ظهرت فلسفة الوجودية محاولة لإنقاذ الإنسان، بإرجاع ذاته الخالصة إليه، ليعيد تشكيلها على صورة نضمن له صفتها الإنسانية، بعد تجاربه العنيفة التي مر بها، وعلى رأسها تجربتا الحرب والسلام الشكلي.
كل تلك المحاولات الفكرية تتصارع من أجل تحققها في مجال إنساني على نطاق أوسع من غيرها، ويأخذ صراعها شكلًا عنيفًا بالفعل، ولكنه مع ذلك دليل على الاستجابة للواقع المضطرب، والانفعال به، وهو دليل أيضًا على أنها تحاول شق الطريق إلى مستقبل أكثر قابلية للحياة الإنسانية، ولهذا فهي بما فيها من أخطاء - محاولات فكرية راقية تعمل كلها على مواجهة مشاكلنا الحديثة دون أن تفر، في شكل سلبي، إلى ماض بعيد أو قريب لتستقر فيه، ولكنها تعود إليه إن عادت، لتضيف له، ما دامت قد ظهرت في مجتمعات ذات ماض من صفاته أن الإضافة إليه ممكنة.
وليس في التجارب التي مرت بها مجتمعات الشرق العربي على وجه الخصوص، عنصر ضعف إلا من ناحية الاستجابة لها، فهي في الغالب استجابة سلبية غير فعالة، بحيث تحمل في مضمونها ثورة على وضع ثم تحاول تصحيحه بإحلال غيره محله، ولذلك المحنة الإنسان في مجتمعاتنا، أعنف من غيرها الإنسانية الأخرى، ويمكن أن نلمس بوضوح أن الإنسان فيها. باختياره، قد أصبح نوعًا ثانيًا غير ذلك الموجود بالمعلاق في أمم العالم التي تنصهر باستمرار، ولكنها تستفيد دائمًا، ففي مجتمعات الشرق، نجد فكرة الاستعمار متحققة بشكل مادي يمكن أن تتصور تلاشيه في يوم ما، وبشكل معنوي يصعب لقوته، أن نتصور اليوم الذي سيختفي فيه. إن الإنسان الأول هو ذلك الذي يعيش في عصره أو يسبقه، أما الإنسان الثاني فهو ذلك الذي يختار التجمد أمام واقعه، فيعيش بعيدًا عنه، معتمدًا على أمجاد الذين ماتوا ومكتفيًا بما تركوه من بقايا حياتهم، بعد أن يعمل منطقه الكسول على تبرير وضعه، کهارب من حاضره، بينما تنظر الحياة إليه، على أنه وضع شاذ لا يمكن إعطاؤه صفة الإنسانية السليمة مجالا من الأحوال. والظاهرة المرضية التي تواجه الدارس لواقع المجتمعات في الشرق العربي، هي الإيمان في عبودية بالماضي، وعدم الإحساس بتيار الزمن حتى يستجيب الإنسان للتغير الذي يطرأ على الحياة، ويستغله على شكل إيجابي في التمهيد إلى مستقبل أرقى، والايمان بالماضي على هذا الشكل قد أفقد هذه المجتمعات فرصًا كثيرة للتقدم، وأصاب حيويتها بالخمول، بحيث لا تستطيع أن تواجه مشكلة من مشاكلها، أو تبذل جهدًا له قيمة في سبيل الوصول إلى حلول صالحة. هذا الماضي الذي يدعو البعض في صراحة إلى الاعتراف به كممثل لوجداننا الجماعي، قد أساء إلى حياتنا بكل ما تحمله كلمة الإساءة من عناصر جزئية. وأقرب مثل يمكن أن تقدمه، هو انفعالنا الوجداني والفكري لمأساة اللاجئين، إذ إن نظرة سليمة إليه تبين لنا مدى الشكلية في موقفنا منها، حيث لم نستطع أن نستخرج المشكلة الكامنة فيها، ولم نستطع بالتالي أن نعطي موقفنا أمامها صفة الإيجابية التي تواصل السعي في محاولة مستمرة للبحث عن الحل. والذي حدث تمامًا هو أن انفعالنا الوجداني بهذه المشكلة قد أخذ صورة العقيدة القديمة (إن لم يكن في إطارها، ففي المضمون)، ولو جمع ما كتب متصلا بها، وهو كثير إلى حد بعيد، لظهرت فيه حقيقة الموقف السلبي للوجدان العربي الذي كان يتأثر بخطى الماضى ويعمل في حدود أشكاله الفنية، ولو أن وجدانًا انفعل بصدق، وكان انفعاله معتمدًا على تجربته الذاتية، لا تجربة بعيدة تتعلق بالآخرين، لكان هذا كفيلًا بالوصول إلى مرحلة فكرية ذات طابع إيجابي هي دراسة المشكلة من زواياها المختلفة دراسة وعي تشارك في العادة الإنسانية المساوية إلى هذا المجتمع الطريد بلا وطن، ولا حاضر، ولا مستقبل، مع أنه يتنفس على الأرض تمامًا كما يفعل الأحياء.
