ذخرٌ هائل تحمله سُحبُ التاريخ القديم والحديث، تتعدّد خلاله المواقف والظواهر والأفكار والطرائف الثقافيّة المأسويّة، نماذج تتنافس في درجة البشاعة، فمن الحَجْرِ على الفكر، إلى قتلِ الإبداع، وتبديد المَلَكات، إلى مُصادَرة الرؤية والتشدُّق بمسَارِ منطقٍ أحاديّ لا يعترف بغَير ذاته، ويرمي في الآن ذاته إلى إلصاق الاتّهامات الجزافيّة بالآخر الثائر المتطلّع للتجديد والإضافة والإثراء الرّافض للتقليد والركود والخنوع الفكريّ والثقافيّ.
ولمّا كانت حركةُ التاريخ تتمحور بين التحدّي والاستجابة، فقد سحقتِ الاستجابةُ كلّ التحدّيات التي مارستها سلطاتُ القهر الفكري والمعنوي على الكتّاب والأدباء والشعراء والفلاسفة والعُلماء، وذابت هذه السلطات مع تصارُع موجات الزمن، لكن ظلّت راياتُ الاستجابة خفّاقةً متحدّيةً أيّ تحدٍّ يستجدّ. لذا لم تَغِب عن صفحات الذاكرة الإنسانيّة أسماءٌ كثيرة لها بصمات نضاليّة في المُعترَك الفكري، كان لها انعكاساتٌ مباشرة على أحداث تاريخٍ صدامي حافل، لكنّه كان هو البوصلة التنويريّة في تاريخ الثقافة الإنسانيّة. ويتصدّر بعض هؤلاء سقراط، ابن رشد، أبو حيّان التوحيدي، هيباتيا، هاريت بيتشر، غارودي، والشاعر أوفيد؛ وكذلك دانتي وجيمس جويس وغيرهم كثير ممَّن أَحدثوا تحوّلاتٍ جذريّة في مَسار الفكر والإبداع.
تحرير الوعي العربي
أحدث الوقائع التي أثارت الحديث عن هذه القضيّة بأبعادها كافّة، هو رحيل الأديبة الرياديّة اللّبنانيّة ليلى بعلبكي التي كانت في حياتها إحدى ضحايا مُجتمع استلبَ كينونتَها وإنسانيّتَها وتآمر على سحْقِ مَلَكاتِها الذاتيّة المتفرّدة حين جَعَلَ عُمرَها الروائيّ عقدًا واحدًا، بينما امتدَّ عمرُها الزمني نحو تسعة عقود؛ وهذه هي أبسط معاني القمع النفساني والمعنوي التي عايشت مأساتها ليلى بعلبكي وأعمقها، وكان ثمنها العزلة والانطواء والاكتئاب والإحباط وطمْس الموهبة وتبديد الطّاقة والإطاحة بالشغف الكتابي.
وبالطبع جاء ذلك كلّه على أثر اتّهامها بخدْشِ الحياء العامّ، وتشجيع الابتذال، وإشاعة الهبوط الأخلاقي، وهي الذرائع الهشّة التي قادت إلى إحالتها للمُحاكَمة والمُطالَبة بسجْنها وتغريمها. وقد أَحدثت تلك المُحاكمة دويًّا هائلًا في أوساط النّخبة المثقّفة داخل لبنان وخارجه، وفي قلب أوروبا أيضًا. ومن هنا فقد صارت روايتُها «أنا أحيا» من أشهر الروايات العربيّة على الإطلاق في نهايات العقد الخامس من القرن الفائت، والتي نقلَها إلى الفرنسية الكاتب الفرنسي ميشال باربو؛ إذ كانت الرواية بمثابة ثورة تمرُّدٍ عارمة على القيَم البالية والثوابت التي لا لزوم لها، ومثَّلت بتمرُّدِها هذا ثورةً أخرى على الفنّ الروائي الكلاسيكي، وكذلك على الفنّ الروائي اللّبناني. وهذا المَسار هو نفسه الذي تنطلق منه دائمًا حركاتُ التنوير والتيّارات التجديديّة كافّة، الفاعلة في إحداث التغيير الذي تستوجبه اللّحظة وليدة الظرف المجتمعي. وذلك كلّه طَلَبًا لإشاعة مناخات الحريّة التي تنبثق عنها سيادةُ الفضائل العقليّة والاعتصام بالطموحات المستقبليّة. وهو المسار عَيْنه الذي اعتمدته ليلى بعلبكي حين خطّت روايتها «الآلهة الممسوخة» كنَوعٍ من الردّ الحاسِم على النقّاد الذين اعتَبروا رواية «أنا أحيا» هي بيضة الديك، بينما كانت روائيّتُنا تؤكِّد أنّها تحمل في جعبتها توجُّهًا فكريًّا إبداعيًّا تُحاول ترسيخ ملامحه في العقل الجمعي.
