيجيه، وهو من أصلٍ يهوديّ، "إنّ شعب الله المختار هو البشريّة جمعاء"، ليسأل البابا المسكونيّ بيوس "لماذا لا تُعيدوا أصلكم الى بطن حوّاء؟". والمثير أنّ أيّاً من قادة الحركة الصهيونيّة لم يَعترض على قول فيلسوف التاريخ البريطاني آرنولد توينبي "اليهود والسريان ضحايا تمييزٍ ديني يُمثّلون مُجتمعاتٍ مُنقرضة لم تواصل بقاءها إلّا كمتحجّرات".
هنا نعود إلى تحذير الحاخام الأميركي شمولي بوطيح من أنّ الإعصار التكنولوجي، بتداعياته التاريخيّة، هو من القوّة بحيث تتلاشى أمامه سائر الأقليّات الدينيّة والإتنيّة، مُبدياً خشيته من أيِّ تغييرٍ في الاستراتيجيّات، وفي العلاقات، والمُعادلات، بتداعياتٍ أبوكاليبتيّة على الدولة اليهوديّة. المذابح التي ارتُكبت، وعلى نحوٍ منهجيٍّ في غزّة، أَحدثت هزّاتٍ ارتداديّة داخل الرأي العامّ الأميركي، والغربي بشكلٍ عامّ. حتّى أنّ الارتباك بدا جليّاً داخل الإدارة. ولكنْ بعد أيّامٍ قليلة من تسريبِ معلوماتٍ حول إمكانيّة الحدّ من إرسال الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل إذا لم تَمتثل للدعوات الأميركيّة، إذا بالكونغرس يقرّ منحها 4 مليارات دولار لمنظومات الدّفاع الجوّي (القبّة الحديديّة ومقلاع داود)، و1.2 مليار دولار لنظام الدّفاع "الشعاعي الحديدي" الذي يتصدّى للصواريخ قصيرة المدى ولقذائف الهاون، إضافةً إلى 4.4 مليارات دولار لتجديد الموادّ والخدمات الدفاعيّة (وكلّها هجوميّة)، و3.5 مليارات دولار لشراء أنظمة أسلحة متقدّمة، وبما وُصف بـ "عناصر أخرى". ربّما كان من أكثر المبرّرات طرافة، إبلاغ بعض العواصم العربيّة بأنّ الغاية من المساعدات تبريدُ الرؤوس الحامية في إسرائيل (لم يقولوا الرؤوس المجنونة)، والتي يُمكن أن يحملها "الخوف الوجودي" على القيام بعمليّاتٍ عسكريّة قد تكون لها تداعياتها الكارثيّة على المنطقة البالغة الحساسيّة بالنسبة إلى الولايات المتّحدة في صراعها الاستراتيجي مع كلٍّ من روسيا والصين، على إدارة الكوكب، وربّما الكواكب الأخرى أيضاً .
هذا ما جَعَلَ السناتور بيرني ساندرز يسأل ما إذا كان الحديث عن هشاشة إسرائيل أم عن هشاشة أميركا لعجْزِها عن احتواء حكومة نتنياهو، وهي التي أَخذت بنظريّة جورج كينان حول احتواء الإمبراطوريّة السوفياتيّة، مُتسائلاً عن السقوط الكامل للبُعد الأخلاقيّ في سياسة جو بايدن، بعدما كان السناتور الراحل جون ماكين قد رأى "أنّ مَن يدعونا إلى تغيير النظرة إلى إسرائيل كمَن يدعونا إلى تغيير النظرة إلى الله".
أنبياء الدستور
هنا نتوقّف عند رأي الوزير الفرنسي السابق جان- بيار شوفنمان الذي تحدَّث عن الغياب التراجيدي للقيَم في السياسات الأميركيّة. لاحَظَ "الخيانة الموصوفة" للدستور الأميركي بعدما كان المفكّر الفرنسي ريمون آرون قد كَتبَ في "الإكسبرس" عن أنّ الله "بَعَثَ إلى أميركا بسبعة أنبياء دفعةً واحدة" في إشارةٍ إلى واضعي الدستور الذي قال توماس جيفرسون، الرئيس الثالث، والكاتب الرئيس للدستور، أنّه يَستشعِر دبيبَ الملائكة بين السطور.
وكانت الكاتبة الأميركيّة، اليهوديّة راشيل كوشنر قد لاحَظت مدى طغيان الفكر المكيافيلي على صناعة السياسة الخارجيّة الأميركيّة، ولا سيّما خلال السنة الانتخابيّة، وإلى حدّ التساؤل ما إذا كان الرئيس بايدن "يريد أن يبيع رؤوسنا إلى بنيامين نتياهو؟". لاحَظت أنّ من المستحيل، ولأسبابٍ شتّى، أن يَحدثَ تغييرٌ في تعامُل الإدارة الأميركيّة مع إسرائيل، مُعيدةً ذلك إلى "الوضع الشديد التعقيد داخل صانعي القرار، وحيث يبدو أنّ السوبرمان الإسرائيلي يقف عند الباب".