1971*
* ناقد مصري «1934 - 2008»
كل تلك المحاولات الفكرية تتصارع من أجل تحققها في مجال إنساني على نطاق أوسع من غيرها، ويأخذ صراعها شكلًا عنيفًا بالفعل، ولكنه مع ذلك دليل على الاستجابة للواقع المضطرب، والانفعال به، وهو دليل أيضًا على أنها تحاول شق الطريق إلى مستقبل أكثر قابلية للحياة الإنسانية، ولهذا فهي بما فيها من أخطاء - محاولات فكرية راقية تعمل كلها على مواجهة مشاكلنا الحديثة دون أن تفر، في شكل سلبي، إلى ماض بعيد أو قريب لتستقر فيه، ولكنها تعود إليه إن عادت، لتضيف له، ما دامت قد ظهرت في مجتمعات ذات ماض من صفاته أن الإضافة إليه ممكنة.
وليس في التجارب التي مرت بها مجتمعات الشرق العربي على وجه الخصوص، عنصر ضعف إلا من ناحية الاستجابة لها، فهي في الغالب استجابة سلبية غير فعالة، بحيث تحمل في مضمونها ثورة على وضع ثم تحاول تصحيحه بإحلال غيره محله، ولذلك المحنة الإنسان في مجتمعاتنا، أعنف من غيرها الإنسانية الأخرى، ويمكن أن نلمس بوضوح أن الإنسان فيها. باختياره، قد أصبح نوعًا ثانيًا غير ذلك الموجود بالمعلاق في أمم العالم التي تنصهر باستمرار، ولكنها تستفيد دائمًا، ففي مجتمعات الشرق، نجد فكرة الاستعمار متحققة بشكل مادي يمكن أن تتصور تلاشيه في يوم ما، وبشكل معنوي يصعب لقوته، أن نتصور اليوم الذي سيختفي فيه. إن الإنسان الأول هو ذلك الذي يعيش في عصره أو يسبقه، أما الإنسان الثاني فهو ذلك الذي يختار التجمد أمام واقعه، فيعيش بعيدًا عنه، معتمدًا على أمجاد الذين ماتوا ومكتفيًا بما تركوه من بقايا حياتهم، بعد أن يعمل منطقه الكسول على تبرير وضعه، کهارب من حاضره، بينما تنظر الحياة إليه، على أنه وضع شاذ لا يمكن إعطاؤه صفة الإنسانية السليمة مجالا من الأحوال. والظاهرة المرضية التي تواجه الدارس لواقع المجتمعات في الشرق العربي، هي الإيمان في عبودية بالماضي، وعدم الإحساس بتيار الزمن حتى يستجيب الإنسان للتغير الذي يطرأ على الحياة، ويستغله على شكل إيجابي في التمهيد إلى مستقبل أرقى، والايمان بالماضي على هذا الشكل قد أفقد هذه المجتمعات فرصًا كثيرة للتقدم، وأصاب حيويتها بالخمول، بحيث لا تستطيع أن تواجه مشكلة من مشاكلها، أو تبذل جهدًا له قيمة في سبيل الوصول إلى حلول صالحة. هذا الماضي الذي يدعو البعض في صراحة إلى الاعتراف به كممثل لوجداننا الجماعي، قد أساء إلى حياتنا بكل ما تحمله كلمة الإساءة من عناصر جزئية. وأقرب مثل يمكن أن تقدمه، هو انفعالنا الوجداني والفكري لمأساة اللاجئين، إذ إن نظرة سليمة إليه تبين لنا مدى الشكلية في موقفنا منها، حيث لم نستطع أن نستخرج المشكلة الكامنة فيها، ولم نستطع بالتالي أن نعطي موقفنا أمامها صفة الإيجابية التي تواصل السعي في محاولة مستمرة للبحث عن الحل. والذي حدث تمامًا هو أن انفعالنا الوجداني بهذه المشكلة قد أخذ صورة العقيدة القديمة (إن لم يكن في إطارها، ففي المضمون)، ولو جمع ما كتب متصلا بها، وهو كثير إلى حد بعيد، لظهرت فيه حقيقة الموقف السلبي للوجدان العربي الذي كان يتأثر بخطى الماضى ويعمل في حدود أشكاله الفنية، ولو أن وجدانًا انفعل بصدق، وكان انفعاله معتمدًا على تجربته الذاتية، لا تجربة بعيدة تتعلق بالآخرين، لكان هذا كفيلًا بالوصول إلى مرحلة فكرية ذات طابع إيجابي هي دراسة المشكلة من زواياها المختلفة دراسة وعي تشارك في العادة الإنسانية المساوية إلى هذا المجتمع الطريد بلا وطن، ولا حاضر، ولا مستقبل، مع أنه يتنفس على الأرض تمامًا كما يفعل الأحياء.
1971*
* ناقد مصري «1934 - 2008»