ولعلّ من أغرب الغرائب أنّ ما عاشته ليلى بعلبكي من فظائع، جَعَلَها تنسحب من الساحة الأدبيّة والثقافيّة. وهو الأمر الذي يظلّ حتّى اللّحظة يُحرِّك لدينا قضيّة تحرير الوعي العربي من أُفق الأحاديّة والدوغمائيّة، بل كلّ الآفات الذهنيّة المرتبطة بذلك، والتي جعلت من السياق الحياتي نمطًا رجعيًّا.
السيولة الزمنيّة
يتجلّى العديد من التساؤلات المستوجبة للطرح منها: هل كان انسحاب الروائيّة بعلبكي من الساحة الأدبيّة يمثِّل نَوعًا من الاستسلام لسطوة التقوقُع المجتمعي؟ أم كان يمثّل جبروتَ أديبة اكتفت بتقديم رواية عاصفة استطاعت خلالها تحريك العقول والأنفس والتوجُّهات والرؤى، تاركةً أثراً لا يُماثَل، وتلك هي الغاية المنشودة لأيّ أديبٍ أو كاتب؟ وكيف حقَّق غيابُها طيلة نصف قرن وجودًا حيًّا حتّى أنّها قد صارت رمزًا تاريخيًّا؟
كيف استقامَ لأديبةٍ عربيّة أن تنحصر أعمالها في ثلاث أيقونات هي «أنا أحيا»، «الآلهة الممسوخة» و«سفينة حنان إلى القمر»، بينما امتدَّت فضاءاتُ شهرتها إلى مدياتٍ بعيدة؟ وكيف يُمكن ترجمة تلك التناقضات البارزة بين رواية تُتَّهم بالابتذال والإسفاف، وعلى الجانب الآخر يكون تأكيد النقّاد على أنّ التأريخ للرواية العربيّة النسائيّة لا يُمكن أن يتجاهل نتاج ليلى بعلبكي؟
علاقة الإبداع والمعرفة بالسلطة
وكيف استلهمَ النقّادُ من مؤلّفاتها القليلة كلّ هذا الطوفان من الشروح والتفسيرات والتحليلات التي تتجاوز كثيرًا أضعاف ما سجَّلته الكاتبة بعلبكي من خواطر وانطباعات وأفكار تحمل رؤاها للعالَم؟ وهل تؤمِن الأجيالُ المقبلة بقوّة زلزال الكلمة عبر الزمن، ومدى تأثيرها على الأفراد والجماعات والأنظمة والشعوب؟
إنّ البطولة التي مثّلتها ليلى بعلبكي في وجه الطغيان الفكري، كانت بالكلمة التي ارتدّت إلى صدر السلطة التي حاكمتها فحين سُئلت: لماذا تكتبين بهذه الطريقة؟ استنكرتْ قائلة: أنا أكتب عن البشر وأحوالهم في هذا البلد، وروايتي لم تَخرج عن تصوير الواقع بحذافيره وتفصيلاته، فإذا كان أمرُ مُصادَرة الرواية حتميًّا، فلا بدّ من أن يُصادَر البشر قبلها، لأنّهم مادّتها الثريّة!! فبهتَ الذي ادّعى، لكنّه واصلَ حماقاته المعهودة لتسجِّل يداه قصّةً جديدة في علاقة الإبداع والمعرفة بالسلطة!