بدَورِها تحدّثت كوشنر عن قيام بعض الجماعات "الطهرانيّة" بغسْلِ الأدمغة حتّى منذ أن تبلْورَت الشخصيّةُ السياسيّةُ للدولة الأميركيّة. هكذا نرى أنّ الرئيس الثاني للولايات المتّحدة جون آدامز يبعث، في العام 1816، برسالةٍ إلى صديقه اليهودي موردخاي إيمانويل نواه تمنّى فيها أن تكون لليهود دولة في "اليهوديّة"، وهي منطقة في فلسطين (كتاب "بلاد الله" لصمويل غولدمان) .
الماشيح على تلّة الكابيتول
الحاخام ستيفن بروزانسكي (نيو جيرسي) لم يَتورَّع عن الذهاب بعيداً في تأويل النصّ التوراتي (أو أمْرَكة النصّ التوراتي)، باعتباره أنّ الماشيح لن يظهر على "جبل صهيون" في أورشليم، حيث أُقيم الهيكل، وإنّما على تلّة الكابيتول في واشنطن، تكريساً لـ "التوأمة اللّاهوتيّة" بين البلدَيْن .
قَبل النفط والغاز بقرونٍ عدّة، اجتذبَ الشرقُ الأوسط كلَّ الإمبراطوريّات الكبرى تقريباً. من الإمبراطوريّة الرومانيّة إلى الإمبراطوريّة العثمانيّة، ومن إمبراطوريّة قوروش إلى إمبراطوريّة الإسكندر وإمبراطوريّة جنكيز خان. حتّى أنّ القيصر الروسي بطرس الأكبر كان يتوق إلى الوصول بالدّببة القطبيّة إلى ضفاف المتوسّط. المُستشرِق غوستاف لوبون تساءَل ما إذا كانت هناك "مؤثّرات لامرئيّة تتعدّى خيالَنا هي التي تغوي الأباطرة بالتوجُّه شرقاً لتطويبهم على أرض الأنبياء".
هذه أيضاً، حال الإمبراطوريّة الأميركيّة، ولكنْ مع بروز مصالح تتعدّى، في بعض وجوهها، المصالحَ التقليديّة. البيت الأبيض أَطلق في العام 1957 "مبدأ آيزنهاور" بدعوى ملء الفراغ في هذه المنطقة بالذّات، من دون أن يَقتنع وزيرُ خارجيّته جون فوستر دالاس بنظريّة السناتور وليم أولبرايت (1905 - 1995)، والذي شكَّلَ ظاهرةً في الكونغرس بموقفه من الحركة الصهيونيّة. اعتبرَ أنّ المنطقة هي من الملاءة الإيديولوجيّة، والملاءة التاريخيّة، بحيث لا مجال لاختراقها من قِبَل التسونامي الشيوعي، ليَظهر بعد حين أنّ الأميركيّين كانوا يَملأون الفراغ ... بالفراغ !
لا مجال، في المدى المنظور على الأقلّ، للرهان على تغييرٍ بنيوي في السياسات الأميركيّة حيال إسرائيل. هاري ترومان الذي ألقى القنبلة الذريّة على كلٍّ من هيروشيما وناغازاكي "لإعادة إنتاج التاريخ وفق الرؤية (أم المصالح؟) الأميركيّة" نَقَلَ عنه جون جوديس، في كتابه "التكوين: اليهود الأميركيّون والصراع العربي- الإسرائيلي"، "المسيح حين كان على الأرض لم يَستطع إرضاءهم، كيف يُمكن لأحد أن يتوقّع أن تكون لي مثل هذه الفرصة؟"، ليصرخَ، لدى اعترافه بإسرائيل بعد ربع ساعة من إعلان قيامِها: "أنا قوروش ... أنا قوروش"، تذكيراً بالإمبراطور الفارسي الذي أَنقذ اليهود من السبي البابلي .
كثيرون كَتبوا عن تأثير الثقافة التوراتيّة، كنَوعٍ من الميتولوجيا الإغريقيّة، في صَوْغِ السياسات الأميركيّة حيال الشرق الأوسط. ما كُتب، وما قيل، في واشنطن، يُظهِر أنّ الإدارة ثابتة على موقفها الدّاعم لاسرائيل حتّى ولو أبادت كلَّ العرب، بإيحاءاتٍ مُثيرة من المُستشرِق برنارد لويس، أو من الحاخام مئير كاهانا. الآيباك موجود، أخطبوطيّاً، في كلّ مفاصل الدولة العميقة .
