في صحيفة «صوت الحجاز» قلت إن على أدباء الرعيل الأول أن يقبلوا إدراجى بين أسمائهم، بعد أن حاولت التأليف بشهادة الشيخ محمد سرور، وبعد أن حاولت نشر بعض إنتاجي على الرغم مما لاقيته من إعراض بادئ ذي بدء.
وأضيف هنا أنه كان لسنى الكبيرة دخل فيما يبدو، حيث أدركتني «هلوسة الأدب» في سن متأخرة، فبدأ الأدباء يقرؤون لكاتب جديد لا يجمعهم به جامع، ولم يسبق أن عرفوه إلا من اسمه في ذيل ما جد عليهم من كتاباته.
ومضت أيام عرفت في أثنائها الأستاذ فؤاد شاكر، فرشحنى للعمل محررا في جريدة «صوت الحجاز» تحت إدارة الشيخ محمد صالح نصيف، فكان له فضل المعلم في كثير مما أكتب.. كان لا يجيد صناعة الحرف، ولكنه كان ثاقب الذهن، يمر بما أكتب مرور الحاذق الذي يعرف كيف ينصرف الحرف. وعندما انتقل امتياز الجريدة إلى الشركة العربية للطبع والنشر، برئاسة الشيخ محمد سرور الصبان، طلب منى انضم إليها مديرا لأعمالها، بعد أن اختار لتحريرها الأساتذة عبدالوهاب آشي ومحمد حسن فقي ومحمد حسن عواد، فكنا يدا واحدة، أشاركهم في أعمال التحرير، ويساعدنى بعضهم في بعض أعمال الإدارة. كان راتبي في هذه الأثناء لا يتجاوز خمسين ريالا، وكان لكل منهم مكافأة يتقاضاها شهريا لا تزيد على ثلاثين ريالا.
وزيد راتبي على مر الأيام أو السنين، إن شئت، فأصبحت أتقاضی تسعین ريالا شهريا لقاء العمل مديرا لشركة الطبع والنشر، ومديرا للجريدة، ورئيسا مسؤولا عن تحريرها، ومديرا لمطبعتها.
كان راتبا يستحق الحسد في نظر الكثير على الرغم من أن أعمالي كانت شاقة، وإذا أضفت إلى هذا أعمالي الفخرية، ومن بينها في سكرتاريات الدفاع عن فلسطين والإسعاف ولجنة تنظيم مكتبة الحرم، ولجان غيرها نسيت أسماءها، علمت أنه مبلغ زهيد مقابل ما كنت أعانيه من نصب.
كانت الصحافة يومها جديدة في بلد جديد لم يألفها، وكان يزاولها من أمثالي شباب جديد ما عركته الحياة، وكان يشرف علينا معلمون جدد، حذقوا أبواب الفقه، ودرسوا علوم البلاغة، وأمعنوا طويلا في دواوين الشعر دون أن تمر بهم أساليب الصحافة.
أما نحن فلم تكن مقومات الصحافة عندنا خبرا وصورة بقدر ما نراها وسيلة لعلاج آرائنا الاجتماعية في الحياة.
وكنت أحد المتحمسين لقضايانا الاجتماعية، التي لو استطعت أن أفرغ كل ما يدور في رأسي من أفكار شابة وأذيبها حروفا مقروءة في مقالي الرئيسي، ولكن البيئة لا تميل لمثل هذا الشطط، فقد عاشت محافظة بكل ما في هذا من معنى، وهي تفرض عليك إلا أن تعيش رزينا، وأن تخنق في نفسك صبوة الشباب لئلا تزحف على ما آلفت أو تهاجم ما ورثت.
كان يصرح بي الصارخ وأنا أمشي في عرض الطريق على أثر كلمة نشرتها، انتقد فيها بعض تقاليدنا «يا جماعة فضحتونا الله يفضحكم.. إحنا ناس عشنا مستورين.. الناس تقدرنا وتقدر بلدنا، والحجاج يقدسونا حتى جيتونا بفضايحكم يا شباب.. عسى النار تشب فيكم ونستريح منكم!!».
فإذا قلت إن الناس تقدرنا أكثر إذا كنا صريحين مع أنفسنا، وأننا لا نتقدم في سلم الحياة إلا إذا تكاشفنا بما نحس من دائنا، فسوف لا تسمع ما يقنعك أو يرضيك.
