هادي العلوي

طالعت مقالة للباحث العراقي ناجي معروف بعنوان « الفارابي عربي الموطن والثقافة « وقد جاء في مقدمة المقال ما يلي : أبو نصر الفارابي عربي الموطن والمربي ، عربي اللغة والثقافة ، تظهر ثقافته العربية في مؤلفاته التي ناهزت مائتي كتاب ألفها كلها باللغة العربية ، ولما كانت العروبة هي اللسان ، كما في الحديث الشريف « ليست العربية بأب ولا أم انما العربية اللسان « ...

وعلى غرار هذا يسعى باحث عراقي آخر لاثبات عروبة » الفارابي ، اذ يقول الدكتور حسين علي محفوظ في محاضرة القاها في مهرجان الفارابي ، ان هذا الفيلسوف كتب بالعربية وأنه لم يستعمل في مؤلفاته كلمة اعجمية واحدة. ولا بد للمرء من أن يجنح به الخيال وهو يتابع كلمات هؤلاء الافاضل الى مرحلة بعيدة من تاريخ الفكر يصبح فيها الفارابي مفكرا مجهولا لخاصة المثقفين فضلا عن عامتهم هنا حيث يختلط الأمر فلا يعود أحد يعرف هوية هذا المدعو ابو نصر الفارابي فيتطوع ، من ثم ، بعض الخبراء في تاريخ الفلسفة التعريف الناس به ! فالسيد ناجي يقول لك جازما أن الفارابي الف كتبه بالعربية ، وهذا ما يؤكده زميله حسين محفوظ، وكان الحديث يدور على فيلسوف لاتيني او افريقي تبرع للتأليف بالعربية ، وكأن هناك من الناس الذين تجاوزوا مرحلة الدراسة الابتدائية من لا يعرف بأية لغة كتب الفارابي ؟ وكأن هناك من غلب على وهمه أن الفارابي من أهل واق واق وليس فيلسوفا عربيا اسلاميا يعرفه حتى الصحفيون.

ان البرهنة على أن الفارابي كتب بالعربية وأن ثقافته هي ثقافة عربية جهد عقيم لا يقوم به عالم حقيقي ، فلا يخفى على أي قاريء عربي أو اجنبي له ادنى المام بالتراث العربي الاسلامي أن الفارابي فيلسوف مسلم وأن اللغة العربية هي اللغة الرئيسة لهذا التراث فما الداعي الى كل هذا العناء ؟ اننا نطلق اسم الحضارة العربية الاسلامية ونقصد بها تلك الظاهرة الظاهرة التاريخية التي التي نشأت مع ظهور الاسلام على يد العرب ، ثم اتسعت لتشمل شعوبا أخرى دخلت في الاسلام وكانت العربية لغتها الثقافية الرسمية ولغة التخاطب للكثير منها ، ومن هنا تستمد هذه الظاهرة وصفها بالعربية ، أما وصفها بالاسلامية فمن كونها في الاساس نتاج الاسلام ، وقد تطورت هذه التسمية لتكتسب مدلولا انثروبولوجيا يتعدى اطار العقيدة الدينية وذلك بالقياس الى حالتين :

الأولى تشعب النشاط الفكري وشموله مفردات فكرية لا صلة لها بالعقيدة وقد تكون متعارضة معها. الثانية انخراط عناصر غير اسلامية في هذا النشاط من مسيحيين ويهود وصابئة ، فضلا عن عناصر مسلمة

غير مؤمنة.

ان هاتين الحالتين تشكلان تجاوزا للعقيدة الرسمية دون أن تقترنا بالتجرد من الحدود والضوابط الانثروبولوجية للمجتمع الاسلامي ، وهو ما يجعلنا نضفي صفة « مفکر اسلامي » على اشخاص كيحيي بن عدي ومحمد بن زكريا الرازي مع كون الأول مسيحيا والثاني « ربوبيا » أي كافرا بالاديان.

وهكذا فكل مفكر وفيلسوف ينتمي الى هذا المجتمع وهذه المرحلة التاريخية هو مفكر وفيلسوف عربي اسلامي في حدود ما يعنيه هذا الاصطلاح لدى اطلاقه على هذه الظاهرة التاريخية المسماة بالحضارة العربية الإسلامية . أما الأصل العرقي فلم يعره القدماء اهتماما كبيرا . وقد أظهر مؤرخو الحكمة من المسلمين صاعد ، ابن أبي اصبيعة ، القفطي ، وغيرهم روحا أممية ملحوظة وهم يتناولون ممثلي الفكر الفلسفي من الامم المختلفة في المرحلتين الاغريقية والاسلامية دون أن يشغلوا أنفسهم بتوزيع شهادات الجنسية بالطريقة التي يقترفها بعض كتابنا المعاصرين.

من هنا يتضح أن محاولة ناجي معروف وحسين محفوظ خارجة عن الصدد وهي لا تستجيب لحاجة دراسية يثيرها تاريخ الفارابي ، هذا زيادة على عدم الدقة العلمية في المحاولتين ، وقد ذهب الحماس بالاستاذين الى حد اهمال التحقيق في الكثير من فقرات البحث عند كليهما ، حيث اندفع الدكتور محفوظ الى القول بأن الفارابي لم يستعمل كلمة اعجمية واحدة في مؤلفاته بينما تحتوي مؤلفات الفارابي المخطوطة والمطبوعة على الكثير من المصطلحات اليونانية ، أما ناجي معروف فقد أظهر للاسف عدم احاطة بالكثير من مفردات البحث الفلسفي .

استشهد الكاتب بحديث نبوي حول عربية اللسان دون أن يلتفت الى احتمال الوضع في هذا الحديث . وأود أن أشير هنا إلى أن هذا الحديث لم يرد في مصادر الحديث الموثوقة كما أن مضمونه يرجح كونه موضوعا بالنظر الى أن الجدل حول تحديد ما يشمله وصف العربي لم يكن شائعا في عهد النبي وانما ظهر بعد أن امتد الاسلام خارج بلاد العرب .

1976*

*كاتب وباحث عراقي (1932 - 1998)