رسالة مارك سايكس
في رسالةٍ بَعَثَ بها مارك سايكس، الشريك البريطاني في اتّفاقيّة سايكس - بيكو، إلى فيصل بن الحسين، وكان الديبلوماسي البريطاني معروفاً بمُعاداته للساميّة قَبل أن يتحوّل إلى صهيوني متطرّف وإلى صديقٍ وثيق لحاييم وايزمان، أوّل رئيس للدولة في إسرائيل، قال " ...أعرف أنّ العرب يحتقرون اليهود، ويكرهونهم، ويدينون كلَّ أفعالهم. لكنّ العاطفة الجامحة هي مقبرة الإمارات، والشعوب. هؤلاء الذين اضْطَهدوا اليهود، وأدانوهم، باستطاعتهم أن يرووا لك حكاياتٍ كثيرة تؤكّد هذه الحكمة. سيروون لك عن الإمبراطوريّة الإسبانيّة في ذروة مجدها، والإمبراطوريّة الروسيّة في أيّامنا هذه حين تعرَّض اليهود للاضْطهاد، وكان نصيبُ مُضْطهديهم الخراب". أضافت الرسالة: "قد تتساءَل، بينكَ وبين نفسكَ، ما هو هذا العرق الخطر، المُحتقَر والمَمقوت، الذي لا يُحارِب، ولا يملك الجيش ولا الوطن. يا فيصل، أستطيع أن أقرأ ما في قلبكَ، وما يدور في خلدكَ، ولديكَ بعض المستشارين الذين قد يهمسون في أُذنِكَ كلماتٍ مُماثِلة. ولكن صدّقني. هذا الجنس الضعيف والمُحتقَر، هو عالَميّ، وبالِغ القوّة، وما من أحد قادر على وضعه عند حدّه".
مثلما لا انقشاع وشيكاً في المشهد الدولي الذي يزداد إيغالاً في ضوضاء الدمّ، لا مجال لانقشاعٍ وشيك في المشهد الشرق الأوسطي الذي يوغل، بدوره، في ضوضاء الدمّ، وإن كانت تفاهمات الضرورة القصوى بين واشنطن وطهران يُمكن أن تُبقي الوضعَ، وإلى إشعارٍ آخر، تحت السيطرة. لكنّ الأميركيّين يُدركون أنّ إسرائيل، وبعد تجربةِ غزّة، ساقطةٌ عسكريّاً، وساقطةٌ سياسيّاً لولا مواقف البَيت الأبيض .
هذا يَفترض من الإدارة إعادة النّظر في بعض السياسات ذات الطبيعة التكتيكيّة. "هاآرتس" كَتبت "لولا أميركا لكان علينا أن نُقاتل الفلسطينيّين بالعصي والحجارة".
التغيير، وكما يرى فريد زكريّا، يُفترض أن يكون إسرائيليّاً، من خلال القبول بحلّ الدولتَيْن لا بسياسات الاجتثاث ، والتقطيع اللّولبي للضفّة تمهيداً لترحيل سكّانها. الكلّ في مأزق المُراوَحة، الدمويّة هنا والديبلوماسيّة هناك، فيما الوضع الدولي يزداد ضبابيّة وتشابُكاً. دومينيك دو فيلبان تساءَل ما إذا كان هناك مَن يُعِدّ لتفجيرِ الحرب العالَميّة الثالثة، هل ترانا ندقّ أجراس النهاية، نهاية العالَم أم نهاية الشرق الأوسط ما دامت ثلّة المجانين في إسرائيل تصرّ على مُراقَصة الدمّ، ومُراقَصة النار، بمنطق حماية البقاء؟ فأيّ بقاءٍ في هذه الحال؟
في الأسطورة الأوروبيّة، الكرة الأرضيّة تَقف على قَرْنِ ثور. لن نتردَّد في القول إنّ منطقتنا بالذّات هي التي تَقف على قَرْنِ ثورٍ (ثور هائج). حدِّقوا مليّاً في وجه بنيامين نتياهو. زوجته سارة قالت منذ 22 عاماً "من دونه تحترق إسرائيل". مِن وجوده احترَقتْ إسرائيل.
*كاتب ومُحلِّل سياسي من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.
هذا الكائن المُركَّب سرياليّاً، في مُجتمعٍ مُركَّبٍ سرياليّاً أيضاً، والذي يَختزِل أو يَختزِن كلّ ثقافات الدنيا، وكلّ الترسّبات التاريخيّة، موجود في كلّ مكان، إن بالأساطيل، أو بالأطباق، أو باللّباس، ناهيك بالشبكة العنكبوتيّة التي أَحدثت زلزالاً في الإيقاع الكلاسيكي إن للعلاقات بين الأُمم (والمُجتمعات) أو في مَسار الأزمنة.