1955*
* أديب وصحفي ومؤرخ سعودي «1905 - 1984»
وأضيف هنا أنه كان لسنى الكبيرة دخل فيما يبدو، حيث أدركتني «هلوسة الأدب» في سن متأخرة، فبدأ الأدباء يقرؤون لكاتب جديد لا يجمعهم به جامع، ولم يسبق أن عرفوه إلا من اسمه في ذيل ما جد عليهم من كتاباته.
ومضت أيام عرفت في أثنائها الأستاذ فؤاد شاكر، فرشحنى للعمل محررا في جريدة «صوت الحجاز» تحت إدارة الشيخ محمد صالح نصيف، فكان له فضل المعلم في كثير مما أكتب.. كان لا يجيد صناعة الحرف، ولكنه كان ثاقب الذهن، يمر بما أكتب مرور الحاذق الذي يعرف كيف ينصرف الحرف. وعندما انتقل امتياز الجريدة إلى الشركة العربية للطبع والنشر، برئاسة الشيخ محمد سرور الصبان، طلب منى انضم إليها مديرا لأعمالها، بعد أن اختار لتحريرها الأساتذة عبدالوهاب آشي ومحمد حسن فقي ومحمد حسن عواد، فكنا يدا واحدة، أشاركهم في أعمال التحرير، ويساعدنى بعضهم في بعض أعمال الإدارة. كان راتبي في هذه الأثناء لا يتجاوز خمسين ريالا، وكان لكل منهم مكافأة يتقاضاها شهريا لا تزيد على ثلاثين ريالا.
وزيد راتبي على مر الأيام أو السنين، إن شئت، فأصبحت أتقاضی تسعین ريالا شهريا لقاء العمل مديرا لشركة الطبع والنشر، ومديرا للجريدة، ورئيسا مسؤولا عن تحريرها، ومديرا لمطبعتها.
كان راتبا يستحق الحسد في نظر الكثير على الرغم من أن أعمالي كانت شاقة، وإذا أضفت إلى هذا أعمالي الفخرية، ومن بينها في سكرتاريات الدفاع عن فلسطين والإسعاف ولجنة تنظيم مكتبة الحرم، ولجان غيرها نسيت أسماءها، علمت أنه مبلغ زهيد مقابل ما كنت أعانيه من نصب.
كانت الصحافة يومها جديدة في بلد جديد لم يألفها، وكان يزاولها من أمثالي شباب جديد ما عركته الحياة، وكان يشرف علينا معلمون جدد، حذقوا أبواب الفقه، ودرسوا علوم البلاغة، وأمعنوا طويلا في دواوين الشعر دون أن تمر بهم أساليب الصحافة.
أما نحن فلم تكن مقومات الصحافة عندنا خبرا وصورة بقدر ما نراها وسيلة لعلاج آرائنا الاجتماعية في الحياة.
وكنت أحد المتحمسين لقضايانا الاجتماعية، التي لو استطعت أن أفرغ كل ما يدور في رأسي من أفكار شابة وأذيبها حروفا مقروءة في مقالي الرئيسي، ولكن البيئة لا تميل لمثل هذا الشطط، فقد عاشت محافظة بكل ما في هذا من معنى، وهي تفرض عليك إلا أن تعيش رزينا، وأن تخنق في نفسك صبوة الشباب لئلا تزحف على ما آلفت أو تهاجم ما ورثت.
كان يصرح بي الصارخ وأنا أمشي في عرض الطريق على أثر كلمة نشرتها، انتقد فيها بعض تقاليدنا «يا جماعة فضحتونا الله يفضحكم.. إحنا ناس عشنا مستورين.. الناس تقدرنا وتقدر بلدنا، والحجاج يقدسونا حتى جيتونا بفضايحكم يا شباب.. عسى النار تشب فيكم ونستريح منكم!!».
فإذا قلت إن الناس تقدرنا أكثر إذا كنا صريحين مع أنفسنا، وأننا لا نتقدم في سلم الحياة إلا إذا تكاشفنا بما نحس من دائنا، فسوف لا تسمع ما يقنعك أو يرضيك.
1955*
* أديب وصحفي ومؤرخ سعودي «1905 - 1984»