وفاء البوعيسي

الفلسطينيّ مزارع مذ خُلق، وعندما احتلَّت جماعاتٌ صهيونيّة استيطانيّة بلدَه، بَدأ الاستيلاءُ المُمنْهَج على أرضه وخيراتِها. وكم تعرَّضت علاقته بالأرض إلى عديدٍ من المُقاطعات، وعمليّات التهويد بهدف تجويعه وعزْله عن الطبيعة، وتقاليد علاقته بها، حتّى وصلَ الأمر، ويا للمُفارقة، إلى السطو على أطباق مائدة طعامه الموروثة وتجييرها لإسرائيل والإسرائيليّين.

إنّ أيّ تقرير زراعيّ يخصّ فلسطين اليوم سيُظهِر تنبّؤاتٍ مروّعة لهذا القطاع، بسبب القيود التاريخيّة الثقيلة التي فرضتها الدولةُ العبريّة على الزراعة المرويّة أو البعليّة؛ إذ سيطرتْ على المخزون المائيّ في الأراضي الفلسطينيّة منذ العام 1967، فهي تَستخرج 85 % من العائد السنويّ من طبقات المياه الجوفيّة في الضفّة، وتترك 15 % منها فقط للفلسطينيّين. كما تَمنح بعض المستوطنات هناك ماءً يُعادل 21 مرّة أكثر ممّا تمنحه للقرى الفلسطينيّة المُجاورة.

كما سَيطرت على الأراضي الزراعيّة: فمن ناحية احتلَّت غصبًا 63 % من الأراضي الصالحة للزراعة في الضفّة وحدها، وقدَّمتها لمُستوطنين للعيش فيها والبناء عليها.

أمّا وادي الأردن، الذي تقع 85 % من أراضيه من ضمن المنطقة (ج) في الضفّة الغربيّة، وقد كان في يومٍ ما «سلّة الغذاء لفلسطين»، فيُعَدّ اليوم مثالًا على الاستيلاء المنهجي على الأراضي والمياه وتدمير سُبل عيش الفلسطينيّين. كما ركَّزت سياساتها على تعزيز قطاعها الزراعي وحده، من خلال جعْل مُزارعيها الأثرياء أكثر ثراءً، وذلك بإحلال تكنولوجيا متقدّمة في مزارعهم، ومَنعتِ الفلسطينيّين منها. وقامت بتحويل الأراضي الخصبة مثل مرج بن عامر إلى مناطق صناعيّة تُديرها شركاتٌ متعدّدة الجنسيّات. وبهذا أصبحتِ المزارعُ الفلسطينيّة جافّة ومدمّرة ومهجورة. ولم يعُد لملّاك الأراضي من الفلسطينيّين هناك إلّا العمل في المستوطنات، حيث الأجور هناك مُرتفعة. وبالتالي فهُم يُسهمون قسراً في خدمة المُستوطنين، أو يبيعون منتجاتهم القليلة عبر الشركات الإسرائيليّة لأرباب أراضيهم المُصادَرة.

أمّا الأراضي المليئة ببساتين الزيتون وأشجار القسطل والكرمة والأرض شوكي وغيرها، فقد زرعتْها إسرائيل بالحواجز والإسمنت المسلَّح، والكوابل المطّاطيّة، ونقاط تفتيش للمُراقَبة ومناطق «حظْر الدخول» وحواجز عسكريّة و«جدار عازل». بعدها تَمكَّن المُستوطنون من زراعة نباتات غير محليّة جلبوها إلى المنطقة من منابتهم في الغرب بهدف تغيير هويّة المكان، وقد دفعتْ تلك المُمارسات بعض المُختصّين في مجال التنوُّع البيولوجي إلى القول إنّ ما يحدث هناك هو «نكبة بيئيّة».