ولعلّ الذين يدقّقون ويتفحّصون البانوراما الروائيّة لليلى بعلبكي يجدون أنّ هناك تماساتٍ واشتباكاتٍ مع كاتباتٍ أخريات، من حيث المُنطلقات العامّة العائدة في بعضها إلى قناعاتٍ خاصّة بمبادىء مؤسَّسة على حريّة الفكر، تلك المُنتِجة بالضرورة لهالات الإبداع.
وعلى ذلك يتجلّى التلاحُم الحيويّ بين ليلى بعلبكي وسيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الآخر»، أو فرانسواز ساغان في هواجسها وخيالاتها، وامتدادًا لذلك كانت البصمة العتيدة على أعمال فاطمة المرنيسي وأحلام مستغانمي... وغيرهنّ كثيرات.
وإشادةً بذاتها وبجيلِها، وأملًا في وضعِ حدودٍ فاصلة تحول دون التفكير في السيولة الزمنيّة وتَمنح كلَّ جيلٍ استقلاليّةً وخصوصيّةً في إطارِ التغيّرات المتلاحقة ليُصبح الحكم المعياري على الأجيال نسبيًّا لا مُطلقًا، فلا يُمكن الحُكم على الماضي بمقاييس الحاضر، ولا الحُكم على المستقبل بمعايير الحاضر، ولا بشرطيّات الماضي على ظرفيّات الحاضر؛ ومن ذلك فقد جاءت صيحة بعلبكي المدوّية عبر مُحاضرةٍ مدوّية كان عنوانها «نحن بلا أقنعة» حاولت فيها أن تؤكّد عُمق الاعتداد بشخصيّة جيلها قائلة: نحن جيلٌ جديد يرفض سلطة الكبار ويُطالِب بحريّته ويسعى للخلاص من هَيْمنة الكبار من الآباء إلى السلطة السياسيّة ونرفض كذلك القسمة بين حاكمٍ ومحكوم، نرفض القيَم التي لم نُسهِم في وضعها، نرفض القوانين التي صَنعتِ القيود، نحن جيل اليوم.. يسمّوننا بالمتمرّدين، الضائعين، الشاردين، الفوضويّين،.. كلّ ما على الأرض لا يُمثِّلنا ولا يرضينا لأنّه من صنْع غيرنا.
والمتأمِّل لهذا السياق يَستشعرُ بتفوُّق جيلها على الأجيال الغابرة بينما الأجيال اللّاحقة يُمكن لها ترديد النداءات نفسِها المُشيرة إلى التفرُّد والألمعيّة. فلا أفضليّة لجيلٍ على جيل إلّا إذا كانت الأجيال الماضية قد قصَّرت في أداء أدوارها وانسحقت أمام التحدّيات الماثلة أمامها؛ لكنّ المتأمِّل أيضًا يُمكنه أن يَستشعرَ الوصايا والسطوة نفسها لجيلٍ على جيل إلّا في استثناءاتٍ قليلة حين تَستولي عليه قيَمُ التراجُع تلك التي تجعله يُبدِّد الفُرص ولا يتحيَّن الانطلاق والفاعليّة، وهو ما يحول بالضرورة نحو تسجيل وجوده في الإطار الزمنيّ.
ليلي بعلبكي
(1934 - 2023) كاتبة وأديبة وصحافية لبنانية.
خريجة معهد الآداب الشرقية التابع لجامعة القديس يوسف.