وكان عالِم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو قد رأى في الرقصات الأميركيّة المُستحدَثة، ولاسيّما "الروك أند رول"، انعكاساً لنقطةِ التقاطُع بين أسئلةِ الجسد وأسئلةِ الروح (الأسئلة الماورائيّة)، على الرّغم من أنّ جذورها تعود الى قبائل بدائيّة لم تتمكّن من بلْورةِ أيّ أسئلة "في حضرة الحياة كما في حضرة الغَيب"، لتَغدوَ، في تشكيلها الصاخب، نَوعاً من العصيان السايكولوجي على الحضارة الحديثة التي تقودها الولايات المتّحدة والتي تُحاول تقويضَ الإنسان داخل الإنسان.
لكنّ ما يُستشَفّ من بعض الآراء التي نَشَرتها المجلّةُ أنّ كلَّ شيء في أميركا بَدأ، هيستيريّاً، بالألدورادو، أي الطريق إلى الذهب الذي توجَّس بنيامين فرنكلين من أن يكونَ الطريق إلى الجحيم، تاركاً لويل ديورانت صاحب "قصّة الحضارات"، أن يُلاحِظ كيف أنّ الولايات المتّحدة، كظاهرة إمبراطوريّة فذّة، تَختلف عن أيّ ظاهرة إمبراطوريّة أخرى. وعلى الرّغم من ذلك، وكوريثةٍ للإمبراطوريّات الأوروبيّة، لم تتمكَّن من صَوْغِ مفهومٍ خاصّ لقيادة العالَم، ليبقى ماثِلاً في الوعي، وفي اللّاوعي، ظِلُّ ذلك الكاوبوي الذي كان يَشعر، وهو على صهوة حصانه، بأنّ مِهنته هي تدجين المستحيل. ما حَدَثَ أنّها سارَتْ وفقَ منطقِ الإمبراطوريّات التي آلت إلى الغروب "لأنّ منطق القوّة هو طريق المجانين، وربّما طريق العباقرة، إلى الموت"، كما قال ديورانت .
كلّ تلك المعجزات التكنولوجيّة، وإلى حدّ التخطيط لفَتْحِ مطاعم ماكدونالدز على سطح المرّيخ، كما قال الرئيس التنفيذي للسلسلة كريس كيمكزينسكي، وقد بلغ به الخيال حدّ القول إنّه واثقٌ من أنّ "الكائنات الفضائيّة ستَعشق أطباقَنا"، لن تَحمي الإمبراطوريّة "التي لا بدّ أنّ التاريخ الذي يتقمّص، في أحيانٍ كثيرة، الشيطان، يَنتظرها عند مفترقٍ ما" تبعاً لرأي نعّوم تشومسكي.
المُفكِّر الأميركي، (يا للغرابة!) استعادَ كلاماً لكارل ماركس حول الدخول الإسبارطي إلى التاريخ. "إنّ التاريخ يتقدَّم من الناحية الخطأ من التاريخ". آخرون تحدّثوا عن النَّزعة الفرويديّة في النّظرة الفَوقيّة إلى التاريخ (تاريخ الآخرين هو، بشكلٍ أو بآخر، تاريخ أميركا). الأميركيّ نيكوس هيراس صفق الباب وراءه ليرى أنّ الناس يشبهون أزمنتهم أكثر ممّا يشبهون آباءهم. إذاً، هذا هو الزمن الأميركي (وليس القرن الأميركي فقط)، لكنّ لوردات وادي السيليكون، حيث الفردوس التكنولوجي، يتحدّثون عن "خطواتنا ما قَبل الأخيرة، والحثيثة، نحو حقبة ما بعد الزمن، جدليّاً، إلى ... ما بعد الإنسان!".
تشومسكي، اليهوديّ، أبدى خشيته من أن "نتبنّى النظرة التوراتيّة إلى الآخر، وحيث اليهودي ليس فَوق العالَم فقط، وإنّما أيضاً فوق التاريخ". براغماتيّة اليهودي الآخر إسحق دويتشر، مؤلِّف "اليهودي واللّايهودي"، جَعَلَتْهُ أقرب إلى المُقارَبة البراغماتيّة لـ "العبقريّة اليهوديّة". في رأيه أنّ ذلك يعود إلى كَون اليهودي يعيش على تخوم حضارةٍ ما وفي قلبها (نوع من الشيزوفرانيا الخلّاقة). وإذا كان الأميركيّون قد تأثَّروا بالطهرانيّين (البيوريتانز)، في تمثُّلهم الطقوسي "العهد القديم"، فهُم يعيشون، أيضاً، الشيزوفرانيا وإنْ بتفاصيل مُختلفة: الأميركي فوق العالَم وداخل هذا العالَم .
