بعض الأجسام تتأخر حتى تشيخ، ولكنها ما إن تشرع بالشيخوخة حتى تهرم بسرعة ولا يعود أمامها من مصير غير الموت بدون أي عمر ثالث. وهذا يصدق بوجه خاص على الماركسية كجسم نظري. فإلى ربع قرن مضى كانت تبدو، رغم الانشقاقات ورغم الضربات المنهالة عليها من خصومها ومن أصدقائها الذين انقلبوا أعداء، في منتهى الحيوية. بل لقد كانت على درجة من المناعة جعلت كبير نقادها الذي هو جان بول سارتر يقول: إن الماركسية هي النظرية النقدية الكبرى لعصرنا، وأي نقد موجه إليها لا بد أن يكون على هامشها، إذ إنها، بوصفها أيديولوجيا العصر، غير قابلة للتجاوز، ولا حتى من قبل الوجودية نفسها التي قد تستطيع أن تحفر لنفسها خندقاً خاصاً ولكنها لا تستطيع أن تحارب إلا على جبهتها.
ولعل أحد المظاهر المبكرة لهرم الماركسية يكمن في الصمت الذي أحاط بها نظرياً في ربع القرن الأخير. فمن قبل ما كان أحد من المثقفين يغادر مدرستها إلا ويثير بفعل مغادرته بالذات ضجة تقترن بمثابة تصفية حساب للوعي السابق لمؤلفه وعرض الأسباب الخلاف والقطيعة، ذلك كان في الماضي شأن كتاب كبار من أمثال أرثر كوستلر وهنري لوفيفر وادغار موراث وروجيه غارودي. ولكن بعد ردة هذا الأخير، الذي اكتشف بعد أربعين سنة من النضال الفكري المسيحي «ثم» المسلم الذي في جلده الماركسي العتيق.
لم يعد أحد يصفي حسابه مع الماركسية علناً. ربما لأن الماركسية نفسها لم تعد منذ ذلك الحين ذات وزن. ولقد كان ريجيس دوبريه واحداً من آخر من غادروا قافلتها في صمت. فعل ذلك بعد اعتقاله وإطلاق سراحه في بوليفيا إثر هزيمة تشي غيفارا ومقتله. وبدلاً من نقد الماركسية حصراً آثر نقد العقل السياسي بإطلاق. ثم انصرف بعد ذلك إلى نقد حضارة الصورة التي هي حضارة الربع الأخير من القرن العشرين، وصرف كل اهتمامه إلى إنشاء علم جديد سماه باسم علم وسائل الإعلام الجماهيري (Mediologie)، وقدم في ذلك، مثل كل طالب علم، أطروحة دكتوراه في السوربون.
من هذا الصمت، من هذا النسيان لتصفية الحساب النظري، تنبع جزئياً أهمية كتاب هو عبارة عن حوار مطول دار بين ريجيس دوبريه وبين المفكر وعالم الاجتماع الماركسي، والذي لا يزال ماركسياً، جان زيغلر المتخصص في سوسيولوجيا الثورة والسلطة في العالم الثالث. وهذا الكتاب الحوار كان يمكن أن يكون عنوانه: ماذا يتبقى من الماركسية؟ لولا أنه يتعارض مع ماركسية محاوره الذي لا يزال يتمسك براهنيتها. ومن هنا وقع الاختيار، كبديل على الشطر الأخير من رباعية لناظم حکمت (الهواء ثقيل كالرصاص وأنا أصرخ، أصرخ، أصرخ، أصرخ. أن أكون سجيناً، ليس هذا هو السؤال، إنما بيت القصيد ألا أستسلم).
وفي هذا الحوار تبدو الغلبة النظرية في جانب ريجيس دوبريه، وإن بدت مواقع جان زيجلر بدورها منيعة من وجهة النظر الأخلاقية، ولكن إذا كان الموقف الأخلاقي هو كل ما تبقى من الماركسية، أفلا يعني ذلك تكريساً لموتها كنظرية، وأن الشكل الوحيد للانتماء إليها هو أن يكون المرء ماركسياً بلا ماركسية؟
1985*
* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016»
ولعل أحد المظاهر المبكرة لهرم الماركسية يكمن في الصمت الذي أحاط بها نظرياً في ربع القرن الأخير. فمن قبل ما كان أحد من المثقفين يغادر مدرستها إلا ويثير بفعل مغادرته بالذات ضجة تقترن بمثابة تصفية حساب للوعي السابق لمؤلفه وعرض الأسباب الخلاف والقطيعة، ذلك كان في الماضي شأن كتاب كبار من أمثال أرثر كوستلر وهنري لوفيفر وادغار موراث وروجيه غارودي. ولكن بعد ردة هذا الأخير، الذي اكتشف بعد أربعين سنة من النضال الفكري المسيحي «ثم» المسلم الذي في جلده الماركسي العتيق.
لم يعد أحد يصفي حسابه مع الماركسية علناً. ربما لأن الماركسية نفسها لم تعد منذ ذلك الحين ذات وزن. ولقد كان ريجيس دوبريه واحداً من آخر من غادروا قافلتها في صمت. فعل ذلك بعد اعتقاله وإطلاق سراحه في بوليفيا إثر هزيمة تشي غيفارا ومقتله. وبدلاً من نقد الماركسية حصراً آثر نقد العقل السياسي بإطلاق. ثم انصرف بعد ذلك إلى نقد حضارة الصورة التي هي حضارة الربع الأخير من القرن العشرين، وصرف كل اهتمامه إلى إنشاء علم جديد سماه باسم علم وسائل الإعلام الجماهيري (Mediologie)، وقدم في ذلك، مثل كل طالب علم، أطروحة دكتوراه في السوربون.
من هذا الصمت، من هذا النسيان لتصفية الحساب النظري، تنبع جزئياً أهمية كتاب هو عبارة عن حوار مطول دار بين ريجيس دوبريه وبين المفكر وعالم الاجتماع الماركسي، والذي لا يزال ماركسياً، جان زيغلر المتخصص في سوسيولوجيا الثورة والسلطة في العالم الثالث. وهذا الكتاب الحوار كان يمكن أن يكون عنوانه: ماذا يتبقى من الماركسية؟ لولا أنه يتعارض مع ماركسية محاوره الذي لا يزال يتمسك براهنيتها. ومن هنا وقع الاختيار، كبديل على الشطر الأخير من رباعية لناظم حکمت (الهواء ثقيل كالرصاص وأنا أصرخ، أصرخ، أصرخ، أصرخ. أن أكون سجيناً، ليس هذا هو السؤال، إنما بيت القصيد ألا أستسلم).
وفي هذا الحوار تبدو الغلبة النظرية في جانب ريجيس دوبريه، وإن بدت مواقع جان زيجلر بدورها منيعة من وجهة النظر الأخلاقية، ولكن إذا كان الموقف الأخلاقي هو كل ما تبقى من الماركسية، أفلا يعني ذلك تكريساً لموتها كنظرية، وأن الشكل الوحيد للانتماء إليها هو أن يكون المرء ماركسياً بلا ماركسية؟
1985*
* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016»