من روّاد الكتابة النسوية في لبنان والعالم العربي
أسّست لنوع جريء من الأدب الروائي في الستينيات، عبر روايتها الأولى «أنا أحيا»
عملت في الأمانة العامة للمجلس النيابي اللبناني بين سنتي 1957 و1960
* أستاذ علم الاجتماع السياسيّ- مصر
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية
ولمّا كانت حركةُ التاريخ تتمحور بين التحدّي والاستجابة، فقد سحقتِ الاستجابةُ كلّ التحدّيات التي مارستها سلطاتُ القهر الفكري والمعنوي على الكتّاب والأدباء والشعراء والفلاسفة والعُلماء، وذابت هذه السلطات مع تصارُع موجات الزمن، لكن ظلّت راياتُ الاستجابة خفّاقةً متحدّيةً أيّ تحدٍّ يستجدّ. لذا لم تَغِب عن صفحات الذاكرة الإنسانيّة أسماءٌ كثيرة لها بصمات نضاليّة في المُعترَك الفكري، كان لها انعكاساتٌ مباشرة على أحداث تاريخٍ صدامي حافل، لكنّه كان هو البوصلة التنويريّة في تاريخ الثقافة الإنسانيّة. ويتصدّر بعض هؤلاء سقراط، ابن رشد، أبو حيّان التوحيدي، هيباتيا، هاريت بيتشر، غارودي، والشاعر أوفيد؛ وكذلك دانتي وجيمس جويس وغيرهم كثير ممَّن أَحدثوا تحوّلاتٍ جذريّة في مَسار الفكر والإبداع.
تحرير الوعي العربي
أحدث الوقائع التي أثارت الحديث عن هذه القضيّة بأبعادها كافّة، هو رحيل الأديبة الرياديّة اللّبنانيّة ليلى بعلبكي التي كانت في حياتها إحدى ضحايا مُجتمع استلبَ كينونتَها وإنسانيّتَها وتآمر على سحْقِ مَلَكاتِها الذاتيّة المتفرّدة حين جَعَلَ عُمرَها الروائيّ عقدًا واحدًا، بينما امتدَّ عمرُها الزمني نحو تسعة عقود؛ وهذه هي أبسط معاني القمع النفساني والمعنوي التي عايشت مأساتها ليلى بعلبكي وأعمقها، وكان ثمنها العزلة والانطواء والاكتئاب والإحباط وطمْس الموهبة وتبديد الطّاقة والإطاحة بالشغف الكتابي.
وبالطبع جاء ذلك كلّه على أثر اتّهامها بخدْشِ الحياء العامّ، وتشجيع الابتذال، وإشاعة الهبوط الأخلاقي، وهي الذرائع الهشّة التي قادت إلى إحالتها للمُحاكَمة والمُطالَبة بسجْنها وتغريمها. وقد أَحدثت تلك المُحاكمة دويًّا هائلًا في أوساط النّخبة المثقّفة داخل لبنان وخارجه، وفي قلب أوروبا أيضًا. ومن هنا فقد صارت روايتُها «أنا أحيا» من أشهر الروايات العربيّة على الإطلاق في نهايات العقد الخامس من القرن الفائت، والتي نقلَها إلى الفرنسية الكاتب الفرنسي ميشال باربو؛ إذ كانت الرواية بمثابة ثورة تمرُّدٍ عارمة على القيَم البالية والثوابت التي لا لزوم لها، ومثَّلت بتمرُّدِها هذا ثورةً أخرى على الفنّ الروائي الكلاسيكي، وكذلك على الفنّ الروائي اللّبناني. وهذا المَسار هو نفسه الذي تنطلق منه دائمًا حركاتُ التنوير والتيّارات التجديديّة كافّة، الفاعلة في إحداث التغيير الذي تستوجبه اللّحظة وليدة الظرف المجتمعي. وذلك كلّه طَلَبًا لإشاعة مناخات الحريّة التي تنبثق عنها سيادةُ الفضائل العقليّة والاعتصام بالطموحات المستقبليّة. وهو المسار عَيْنه الذي اعتمدته ليلى بعلبكي حين خطّت روايتها «الآلهة الممسوخة» كنَوعٍ من الردّ الحاسِم على النقّاد الذين اعتَبروا رواية «أنا أحيا» هي بيضة الديك، بينما كانت روائيّتُنا تؤكِّد أنّها تحمل في جعبتها توجُّهًا فكريًّا إبداعيًّا تُحاول ترسيخ ملامحه في العقل الجمعي.