اللّغز الاستراتيجيّ
هل يعني ذلك التماهي اللّاهوتي بين الأميركي، إلى أيّ ديانة أو لا ديانة انتمى، واليهودي؟ كثيرون لم يتمكّنوا من فكّ "اللّغز الاستراتيجي" بين الولايات المتّحدة وإسرائيل. أوليفيه روا الذي لاحَظَ التداخُلَ بين البُعد الإيديولوجي والبُعد الاستراتيجي في العلاقات الأميركيّة - الإسرائيليّة، عادَ، أيضاً، إلى دَور البيوريتانز، ومُقارنتهم بين خروجهم من إنكلترا على يد الملك، والعبريّين الذين خَرجوا من مصر على يد الفرعون، ولكن "لا عصا موسى هناك بل عصا نتنياهو وهي تنهالُ على رأس جو بايدن".
إسرائيل "فكرة أميركيّة" قَبل أن تُصبح "وديعة أميركيّة". ناحوم غولدمان، وهو أحد آباء الدولة، قال "لولا الرئيس وودرو ويلسون لَما كان وعد بلفور". المؤرِّخ آفي شلايم رأى الانحدار الدراماتيكي نحو ثقافة اليمين التي هي، في نظره ثقافة الكهوف، ليُقارِن بين الدولة العبريّة والكائنات الخرافيّة التي تَبتدعها المخيّلة الهوليووديّة، وحيث لا تلبث تلك الكائنات أن تنقضَّ على مَن صَنَعَها .
غولدمان الذي كان أحد مهندسي الظلّ لاتّفاقيّة كامب ديفيد (اجتماع الصخيرات مع العاهل المغربي آنذاك الحسن الثاني، بحضور الصحافي الفرنسي اليهودي جان دانيال)، هالَهُ الشبق إلى الدمّ لدى القادة الإسرائيليّين الذين تعاقبوا على السلطة؛ بحيث يُفترض بمَن يَصل إلى القمّة أن يصلَ على جثثِ العرب .
رأى أنّ بقاءَ الدولة العبريّة، كي لا تتلاشى تدريجاً أمام الرياح الصفر التي تهبّ، موسميّاً، على الشرق الأوسط، رهنٌ بالتخلّي عن السياسات الهوجاء أو السياسات العمياء، والتحوُّل إلى فاتيكان، أو إلى كنيسٍ يهودي، "لأنّنا في زمنٍ لا تموت فيه ذاكرة الموتى". الأكاديميّة الأميركيّة، اليهوديّة، جوديت بتلر سألت "قد يكون باستطاعتنا، إذا ما عدنا إلى مُقتضيات الميدان في الحرب العالَميّة الثانية، أن نَحمل ضحايا هيروشيما على ظهورنا. هل باستطاعة الإسرائيليّين، كمُحتلّين، أن يحملوا ضحايا غزّة على ظهورهم؟".
أضافت: " ... ما الذي يجعلنا، كأميركيّين، إسرائيليّين إلى هذا الحدّ؟ الأصوات تعلو في الجامعات، وفي الشوارع، وحتّى في أروقة البيت الأبيض، حين نرى كيف نُزوِّد نتنياهو بأشدّ القنابل فَتكاً، ثمّ نحاول أن نغسل أيدينا من الجثث التي تتكدّس على طريق أورشليم. واشنطن هذه ليست ثقافتنا حين يَعتبر الجنرال رافاييل إيتان أنّ العربيَّ الجيّد هو العربيُّ الميّت". لعلَّها لم تقرأ ما صرَّح به أبا إيبان، وزير الخارجيّة الإسرائيليّة الراحل بين عامَيْ 1966 و1971 (حكومات ليفي أشكول، وييغال آلون، وغولدا مئير)، "أنّ الخطّ الأخضر بين إسرائيل والضفّة هو حدود أوشفيتز" أي حدود الهولوكوست، مع أنّ بعض المؤرّخين يرون في إيبان، الذي كان ضابطَ استخباراتٍ في الجيش البريطاني أقلَّ إيديولوجيّةً من أكثر نظرائه في إدارة الديبلوماسيّة الإسرائيليّة، لكأنّ العرب هُم مَن صنعوا المحرقة. وكما لو أنّ همجيّة ذلك النَّوع من اليمين لم تَتجاوز همجيّة النازيّة حين يَكتب المؤرِّخ يشعياهو ليبوفيتش "يوجد لدينا إسرائيليّون نازيّون. أن تكون يهوديّاً هذا لا يحميك من عدوى الفاشيّة"، كوجهٍ من وجوه البربريّة التي شاهدناها في غزّة، وأيضاً في الضفّة الغربيّة، حيث حَصدتِ الدبّابات 40 شابّاً فلسطينيّاً دفعةً واحدة في مُخيّم "نور شمس".
