عبدالله بن خميس

... قضية ثانية شاهدتها حينما تحفز العرب للانقضاض على عدوهم في فلسطين وتشكل جيش الإنقاذ ورجع كل إلى أصله وكل فرع إلى أرومته، قام من بين أبناء الجزيرة في الشام شباب على رأسهم الأخ الزميل الأستاذ فهد آل مارق فعقدوا لواءنا الأخضر وكتبوا عليه كلمة التوحيد وانطلقوا به في شوارع دمشق، فأخذ أبناء الجزيرة يهرعون إليه من كل حدب وصوب ويستقبلونه ويجتمع حوله عدد كبير، لترفع سفارتنا في دمشق برقية لجلالة الملك عبد العزير ليأمر بتسليحهم وتموينهم وتجهيزهم إلى الجبهة فأبلوا بلاء حسنا.. واستشهد من استشهد وأصيب من أصيب.. وهناك دار للرعاية في دمشق تعلم أبناء هؤلاء وغيرهم من اليتامى من أبناء الجزيرة وتنفق عليهم وتعدهم ليكونوا أعضاء عاملين في مجتمعهم ذكورًا وإناثًا على نفقة المحسنين من أبناء المملكة وبمساعدة الدولة السعودية ورعاية حكومة دمشق..

ولم تكن صلة النسب والجوار واحتضان الجاليات والتجارة والمصالح المشتركة بين البلدين.. لم تكن هذه كلها وغيرها مما هو على شاكلتها.. بأحظى وأعمق وآصل من صلة العقيدة والثقافة والمبدأ بيننا وبين أبناء الشام، فلقد كان شيوخ المذهب الحنبلي الذي يتمذهب به أهل قلب الجزيرة العربية شاميين، وكان إعلام هذا المذهب ومحققوه وحملته ومؤلفوه من أهل الشام، وأكثر الكتب المعتبرة في المذهب الحنبلي شامية فكتب ابن قدامة وكتب ابن تيمية وكتب ابن مفلح وكتب ابن القيم وغيرها من الكتب الكثيرة النفيسة المؤلفة في المذهب الحنبلي بل هي المراجع الكبرى فيه التي يعول عليها الحنابلة في قلب الجزيرة، وليس ذلك جديدًا بل كان هذا منذ أن انتشرت مذاهب الفقه الإسلامي في أقطار العالم الإسلامي. ولذا تقوم علاقة وثيقة فقهية بين القطرين من الحنابلة منذ ذلك الحين قائمة على العلم والتعليم وتبادل المخطوطات ونشر الدراسات الفقهية والفتاوى، يحيط بذلك خبرة وإدراك علماء نجد الإعلام وإخوانهم من الحنابلة في الشام كاهل بلدة - دوما - وغيرهم..

ومن هذا المنطلق استقى الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله دعوته من إمام علماء الشام وحبرها العلم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بل الله ثراه فدعوة ابن عبد الوهاب لم تخرج مما حققه ابن تيمية في مذهب السلف قيد أنملة بل إن كتبه في العقيدة وفتاواه في الشريعة ونظراته في التحقيق هي عمدة محققي أهل نجد ومرجعهم، وكذلك من سار على هذا الدرب من تلامذة ابن تيمية ومن مشايخه أمثال ابن قيم الجوزية والذهبي وابن كثير من علماء السلف الإعلام في كل زمان ومكان... ولا تنس أنه حينما كادت تقفر بلاد نجد من العلماء المحققين في زمن الملك عبدالعزيز رحمه الله أنشأ دارا أسماها - دار التوحيد، وجعل مقرها الطائف، واختار لها من نابهي شباب البلاد مئات الطلاب، ووفر لها سائر الإمكانيات العلمية والمادية، واختار لرئاستها وتوجيهها علامة الشام المغفور له الشيخ محمد بهجة البيطار الدمشقي الميداني السلفي الذي أعطى هذه الدار من جهده ووقته وعليه ما أرجو أن يضاعفه الله له مثوبة وأجرًا، فلقد أبلى في النهوض بهذه الدار بلاء حسنا وواجه من عجر وبجر طلبة قسروا على الغربة وأخذوا من بين أهلهم وذويهم من سائر أقطار نجد ليتفرغوا للعلم في هذه الدار بالطائف ويعارضون، فكان يقابلهم بالصبر ويلقاهم بالجلد ويوجههم باللين تارة وبالشدة أخرى حتى أنجبت هذه الدار صفوة تعتبر بحق النواة الأولى العلم وثقافة عصرية في قلب الجزيرة. ويشرف كاتب هذه السطور أن يكون أحد من أنجبتهم هذه الدار وان كان يشعر بأنه متشبه بهم، وعلى حد قول القائل:

فتشبهوا أن لم تكونوا مثلهم

أن التشبه بالكرام فلاح

غفر الله لك يا بهجة البيطار وجزاك عن هذه الدار ومنسوبيها خير الجزاء وحيا الله الشام تصدر الثقافة لقلب الجزيرة أو تمدها بفيض علمها ومن ثقافتها...

وأخيرًا فنحن على صلات ثقافية وعلمية ونسبية وتجارية.. وصلات جوار ولغة وتراب ودم ومال وآلام تربط قلب جزيرة العرب بالشام، والشام بقلب جزيرة العرب لها جذور تمتد إلى ما قبل الإسلام وتقبل حتى يومنا هذا لا تؤثر فيها الهزات ولا ترنحها الرياح ولا تغمزها اتجاهات الحكم وتقلباته في كلا القطرين.. صلات أصيلة نبيلة على رأسها العقيدة والمذهب.. فلنكن جميعا أوفياء لهذه الصلات بررة بهذه الوشائج مدركين لواقع هذه الصلات على حقيقة وعلم بها لتبقى حية متفتحة يزيدها الزمن نموًا وعطاء ورسوخًا...

هذه رؤوس أقلام عن هذه الصلات أرجو أن يهيئ الله لها من يأخذها بالدراسة المتمكنة المبسطة في مؤلف يحيى منها ما اندرس ويحقق ما يعوزه التحقيق ويطلع جيل اليوم على حقيقة كادت أن تنسى وواقع كاد أن ينطمس.. فعسى ولعل.

1977*

* شاعر وصحافي ومؤرخ سعودي «1919 - 2011»