عبلة مرشد

اللغة العربية؛ لغة القرآن ولسان الرحمن وهي لغة أهل الجنة، وهي الأجمل شعرًا، والأعظم بلاغة، والأعمق فصاحة، والأثرى محتوى، هي لسان ناطق وحروف تتكلم، ومعان غنية بأبعادها وتفسيراتها، تحمل كلماتها رسائل وحروفها مغازي، وتشكيلها معاني، ومرادفات متباينة يندر وجود مثلها بين اللغات العالمية، ولذا يقال عن اللغة العربية بأنها لسان وغيرها لغات، ينطق بحروفها كِتابنا المنُزل بما يحمله من شرائع وتفصيلات، وتكلم بها نبينا محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- خاتم الأنبياء والمرسلين، بها وُثقّت الأحاديث، وتحدث الرواة وتناقلتها الأجيال لقرون مضت، تحمل بين ثناياها وسجلاتها تاريخ أمة وحضارة شعوب، تكلمت بها وتدارستها في علومها ومجتمعها، حتى تناقلتها شعوب أخرى لا تتكلم بها لترجمتها والاستفادة من محفوظاتها ومكنوناتها لترتقي بعلومها ومعارفها، والتي حفظ تدوينها بلغاتهم لتنسب إليهم وتمحو تاريخ أمة وشعوب آمنت بها.

مع هذا الكم، وذلك العمق من القيمة المعنوية والتاريخية والثقافية والدينية للغتنا الأم؛ نتساءل هل تستشعر مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم قيمة هذه اللغة وما تحمله بين ثناياها من مبادئ ومواعظ ومعارف وعلوم وفنون وأدب وشعر، بل وتاريخ يُسجل عظمتها وثراءها المعرفي الموروث والحاضر؟!، ما نشاهده اليوم هو تهميش واضح للغتنا العربية، واستبعاد مستهدف لقيمها ومبادئها، وما تحمله من تاريخ يوثق أصالة شعوبها، ويسجل حضارة أمة تكاد تندثر معالمها وحضارتها في خضم زحف الحضارات الأخرى التي اعتزت بلغتها شعوبها، فارتقت وشاعت فانتشرت بين الأمم والشعوب التي لا تتكلم بها، ولا تمثل هويتها أو رمزها الوطني والمجتمعي.

قيمة اللغة بصفة العموم، وذلك ليس قاصرًا على اللغة العربية؛ إنها تمثل أهم مقومات الهوية للشعوب المتحدثة بها، وهي في ذلك تفوق الدين في قوة تأثيرها وانعكاسها على الهوية الشخصية والوطنية، صحيح أن الأمة الإسلامية أكبر مساحة وأكثر عددًا من الشعوب التي تتكلم العربية، وفيها الكثير ممن يلتزمون بتعلم اللغة العربية لكونها لغة القرآن الذي يعتنقونه ويتدارسون تعاليمه وشريعته؛ ولكن اللغة العربية رغم أنها تضم أديانًا مختلفة إلا إنهم جميعهم يتكلمون العربية، بل وحتى على النطاق العالمي، فاللغات عالمية الانتشار كالإنجليزية والفرنسية تحتضن شعوبًا مختلفين في دياناتهم ومذاهبهم؛ ولذلك فإن اللغة هي عمود الهوية وسنامه الأعلى، وعليه تستحق الاهتمام والرعاية بقدر القيمة التي تشكلها والرمز الذي تعني به لشعوبها.

جميع لغات العالم لا تحمل قيمتها من فراغ، ولا تنتشر ويشاع استخدامها دون جهود قومية من شعوبها ومتكلميها، فاللغة لا تنتشر عشوائيًا، ولا تثقُل مكانتها فجأة لتكون هي اللغة الأولى المتداولة بين شعوب العالم أو الثانية أو الثالثة، إنما ذلك مرهون بتاريخ يؤثر على قوتها وحجم انتشارها، وكذلك بسياسات وطنية لشعوبها تسعى للمحافظة عليها رغم كل التحديات التي قد تتعرض لها قديمًا أو حديثًا، فحيوية اللغة وانتشارها وقوتها مرهون بحجم وقوة إيمان شعوبها بها، وذلك لا يتأتى بالحديث عنها أو الترويج لها محليًا عند المناسبات الخاصة باللغة مثل (#يوم_اللغة-العربية_العالمي)، وإنما يكون بقوة الايمان والاعتزاز بأهمية استخدامها في المحافل والمؤتمرات والندوات العالمية والمحلية، سواء للمتحدثين أو الحضور، أو في طبيعة الدراسات والمشاركات الدولية، ناهيك عن التعاملات الداخلية للمؤسسات الوطنية وقطاعاتها المختلفة.

اللغة العربية وسام تتحلى به شعوبها، ورمز يترجم تاريخ وحضارة ودين أثرّت مخرجاتها في تقدم الحضارة العالمية سواء في تاريخها القديم وما شهدتها تلك الحقبة من إنجازات حضارية وانتشار في العالم المعروف آنذاك، أو في تاريخها الحديث بعد أن خضعت معظمها للاستعمار الغربي وسياساته التي استهدفت طمس الهوية العربية وتاريخها، بعد أن فرضت لغاتها كلغات وطنية لشعوب لا تتكلم بها، رغم استلابها إبان ذلك الاستعمار لكثير من موروثنا التاريخي والثقافي لينسب لهم ولحضارتهم المستبدة، لم يعملوا على تطوير أو تنمية تلك الشعوب في استعمارها، وإنما رسخوا فقط لغتهم لتكون اللغة المتداولة والرسمية لإدراكهم بأهمية رمزيتها، فكانت النتيجة إفراز أجيال ترتبط بالمستعمر ثقافيًا وحضاريًا، بل وقد تتنكر لأصولها العربية بينما تعتز بانتمائها الغربي.

لا ننكر أن التقدم المعرفي الذي حققته الدول الغربية وغيرها من الدول المتقدمة، كان عامل قوة وسندًا لانتشار لغاتهم وتعميمها، بعد أن أصبحوا مصدرًا للعلوم والتقنيات المتقدمة التي استفادت منها الدول الأخرى؛ ولكن ذلك لا يبرر ضعف ثقتنا بلغتنا وتهميشنا لها ليس فقط في المحافل العالمية، وإنما حتى في محافلنا الوطنية، وذلك ينعكس على اهتزاز في الثقة بأنفسنا كشعوب وأفراد، ويشعرنا بالخذلان والضعف المستمر لهويتنا العربية أمام جبروت ذلك الدعم والانتشار للغات العالمية الأولى والثانية.

الاعتزاز بالهوية العربية والثقة بأصالتها وقيمتها وما تحمله لغتنا من موروث وحاضر نسعى إليه، يُولد احترام وتقدير لها من الشعوب الأخرى، وذلك يتطلب جهود متكاملة تلتزم بها جميع القطاعات الوطنية والإقليمية، ويُعد الإعلام مسؤولا رئيسيًا عن الترويج لذلك بما يقدمه من دعم وتحفيز وبرامج تدعو لاسترجاع القيمة المفقودة للغتنا الأم.

في إطار الجهود الوطنية نفتخر ونشيد بـ«مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية»، الذي يعمل على تعزيز دور اللغة العربية إقليميًا وعالميًا، ويسعى نحو إبراز قيمتها المعبرة عن العمق اللغوي للثقافة العربية والإسلامية ليكون مرجعية على الصعيد الوطني فيما يتعلق باللغة العربية وعلومها، وليسهم إسهامًا مباشرًا في تحقيق أهداف برنامج القدرات البشرية أحد برامج رؤية السعودية 2030، ومما نعتز به أن المجمع يعمل على العناية بتحقيق الدراسات والأبحاث والمراجع اللغوية ونشرها، ويشجع العلماء والمختصين في اللغة العربية، بل ويعمل على نشر استخدام اللغة العربية، ويتابع سلامة استخدامها في المجالات المختلفة.

لتطرح الجهود ثمارها، ونتمكن من تصحيح المسار في استخدام اللغة العربية والترويج لاستعمالها، يتطلب ذلك جهودًا تشاركية مؤسسية ومجتمعية تؤمن بأن تعزيز الهوية الوطنية والفردية والقومية يكون بالاعتزاز والفخر باستعمال اللغة العربية في مختلف فعالياتنا ومناسباتنا الوطنية؛ وبذلك نكون قد بدأنا في تصويب البوصلة نحو الاتجاه الصحيح في المحافظة على هويتنا والارتقاء بمخرجاتها بما يناسب ما نعيشه من مرحلة تنموية رائدة.