خطيئةُ الفلسطينيّين
ها إنّ الفيلسوف الأميركي نورمان فينكلشتاين يَستغرب كيف "أنّ اليهود في إسرائيل، بذلك المخزون الهائل من الآلام في أوروبا، قد أَفرغوا كلَّ تلك الآلام في رؤوس الفلسطينيّين الذين كانت كلّ خطيئتهم أنّهم وُجدوا منذ قرون على هذه الأرض التي ندعوها "أرض الميعاد"، ولا أدري ما إذا كان يهوه يريد أن يرصف هذه الأرض بجماجم الآخرين". أيّ شعب مختار حين يقول الكاردينال الراحل، ورئيس أساقفة باريس، لويس لوستيجيه، وهو من أصلٍ يهوديّ، "إنّ شعب الله المختار هو البشريّة جمعاء"، ليسأل البابا المسكونيّ بيوس "لماذا لا تُعيدوا أصلكم الى بطن حوّاء؟". والمثير أنّ أيّاً من قادة الحركة الصهيونيّة لم يَعترض على قول فيلسوف التاريخ البريطاني آرنولد توينبي "اليهود والسريان ضحايا تمييزٍ ديني يُمثّلون مُجتمعاتٍ مُنقرضة لم تواصل بقاءها إلّا كمتحجّرات".
هنا نعود إلى تحذير الحاخام الأميركي شمولي بوطيح من أنّ الإعصار التكنولوجي، بتداعياته التاريخيّة، هو من القوّة بحيث تتلاشى أمامه سائر الأقليّات الدينيّة والإتنيّة، مُبدياً خشيته من أيِّ تغييرٍ في الاستراتيجيّات، وفي العلاقات، والمُعادلات، بتداعياتٍ أبوكاليبتيّة على الدولة اليهوديّة. المذابح التي ارتُكبت، وعلى نحوٍ منهجيٍّ في غزّة، أَحدثت هزّاتٍ ارتداديّة داخل الرأي العامّ الأميركي، والغربي بشكلٍ عامّ. حتّى أنّ الارتباك بدا جليّاً داخل الإدارة. ولكنْ بعد أيّامٍ قليلة من تسريبِ معلوماتٍ حول إمكانيّة الحدّ من إرسال الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل إذا لم تَمتثل للدعوات الأميركيّة، إذا بالكونغرس يقرّ منحها 4 مليارات دولار لمنظومات الدّفاع الجوّي (القبّة الحديديّة ومقلاع داود)، و1.2 مليار دولار لنظام الدّفاع "الشعاعي الحديدي" الذي يتصدّى للصواريخ قصيرة المدى ولقذائف الهاون، إضافةً إلى 4.4 مليارات دولار لتجديد الموادّ والخدمات الدفاعيّة (وكلّها هجوميّة)، و3.5 مليارات دولار لشراء أنظمة أسلحة متقدّمة، وبما وُصف بـ "عناصر أخرى". ربّما كان من أكثر المبرّرات طرافة، إبلاغ بعض العواصم العربيّة بأنّ الغاية من المساعدات تبريدُ الرؤوس الحامية في إسرائيل (لم يقولوا الرؤوس المجنونة)، والتي يُمكن أن يحملها "الخوف الوجودي" على القيام بعمليّاتٍ عسكريّة قد تكون لها تداعياتها الكارثيّة على المنطقة البالغة الحساسيّة بالنسبة إلى الولايات المتّحدة في صراعها الاستراتيجي مع كلٍّ من روسيا والصين، على إدارة الكوكب، وربّما الكواكب الأخرى أيضاً .
هذا ما جَعَلَ السناتور بيرني ساندرز يسأل ما إذا كان الحديث عن هشاشة إسرائيل أم عن هشاشة أميركا لعجْزِها عن احتواء حكومة نتنياهو، وهي التي أَخذت بنظريّة جورج كينان حول احتواء الإمبراطوريّة السوفياتيّة، مُتسائلاً عن السقوط الكامل للبُعد الأخلاقيّ في سياسة جو بايدن، بعدما كان السناتور الراحل جون ماكين قد رأى "أنّ مَن يدعونا إلى تغيير النظرة إلى إسرائيل كمَن يدعونا إلى تغيير النظرة إلى الله".
أنبياء الدستور
هنا نتوقّف عند رأي الوزير الفرنسي السابق جان- بيار شوفنمان الذي تحدَّث عن الغياب التراجيدي للقيَم في السياسات الأميركيّة. لاحَظَ "الخيانة الموصوفة" للدستور الأميركي بعدما كان المفكّر الفرنسي ريمون آرون قد كَتبَ في "الإكسبرس" عن أنّ الله "بَعَثَ إلى أميركا بسبعة أنبياء دفعةً واحدة" في إشارةٍ إلى واضعي الدستور الذي قال توماس جيفرسون، الرئيس الثالث، والكاتب الرئيس للدستور، أنّه يَستشعِر دبيبَ الملائكة بين السطور.
وكانت الكاتبة الأميركيّة، اليهوديّة راشيل كوشنر قد لاحَظت مدى طغيان الفكر المكيافيلي على صناعة السياسة الخارجيّة الأميركيّة، ولا سيّما خلال السنة الانتخابيّة، وإلى حدّ التساؤل ما إذا كان الرئيس بايدن "يريد أن يبيع رؤوسنا إلى بنيامين نتياهو؟". لاحَظت أنّ من المستحيل، ولأسبابٍ شتّى، أن يَحدثَ تغييرٌ في تعامُل الإدارة الأميركيّة مع إسرائيل، مُعيدةً ذلك إلى "الوضع الشديد التعقيد داخل صانعي القرار، وحيث يبدو أنّ السوبرمان الإسرائيلي يقف عند الباب".
بدَورِها تحدّثت كوشنر عن قيام بعض الجماعات "الطهرانيّة" بغسْلِ الأدمغة حتّى منذ أن تبلْورَت الشخصيّةُ السياسيّةُ للدولة الأميركيّة. هكذا نرى أنّ الرئيس الثاني للولايات المتّحدة جون آدامز يبعث، في العام 1816، برسالةٍ إلى صديقه اليهودي موردخاي إيمانويل نواه تمنّى فيها أن تكون لليهود دولة في "اليهوديّة"، وهي منطقة في فلسطين (كتاب "بلاد الله" لصمويل غولدمان) .
الماشيح على تلّة الكابيتول
الحاخام ستيفن بروزانسكي (نيو جيرسي) لم يَتورَّع عن الذهاب بعيداً في تأويل النصّ التوراتي (أو أمْرَكة النصّ التوراتي)، باعتباره أنّ الماشيح لن يظهر على "جبل صهيون" في أورشليم، حيث أُقيم الهيكل، وإنّما على تلّة الكابيتول في واشنطن، تكريساً لـ "التوأمة اللّاهوتيّة" بين البلدَيْن .
قَبل النفط والغاز بقرونٍ عدّة، اجتذبَ الشرقُ الأوسط كلَّ الإمبراطوريّات الكبرى تقريباً. من الإمبراطوريّة الرومانيّة إلى الإمبراطوريّة العثمانيّة، ومن إمبراطوريّة قوروش إلى إمبراطوريّة الإسكندر وإمبراطوريّة جنكيز خان. حتّى أنّ القيصر الروسي بطرس الأكبر كان يتوق إلى الوصول بالدّببة القطبيّة إلى ضفاف المتوسّط. المُستشرِق غوستاف لوبون تساءَل ما إذا كانت هناك "مؤثّرات لامرئيّة تتعدّى خيالَنا هي التي تغوي الأباطرة بالتوجُّه شرقاً لتطويبهم على أرض الأنبياء".
هذه أيضاً، حال الإمبراطوريّة الأميركيّة، ولكنْ مع بروز مصالح تتعدّى، في بعض وجوهها، المصالحَ التقليديّة. البيت الأبيض أَطلق في العام 1957 "مبدأ آيزنهاور" بدعوى ملء الفراغ في هذه المنطقة بالذّات، من دون أن يَقتنع وزيرُ خارجيّته جون فوستر دالاس بنظريّة السناتور وليم أولبرايت (1905 - 1995)، والذي شكَّلَ ظاهرةً في الكونغرس بموقفه من الحركة الصهيونيّة. اعتبرَ أنّ المنطقة هي من الملاءة الإيديولوجيّة، والملاءة التاريخيّة، بحيث لا مجال لاختراقها من قِبَل التسونامي الشيوعي، ليَظهر بعد حين أنّ الأميركيّين كانوا يَملأون الفراغ ... بالفراغ !
لا مجال، في المدى المنظور على الأقلّ، للرهان على تغييرٍ بنيوي في السياسات الأميركيّة حيال إسرائيل. هاري ترومان الذي ألقى القنبلة الذريّة على كلٍّ من هيروشيما وناغازاكي "لإعادة إنتاج التاريخ وفق الرؤية (أم المصالح؟) الأميركيّة" نَقَلَ عنه جون جوديس، في كتابه "التكوين: اليهود الأميركيّون والصراع العربي- الإسرائيلي"، "المسيح حين كان على الأرض لم يَستطع إرضاءهم، كيف يُمكن لأحد أن يتوقّع أن تكون لي مثل هذه الفرصة؟"، ليصرخَ، لدى اعترافه بإسرائيل بعد ربع ساعة من إعلان قيامِها: "أنا قوروش ... أنا قوروش"، تذكيراً بالإمبراطور الفارسي الذي أَنقذ اليهود من السبي البابلي .
كثيرون كَتبوا عن تأثير الثقافة التوراتيّة، كنَوعٍ من الميتولوجيا الإغريقيّة، في صَوْغِ السياسات الأميركيّة حيال الشرق الأوسط. ما كُتب، وما قيل، في واشنطن، يُظهِر أنّ الإدارة ثابتة على موقفها الدّاعم لاسرائيل حتّى ولو أبادت كلَّ العرب، بإيحاءاتٍ مُثيرة من المُستشرِق برنارد لويس، أو من الحاخام مئير كاهانا. الآيباك موجود، أخطبوطيّاً، في كلّ مفاصل الدولة العميقة .
رسالة مارك سايكس
في رسالةٍ بَعَثَ بها مارك سايكس، الشريك البريطاني في اتّفاقيّة سايكس - بيكو، إلى فيصل بن الحسين، وكان الديبلوماسي البريطاني معروفاً بمُعاداته للساميّة قَبل أن يتحوّل إلى صهيوني متطرّف وإلى صديقٍ وثيق لحاييم وايزمان، أوّل رئيس للدولة في إسرائيل، قال " ...أعرف أنّ العرب يحتقرون اليهود، ويكرهونهم، ويدينون كلَّ أفعالهم. لكنّ العاطفة الجامحة هي مقبرة الإمارات، والشعوب. هؤلاء الذين اضْطَهدوا اليهود، وأدانوهم، باستطاعتهم أن يرووا لك حكاياتٍ كثيرة تؤكّد هذه الحكمة. سيروون لك عن الإمبراطوريّة الإسبانيّة في ذروة مجدها، والإمبراطوريّة الروسيّة في أيّامنا هذه حين تعرَّض اليهود للاضْطهاد، وكان نصيبُ مُضْطهديهم الخراب". أضافت الرسالة: "قد تتساءَل، بينكَ وبين نفسكَ، ما هو هذا العرق الخطر، المُحتقَر والمَمقوت، الذي لا يُحارِب، ولا يملك الجيش ولا الوطن. يا فيصل، أستطيع أن أقرأ ما في قلبكَ، وما يدور في خلدكَ، ولديكَ بعض المستشارين الذين قد يهمسون في أُذنِكَ كلماتٍ مُماثِلة. ولكن صدّقني. هذا الجنس الضعيف والمُحتقَر، هو عالَميّ، وبالِغ القوّة، وما من أحد قادر على وضعه عند حدّه".
مثلما لا انقشاع وشيكاً في المشهد الدولي الذي يزداد إيغالاً في ضوضاء الدمّ، لا مجال لانقشاعٍ وشيك في المشهد الشرق الأوسطي الذي يوغل، بدوره، في ضوضاء الدمّ، وإن كانت تفاهمات الضرورة القصوى بين واشنطن وطهران يُمكن أن تُبقي الوضعَ، وإلى إشعارٍ آخر، تحت السيطرة. لكنّ الأميركيّين يُدركون أنّ إسرائيل، وبعد تجربةِ غزّة، ساقطةٌ عسكريّاً، وساقطةٌ سياسيّاً لولا مواقف البَيت الأبيض .
هذا يَفترض من الإدارة إعادة النّظر في بعض السياسات ذات الطبيعة التكتيكيّة. "هاآرتس" كَتبت "لولا أميركا لكان علينا أن نُقاتل الفلسطينيّين بالعصي والحجارة".
التغيير، وكما يرى فريد زكريّا، يُفترض أن يكون إسرائيليّاً، من خلال القبول بحلّ الدولتَيْن لا بسياسات الاجتثاث ، والتقطيع اللّولبي للضفّة تمهيداً لترحيل سكّانها. الكلّ في مأزق المُراوَحة، الدمويّة هنا والديبلوماسيّة هناك، فيما الوضع الدولي يزداد ضبابيّة وتشابُكاً. دومينيك دو فيلبان تساءَل ما إذا كان هناك مَن يُعِدّ لتفجيرِ الحرب العالَميّة الثالثة، هل ترانا ندقّ أجراس النهاية، نهاية العالَم أم نهاية الشرق الأوسط ما دامت ثلّة المجانين في إسرائيل تصرّ على مُراقَصة الدمّ، ومُراقَصة النار، بمنطق حماية البقاء؟ فأيّ بقاءٍ في هذه الحال؟
في الأسطورة الأوروبيّة، الكرة الأرضيّة تَقف على قَرْنِ ثور. لن نتردَّد في القول إنّ منطقتنا بالذّات هي التي تَقف على قَرْنِ ثورٍ (ثور هائج). حدِّقوا مليّاً في وجه بنيامين نتياهو. زوجته سارة قالت منذ 22 عاماً "من دونه تحترق إسرائيل". مِن وجوده احترَقتْ إسرائيل.
*كاتب ومُحلِّل سياسي من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.