مُصادَرة النبتة

أمّا المزروعات البعليّة القابلة للأكل مثل: الزعتر والفقوس والعكّوب والجمّيز والخبّيزة، فتُعتبَر من الأنواع الأكثر شيوعًا وانتشارًا في فلسطين، ولطالما كانت العمود الفقريّ للأنشطة الزراعيّة لسكّانها. وقد ساعدت، على مرّ العصور، المُزارعين على تجذير أراضيهم، والحفاظ على المعرفة القديمة بالزراعة والقطاف، وفهْم أصناف المحاصيل، وتنكيه أغذيتهم الفريدة من نَوعها. كما وصُفت الزراعة البعليّة بأنّها نظامٌ زراعيٌّ إيكولوجيٌّ مَرِن، هيّأ المُزارعين للتكيُّف مع الظروف الاقتصاديّة المقيّدة، إلى جانب الظروف السياسيّة الصعبة. ومع ذلك، لم تتركها سلطةُ الاحتلال لحالها، بل سَطَتْ على جميع تلك الأنواع واحتجزتها في سجونٍ كبيرة سمَّتها محميّات، وسيَّجت المكان بالأسلاك الشائكة، ومَنعتِ الفلسطينيّين من مجرّد الاقتراب منها، ومَن يُخالف التعليمات يَدفع غرامة. أمّا زراعتها سرًّا في مشاتل، فمن عواقبها مُصادَرة النبتة والمَشتل مع غراماتٍ باهظة.

صُدِمَ الفلسطينيّون، في مناطق الـ 48 و67، لاعتقال الزعتر وحبسه خلف أسلاك شائكة؛ إذ لم يتوقّع أحدٌ أن يأتيَ يومٌ لا يستطيع فيه الفلسطينيّون تخزين الزعتر لاستخدامه في طعامهم وشرابهم ودوائهم على مدار العام. كما لم يحزر أحدٌ قطّ أنّ نبتةً بريّة لا يهدُّدها الانقراض، ستُصبح بين عشيّةٍ وضحاها بأغلى الأثمان، ليس لندرتها بل لحظْر الوصول إليها. وقد صار واضحًا أنّ إسرائيل تُخطِّط للتدخُّل في مكوّنات المائدة الفلسطينيّة، وتُجبر الفلسطينيّين على نسيان طعامهم، عبر الاعتماد على الطعام الأجنبيّ وحده، من خلال غمْرِ الأسواق بسلاسل مطاعم مشهورة، مثل ماكدونالدز وكنتاكي وهامبرغر وغيرها، وخفض أسعارها مع رفْع أسعار طعام الفلسطينيّين على نحوٍ لا تُطيقه معظم العائلات.

سارعَ الفلسطينيّون إلى التخطيط لحملاتِ مُقاطعة البضائع الإسرائيليّة البديلة، بالتعاون مع 171 منظّمة غير حكوميّة انضمَّت إليها شخصيّاتٌ حكوميّة. قاموا جميعًا بمُراقبة كلّ بضاعة إسرائيليّة تنزل في المحالّ الغذائيّة ووضعوا عليها ملصقًا يقول: «بشرائكَ لهذا المُنتَج، يعني أنّكَ تتبرَّع للجيش الإسرائيلي». فبقيَ المُنتَج على الرفوف لم يشتره أحدٌ حتّى انتهت صلاحيّته، وعندما تصل بضائع جديدة، تكون المنظّمات والجمهور الفلسطيني في الانتظار لتنفيذ العمليّة نفسها. بالإضافة إلى ذلك، أَعلنت السلطة الفلسطينيّة رسميًّا عن مقاطعتها لمُنتجاتٍ عدّة تمَّ إنتاجها بواسطة شركات معيّنة بالذّات، وهي: Tnuva, Strauss, Tara, Soglowek, Jafora,Tabori.

مشروع «أمّ سليمان»

وفي الناصرة، دخلتِ النساءُ على خطّ النضال من أجل تعزيز المائدة الفلسطينيّة الصحيّة، ووقْف تأثير التهويد على ذائقة الأجيال المُقبلة من خلال مشروعَيْن سياحيَّيْن فريدَيْن من نوعهما. إذ تعاقدتِ السيّدةُ سالي عزّام مع مئات النساء من أمّهات الشهداء والأسرى والمُهجَّرين واللّواتي تعرَّضْنَ للعنف، على تحويل عددٍ من السيّاح الذين يأتون للمنطقة إليهنّ لتناول الطعام. فتُقدِّم لهم ربّة البيت مائدةً فلسطينيّة عامرة وزاخرة بالنكهات؛ ثمّ تسرد قصّتَها مصحوبةً بوثائق وأدلّة. كما تعاقدتْ مع أُخريات لا قصصَ شخصيّة لديهنّ ليسردْنها، فقط يزوِّدْنَ مقهى إيوان، الذي تديره عزّام في سوق الناصرة، ببعض المأكولات الفلسطينيّة الخفيفة لمُرتاديه من السيّاح ليتعرَّفوا على تراثهنّ الغذائي الضارب في القِدَم، وليَبثّوا لهم لوعةَ الزيتون، الذي يسرقه مُستوطنون في السرّ والعَلن ويبيعونه بآلاف الدولارات، وشيخوخةَ البرتقال حين يُسقى بموادٍ كيمائيّة بعيدًا من مسقط رأسه في يافا وغزّة، واحتجازَ الزعتر سنينًا خلف القضبان بلا ذنب ارتكبه، واستشهادَ القسطل عطشًا والماء بجواره، ليخرج السيّاحُ بوعيٍ جديد لِما تفعله سلطةُ الاحتلال بحقّ الفلسطينيّين، بما في ذلك حرمانهم من طعامهم التقليدي التاريخي، ونشْره في بلدانهم. وقد جلبَ السيّاحُ آخرين، والآخرون جَلبوا خبراء بيئة وحقوقيّين للناصرة وغيرها.

مشروع «أمّ سليمان»، وهي قرية زراعيّة قرب رام الله، استعادها أهلها من إسرائيل بعد عقودٍ ليهبوها للجيل الجديد لاستزراعها.

وعلى الفور تولّى المتطوّعون زمامَ الإشرافِ على استخدامِ الأرض، وإنتاج الغذاء فيها لمُواجَهة الفقر الغذائي في ظلّ الاحتلال عبر استخدام التنوُّع البيولوجي للحفاظ على المَوارد الطبيعيّة، وزراعة الأنواع المحليّة في فلسطين لفائدتها في تجديد التربة، والتحكُّم في التسميد، وإدارة النفايات باستخدام الطرق الطبيعيّة، مع استخدام تقنيّة الحفاظ على المياه لمُقاومة ندرتها النّاجمة عن السيطرة الإسرائيليّة.

وكان أوّل إنتاجٍ عضوي صحّي كافياً لـ 8 عائلات. وثاني إنتاج كان كافياً لـ 45 عائلة؛ وإذ بأمّ سليمان اليوم تتحوَّل إلى مشروعٍ تجاري مُزدهر يوفِّر الغذاء لعشرات العوائل في محيطها المحلّي. وقد عَرَضَ عددٌ من المُشرفين على المشروع التطوُّعَ لتعليم قرىً أخرى أساليب الزراعة المُستدامة، والتوقُّف بالتالي عن الاعتماد على الطعام الإسرائيلي.

أمّا أهمّ مشروعات المُقاوَمة بالزراعة، فهي شركة «كنعان للتجارة العادلة»، ومكاتبها مُنتشرة اليوم في قرية برقين، بالقرب من جنين. إنّها من بنات أفكار د. ناصر أبو فرحة.

جاءت فكرةُ كنعان بداية الألفيّة عندما كان أبو فرحة يُجري بحثًا للحصول على الدكتوراة في الأنثروبولوجيا في أمريكا. وأثناء سفره ذهابا وإيّاباً بين أمريكا والضفّة الغربيّة، أفزعته الأسعار المُنخفضة للزيتون، حيث تتقاعَس إسرائيل عن شرائه إلى ما بعد موسم القطاف في أواخر الخريف بالذّات، وذلك حتّى ينخفض السعر إلى درجة لا تحفِّز على زراعة الأرض في الموسم المُقبل. فكَّر أبوفرحة في تغيير الوضع للأفضل، حتّى يتسنّى للمُزارعين البقاء في أراضيهم والحفاظ على الزيتون كمحصولٍ اقتصاديٍّ قابلٍ للحياة بشكلٍ مُستدام.

مَن لا يَملك طعامَه لا يَملك حريّته

كانت الزراعة في الضفّة الغربيّة لا تزال شأنًا عائليًّا إلى حدٍّ كبير. إذ كان لكلّ عائلة قطعة أرض صغيرة يعتمد عليها أفرادها اقتصاديًّا. وهذا ما جَعلهم مُعرَّضين بشدّة لسياسات إسرائيل العسكريّة والاقتصاديّة التعسّفيّة. لكنّ أبا فرحة خَلُص إلى أنّه إذا نظَّم المُزارعين ليعملوا معًا والتزموا بالسياسات الصارمة للزراعة العضويّة، فإنّه من المُمكن أن يؤسِّسوا جيشًا زراعيًّا صامدًا مثل شَجَرِ زيتونهم.

بدأ أبو فرحة بالسفر عبر منطقة جنين، محاولاً إقناع المُزارعين بالانخراطِ في شركته والعمل.. وبأنّ نجاح مشروعهم يعتمد على إنشاء جمعيّات تعاونيّة تَجمع مواردهم لتقوم كنعان بتسويقها.

وفي مرحلةٍ ثانية التزمتِ المَزارعُ الموحَّدة باستخدامِ تقنيّاتٍ تتوافق بشكلٍ وثيق مع الزراعة العضويّة الحديثة. وطوَّرت مع كنعان أوّل معيارٍ مُعترَف به دوليًّا للتجارة العادلة لزيت الزيتون، وبدأتِ الشركةُ في اعتماد المُزارعين المؤهّلين لذلك بشكلٍ خاصّ.

أمّا ما دفعَ بكنعان للواجهة، فكان أنّها وفَّرت عنوانًا مركزيًّا يُمكن لتعاونيّات القرى أن تبيع إليه ثمار الزيتون ومعصوره، مع ضمانِ سعرٍ ممتاز. بمعنى أنّ المُزارعين لن يبيعوا بشكلٍ فرديٍّ للإسرائيليّين بعد الآن، بل سيبيعونه بشكلٍ جماعيٍّ لكنعان وحدها، وهي تقوم بتسويق منتجاتهم داخل إسرائيل وخارجها. وتُعتبر كنعان اليوم الوجه الدولي للجمعيّات التعاونيّة للمُزارعين الفلسطينيّين، وهي تسعى إلى تطوير أسواقٍ جديدة للاستثمار فيها. وتضمّ كنعان حاليًّا 52 قرية تمَّ إنشاؤها كتعاونيّاتٍ مُنفصلة، كما تُمثِّل 2000 مزارع، والعدد في ازدياد.

لقد تأسَّست حملاتُ المُقاطَعة ومشروعات نساء الناصرة، وإيوان، وأمّ سليمان، وشركة كعنان لإعادة تصوُّر المُقاوَمة كجهدٍ مُجتمعيٍّ مُتجذِّرٍ في تقاطُع الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والبيئيّة. والأهمّ أنّها تحدَّت آثارَ التهويد باستخدام السيادة البيئيّة لتكون الزراعةُ هي خطّ الدّفاع الفلسطينيّ الأوّل عن وجوده وهويّته، وسيادته الغذائيّة. فمَن لا يملك طعامه، لا يملك حريّته.

*كاتبة وروائيّة من ليبيا

* ينشر بالتزامن مع نشرة ( أفق ) الإلكترونية.