ولعلّ من أغرب الغرائب أنّ ما عاشته ليلى بعلبكي من فظائع، جَعَلَها تنسحب من الساحة الأدبيّة والثقافيّة. وهو الأمر الذي يظلّ حتّى اللّحظة يُحرِّك لدينا قضيّة تحرير الوعي العربي من أُفق الأحاديّة والدوغمائيّة، بل كلّ الآفات الذهنيّة المرتبطة بذلك، والتي جعلت من السياق الحياتي نمطًا رجعيًّا.
السيولة الزمنيّة
يتجلّى العديد من التساؤلات المستوجبة للطرح منها: هل كان انسحاب الروائيّة بعلبكي من الساحة الأدبيّة يمثِّل نَوعًا من الاستسلام لسطوة التقوقُع المجتمعي؟ أم كان يمثّل جبروتَ أديبة اكتفت بتقديم رواية عاصفة استطاعت خلالها تحريك العقول والأنفس والتوجُّهات والرؤى، تاركةً أثراً لا يُماثَل، وتلك هي الغاية المنشودة لأيّ أديبٍ أو كاتب؟ وكيف حقَّق غيابُها طيلة نصف قرن وجودًا حيًّا حتّى أنّها قد صارت رمزًا تاريخيًّا؟
كيف استقامَ لأديبةٍ عربيّة أن تنحصر أعمالها في ثلاث أيقونات هي «أنا أحيا»، «الآلهة الممسوخة» و«سفينة حنان إلى القمر»، بينما امتدَّت فضاءاتُ شهرتها إلى مدياتٍ بعيدة؟ وكيف يُمكن ترجمة تلك التناقضات البارزة بين رواية تُتَّهم بالابتذال والإسفاف، وعلى الجانب الآخر يكون تأكيد النقّاد على أنّ التأريخ للرواية العربيّة النسائيّة لا يُمكن أن يتجاهل نتاج ليلى بعلبكي؟
علاقة الإبداع والمعرفة بالسلطة
وكيف استلهمَ النقّادُ من مؤلّفاتها القليلة كلّ هذا الطوفان من الشروح والتفسيرات والتحليلات التي تتجاوز كثيرًا أضعاف ما سجَّلته الكاتبة بعلبكي من خواطر وانطباعات وأفكار تحمل رؤاها للعالَم؟ وهل تؤمِن الأجيالُ المقبلة بقوّة زلزال الكلمة عبر الزمن، ومدى تأثيرها على الأفراد والجماعات والأنظمة والشعوب؟
إنّ البطولة التي مثّلتها ليلى بعلبكي في وجه الطغيان الفكري، كانت بالكلمة التي ارتدّت إلى صدر السلطة التي حاكمتها فحين سُئلت: لماذا تكتبين بهذه الطريقة؟ استنكرتْ قائلة: أنا أكتب عن البشر وأحوالهم في هذا البلد، وروايتي لم تَخرج عن تصوير الواقع بحذافيره وتفصيلاته، فإذا كان أمرُ مُصادَرة الرواية حتميًّا، فلا بدّ من أن يُصادَر البشر قبلها، لأنّهم مادّتها الثريّة!! فبهتَ الذي ادّعى، لكنّه واصلَ حماقاته المعهودة لتسجِّل يداه قصّةً جديدة في علاقة الإبداع والمعرفة بالسلطة!
ولعلّ الذين يدقّقون ويتفحّصون البانوراما الروائيّة لليلى بعلبكي يجدون أنّ هناك تماساتٍ واشتباكاتٍ مع كاتباتٍ أخريات، من حيث المُنطلقات العامّة العائدة في بعضها إلى قناعاتٍ خاصّة بمبادىء مؤسَّسة على حريّة الفكر، تلك المُنتِجة بالضرورة لهالات الإبداع.
وعلى ذلك يتجلّى التلاحُم الحيويّ بين ليلى بعلبكي وسيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الآخر»، أو فرانسواز ساغان في هواجسها وخيالاتها، وامتدادًا لذلك كانت البصمة العتيدة على أعمال فاطمة المرنيسي وأحلام مستغانمي... وغيرهنّ كثيرات.
وإشادةً بذاتها وبجيلِها، وأملًا في وضعِ حدودٍ فاصلة تحول دون التفكير في السيولة الزمنيّة وتَمنح كلَّ جيلٍ استقلاليّةً وخصوصيّةً في إطارِ التغيّرات المتلاحقة ليُصبح الحكم المعياري على الأجيال نسبيًّا لا مُطلقًا، فلا يُمكن الحُكم على الماضي بمقاييس الحاضر، ولا الحُكم على المستقبل بمعايير الحاضر، ولا بشرطيّات الماضي على ظرفيّات الحاضر؛ ومن ذلك فقد جاءت صيحة بعلبكي المدوّية عبر مُحاضرةٍ مدوّية كان عنوانها «نحن بلا أقنعة» حاولت فيها أن تؤكّد عُمق الاعتداد بشخصيّة جيلها قائلة: نحن جيلٌ جديد يرفض سلطة الكبار ويُطالِب بحريّته ويسعى للخلاص من هَيْمنة الكبار من الآباء إلى السلطة السياسيّة ونرفض كذلك القسمة بين حاكمٍ ومحكوم، نرفض القيَم التي لم نُسهِم في وضعها، نرفض القوانين التي صَنعتِ القيود، نحن جيل اليوم.. يسمّوننا بالمتمرّدين، الضائعين، الشاردين، الفوضويّين،.. كلّ ما على الأرض لا يُمثِّلنا ولا يرضينا لأنّه من صنْع غيرنا.
والمتأمِّل لهذا السياق يَستشعرُ بتفوُّق جيلها على الأجيال الغابرة بينما الأجيال اللّاحقة يُمكن لها ترديد النداءات نفسِها المُشيرة إلى التفرُّد والألمعيّة. فلا أفضليّة لجيلٍ على جيل إلّا إذا كانت الأجيال الماضية قد قصَّرت في أداء أدوارها وانسحقت أمام التحدّيات الماثلة أمامها؛ لكنّ المتأمِّل أيضًا يُمكنه أن يَستشعرَ الوصايا والسطوة نفسها لجيلٍ على جيل إلّا في استثناءاتٍ قليلة حين تَستولي عليه قيَمُ التراجُع تلك التي تجعله يُبدِّد الفُرص ولا يتحيَّن الانطلاق والفاعليّة، وهو ما يحول بالضرورة نحو تسجيل وجوده في الإطار الزمنيّ.
ليلي بعلبكي
(1934 - 2023) كاتبة وأديبة وصحافية لبنانية.
خريجة معهد الآداب الشرقية التابع لجامعة القديس يوسف.
من روّاد الكتابة النسوية في لبنان والعالم العربي
أسّست لنوع جريء من الأدب الروائي في الستينيات، عبر روايتها الأولى «أنا أحيا»
عملت في الأمانة العامة للمجلس النيابي اللبناني بين سنتي 1957 و1960
* أستاذ علم الاجتماع السياسيّ- مصر
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية