على الرغم من أن كثيرا من الخبراء توقعوا أن يشكل استعمال العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) تهديدا جديدا وحقيقا للدولار، فإن تلك التوقعات خابت، وبقي استعمال اليورو في التعاملات الدولية متواضعا للغاية خارج مناطق النفوذ التقليدية لبعض بلدان منطقة اليورو (المُستعمرات الفرنسية سابقا بشكلٍ أساسي)، فما هي الأسباب التي أدت إلى عدم تمكنه من لعب الدور المأمول الذي كان ينتظر منه أن يفعله؟.
يتصدى الكاتب والمترجم المغربي حافظ إدوخراز للإجابة عن هذا السؤال العريض في مقالة نشرته دورية «أفق»، التي تصدرها مؤسسة الفكر العربي، محاولا الاستناد إلى آراء عدد من الخبراء الاقتصاديين المهمين في العالم.
تقوية الدور
لم يكن اليورو مجرد عملية نقدية يمكن طرحها اقتصاديا بهدف أن تكون ضمن معاملات السوق، بل كان لها هدف أبعد يوضحه الأكاديمي والباحث في الاقتصاد السياسي الدولي بنجامين كوهين، الذي يشير إلى أن «الهدف من تأسيس العملة الأوروبية الموحدة لم يكُن هو مجرد الإسهام في مشروع الاندماج الأوروبي فقط، وإنما كان يتعلق كذلك بتقوية الدور الذي يضطلع به الاتحاد الأوروبي على الساحة الدولية من خلال خلق مُنافس قوي للدولار الأمريكي المهيمن على العلاقات النقدية الدولية منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية».
وتبدو تساؤلات كوهين في محلها، فالاتحاد الأوروبي الذي يناطح الولايات المتحدة الأمريكية منذ وقت طويل على اقتسام النفوذ والهيمنة في الإنتاج والتجارة، بحث كذلك عن مزاحمتها في مجال النقود، فكان «اليورو».
تفاؤلات قوية
منذ إطلاق اليورو، أعتقد اقتصاديون أنه سيكون مُنافسا قويا للعملة الأمريكيّة، بل ذهبوا إلى حد التأكيد أنه سيهددها، وهو ما أكده الاقتصادي الكندي الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد روبرت موندل، حين أشار إلى أن اليورو سيهدِّد مَوقع الدولار، وأنّه سيُغيِّر شكلَ منظومة النقد الدولي، ويُعيد توزيع القوّة بين أطرافها.
واعتقدَ موندل أنّ تأسيس العملة الأوروبيّة الموحّدة هو لحظة مفصليّة، وأهمّ تطوُّر عرفته منظومة النقد الدولي منذ تعويض الدولار الأمريكي الجنيه الإسترليني، وتربُّعه على عرش هذه المنظومة.
كما رأى الاقتصادي الأمريكي فريد بورجستن منذ عام 1997 أن «إطلاق اليورو هو أهم تطوُّر ستعرفه منظومة النقد الدولي منذ تبنّى أنظمة الصرف العائمة في بداية سبعينيات القرن الماضي».
كان بورجستن يرى أن اليورو سيُصبح أوّل مُنافِس حقيقي للدولار، بالنظر إلى أن العملة الأوروبية تستند إلى اقتصادٍ قوي، وأحد أكبر أسواق الرأسمال في العالَم، ولهذا فقد ظن أن 5 إلى 10 سنوات ستكون كافية لليورو ليتحوَّل إلى عملة دولية على القدر نفسه من الأهمية مثل الدولار.
وكان بورجستن يعتقد أن نظاما نقديّا قائما على عملتَيْن رئيستَيْن سيرى النور، وسيحل مكان النظام السائد والقائم على هَيْمَنة الدولار على باقي العملات.
تآكل الثقة
لم تكن التوقعات تتحدث فقط عن قوة اليورو، وأنه سيبزغ بقوة في عالم النقد والمعاملات الدولية، فقد ظن كل من الأكاديميين إريك إلاينر وجوناثان كيرشنر، في كتابهما الصادر 2009 بعنوان «مستقبل الدولار»، أنّه «للمرّة الأولى في فترة ما بعد الحرب، ستتآكل الثقة بالدولار الأمريكي في بيئة تعرف وجود عملة بديلة موثوقة (اليورو)».
تذبذب
بقي الدولار الأمريكي عاجزا عن أداء دوره كمخزنٍ موثوقٍ للقيمة في ظلّ اقتصاد تطبعه الأزمات المالية ويفتقر إلى الاستقرار، ولذلك فقد كان من المُفترض أن يَمنح اليورو للفاعلين الاقتصاديين الدوليين إمكانيّة تنويع محافظهم الماليّة، وتوزيع استثماراتهم على نحوٍ يَضمن إدارة المخاطر بشكلٍ أكثر فعاليّة. غير أنّ استعمال اليورو في التعاملات الدوليّة يبقى متواضعا للغاية خارج مناطق النفوذ التقليدية لبعض بلدان منطقة اليورو (المُستعمرات الفرنسيّة سابقا بشكلٍ أساسيّ). لذلك، فإن حصة اليورو في احتياطيّات المصارف المركزيّة عبر العالَم لا تتجاوز 20%، بينما تَصِلُ حصّة الدولار إلى نحو 60% (حسب إحصائيات صندوق النقد الدولي في 2022). ويستمرّ تداوُل السلع الأساسيّة والموادّ الأوّليّة الطّاقيّة والمعدنيّة (النفط والغاز على سبيل المثال) في العالَم على نحوٍ كبير بالدولار الأمريكي.
عجز تثبته الوقائع
يؤكد الكاتب حافظ إدوخراز أن التطوُّرات الحاصلة خلال العقد الأخير أثبتت بالملموس أنّ العملة الأوروبيّة الموحّدة غير قادرة على كسر هيمنة الدولار الأمريكي، على الرغم من كل المقومات الاقتصاديّة التي يملكها الفضاءُ النقدي الأوروبي (منطقة اليورو)، بوصفه أكبر مصدِّر للسلع والخدمات في العالم.
ما يحدث لليورو أثبت بُعد نظر الأكاديمي الباحث في الاقتصاد السياسي آدم بوزن، الذي خالف كثيرا من الآراء التي سادت، وشدد على أن «اليورو لن ينجح في منافسة الدولار، وأن دوره في منظومة النقد الدولي لن يتجاوز الدور الذي أدَّته العملات التاريخيّة لبعض البلدان الأعضاء (المارك الألماني والفرنك الفرنسي تحديدا)».
وفي 2008، نشر بوزن رأيه في مقالة أكاديمية في مجلة المالية الدولية، وحدد السبب وقدمه كحجّةٍ تعضد أطروحته، بينما أغفله كثير من زملائه الأكاديميّين في حقل الاقتصاد الدولي.
رأى آدم بوزن أن «الاعتبارات الاقتصاديّة لا تكفي وحدها (وإن كانت ضروريّة) لتحديد موقع أيّ عملة في منظومة النقد الدولي، وأن ثمّة اعتبارات سياسيّة ينبغي أخذها في الحسبان».
وأضاف في مقاله: «القدرات المحدودة جدّا للبلدان الأعضاء في منطقة اليورو على مستوى التدخُّل العسكري، وتوفير المظلّة الأمنيّة، خارج مناطق نفوذها التاريخيّة (المُستعمرات السابقة لفرنسا في إفريقيا) من شأنها أن تفسِّر الأداء الحالي لليورو، الذي لا يرقى إلى مستوى التوقّعات. يخلق هذا الوضع حافزا ضعيفا لدى العديد من الدول حول العالَم، لإعطاء دور أكثر أهمية لليورو في شؤونهم النقديّة، على الرغم من علاقاتهم التجارية والمالية المتميزة مع بلدان منطقة اليورو».
دون الطموح
كان لدى اليورو كثير من الفرص لأن يكون في وضع أفض. فبالإضافة إلى أن أوروبا أكبر مصدّر للسلع والخدمات، فإن بلدان منطقة اليورو تعد الشريكَ الاقتصادي الأوّل لكثير من البلدان النامية المصدّرة للموارد الطبيعيّة (الموادّ الخامّ) في إفريقيا وآسيا، وتسجِّل الموازين التجاريّة لهذه الأخيرة عجوزاتٍ كبيرة لمصلحة منطقة اليورو. ومن المفروض نظريّا أن تقبل هذه البلدان تسوية تعاملاتها التجاريّة مع منطقة اليورو بالعملة الأوروبيّة المُشتركة بدلا من المرور عبر عملة دولة أخرى هي الدولار الأمريكي، مع ما يعني ذلك من تحمُّل مخاطر الصرف (تحويل الدولار إلى اليورو).
لكن إذا استحضرنا الجوانب الأمنيّة، والبُعد الجيوسياسي لعلاقة الأنظمة الحاكمة في هذه البلدان مع الولايات المتّحدة، يصبح من المفهوم لماذا تبقى هذه الدول وفيّة للدولار، إمّا وفاءً للولايات المتّحدة، وطَمَعا في استمرار مظلّتها الأمنيّة التي لا يُمكن للاتّحاد الأوروبي أن يقدّم بديلا منها، أو خوفا من إثارة غضب الولايات المتّحدة ونقمتها عليهم، كما حصلَ للعراق في عهد الرئيس الأسبق صدّام حسين بعدما تجرأ على تحدّي الهيْمنة الأمريكيّة بمطالبته الأُمم المتّحدة (التي كانت تسهر على إدارة برنامج النفط مقابل الغذاء) بتسوية الصادرات النفطيّة للعراق بالعملة الأوروبيّة الموحّدة بدلا من الدولار الأمريكي.
فعلى الرّغم من كلّ المعارضة الفرنسيّة والألمانيّة لغزو العراق في 2003 (انطلاقا من المصالح الإستراتيجيّة للاتحاد الأوروبي، وليس حبّا في نظام صدّام)، فإن ذلك لم يَمنع الولايات المتّحدة من اجتياحه حتّى من دون غطاء الشرعيّة الدوليّة التي كانت إدارة جورج بوش الابن ترغب فيه من خلال استصدار قرارٍ من مجلس الأمن في الأُمم المتّحدة.
ومن أجل هذه الاعتبارات تحديدا، نرى بعض الدول التي تُعلن في الصحافة والإعلام منذ سنوات أنّها تتّجه نحو استبدال اليوان الصيني بالدولار في تسويةِ صادراتها النفطيّة تقدِّم رِجلا وتؤخِّر أخرى، وكأنّها تختبر ولا تدري ما قد يكون ردُّ فعلِ دوائر صناعة القرار في أمريكا، وما قد يترتّب عن ذلك من عواقب على أمنها القومي. فهل من المُمكن أن تأتي الصين لحمايتها من الولايات المتّحدة في حال أَقدمت هذه الأخيرة على عملٍ عسكري ضدها تحت أي ذريعة (تمويل إرهاب أو اضْطهاد أقليّات أو أيّ سببٍ آخر سيتمّ تعبئة الإعلام والمؤسّسات الدوليّة من أجل تسويقه)، كما صنعت مع العراق؟. أرى ذلك مستبعدا على الأقل في الوقت الراهن، فالمشكلات والتحدّيات الإقليمية للصين (تايوان أنموذجا) أكبر من أن تسمح لها بالتورُّط العسكري في أي منطقة من العالَم، مهما تكن أهميّتها من الناحية الإستراتيجيّة والجيوسياسية.
الأقوى عسكريا
يجزم إدوخراز أن التاريخ يقدم دروسه، وأن هذا التاريخ يخبرنا أن العملة المُهيمنة في العلاقات الدولية تبقى هي عملة البلد (الإمبراطورية) الأقوى عسكريا (وإن تراجَعَ نسبيا على المستوى الاقتصادي)، إلى أن تتغير موازين القوة العسكريّة في العالَم، فتحل عملةُ إحدى القوى الصاعدة مكانها، كما حصل عندما حلَّ الدولار الأمريكي مكان الجنيه الإسترليني (عملة الإمبراطوريّة البريطانيّة التي هَيْمَنت على القرن الـ19).
لكنّ هذا التغيير، كما يؤكِّد المؤرِّخ البريطاني بول كينيدي، يحدث في أعقاب حربٍ عظمى تُعيد توزيع القوّة بين الدول الكبرى في العالَم (الحرب العالَميّة الثانية أنموذجا).
فهل يكرِّر التاريخُ نفسَه، وتمضي البشريّة من جديد في مُعاودة أخطاء الماضي، أم أن الردع النووي قادر على أن يَحول دون ذلك هذه المرّة، وإقناع الجميع بأنه لا بديل عن التفاوض والتعاون في سبيلِ إرساءِ أُسسِ نظامٍ دولي جديد أكثر عدالة؟. من الصعب التنبّؤ بأي شيء حينما يتعلّق الأمر بالإنسان!.
اليورو
العملة الرسمية لـ20 من أصل 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي
تُعرف مجموعة الدول هذه باسم «منطقة اليورو»
تضم دول منطقة اليورو 343 مليون مواطن تقريباوفقا لإحصاء 2019
يقسم اليورو إلى 100 سنت
يعد ثاني أكبر العملات وأكثرها تداولًا بعد الدولار الأمريكي
يخضع لإدارة البنك المركزي الأوروبي بمقره في فرانكفورت
في 16 ديسمبر 1995، اُعتمد اسم اليورو رسميا في مدريد
في 1 يناير 1999، أُدرِج اليورو في الأسواق المالية العالمية، بوصفه وحدة حساب نقدية
لماذا عجز اليورو عن كسر هيمنة الدولار؟
الاعتبارات الاقتصاديّة لا تكفي وحدها لتحديد موقع أي عملة في منظومة النقد الدولي
الاعتبارات السياسية لم تساعد على تقوية موقع اليورو
القدرات المحدودة جدّا للبلدان الأعضاء في منطقة اليورو على مستوى التدخُّل العسكري أثرت سلبيا على اليورو
الجوانب الأمنية والبُعد الجيوسياسي والحضور العسكري الأمريكي تقوي الدولار على حساب اليورو
تغيير عملة دولة وتراجعها يحتاج إلى حدث كبير وعظيم مثل الحرب العالمية
يتصدى الكاتب والمترجم المغربي حافظ إدوخراز للإجابة عن هذا السؤال العريض في مقالة نشرته دورية «أفق»، التي تصدرها مؤسسة الفكر العربي، محاولا الاستناد إلى آراء عدد من الخبراء الاقتصاديين المهمين في العالم.
تقوية الدور
لم يكن اليورو مجرد عملية نقدية يمكن طرحها اقتصاديا بهدف أن تكون ضمن معاملات السوق، بل كان لها هدف أبعد يوضحه الأكاديمي والباحث في الاقتصاد السياسي الدولي بنجامين كوهين، الذي يشير إلى أن «الهدف من تأسيس العملة الأوروبية الموحدة لم يكُن هو مجرد الإسهام في مشروع الاندماج الأوروبي فقط، وإنما كان يتعلق كذلك بتقوية الدور الذي يضطلع به الاتحاد الأوروبي على الساحة الدولية من خلال خلق مُنافس قوي للدولار الأمريكي المهيمن على العلاقات النقدية الدولية منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية».
وتبدو تساؤلات كوهين في محلها، فالاتحاد الأوروبي الذي يناطح الولايات المتحدة الأمريكية منذ وقت طويل على اقتسام النفوذ والهيمنة في الإنتاج والتجارة، بحث كذلك عن مزاحمتها في مجال النقود، فكان «اليورو».
تفاؤلات قوية
منذ إطلاق اليورو، أعتقد اقتصاديون أنه سيكون مُنافسا قويا للعملة الأمريكيّة، بل ذهبوا إلى حد التأكيد أنه سيهددها، وهو ما أكده الاقتصادي الكندي الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد روبرت موندل، حين أشار إلى أن اليورو سيهدِّد مَوقع الدولار، وأنّه سيُغيِّر شكلَ منظومة النقد الدولي، ويُعيد توزيع القوّة بين أطرافها.
واعتقدَ موندل أنّ تأسيس العملة الأوروبيّة الموحّدة هو لحظة مفصليّة، وأهمّ تطوُّر عرفته منظومة النقد الدولي منذ تعويض الدولار الأمريكي الجنيه الإسترليني، وتربُّعه على عرش هذه المنظومة.
كما رأى الاقتصادي الأمريكي فريد بورجستن منذ عام 1997 أن «إطلاق اليورو هو أهم تطوُّر ستعرفه منظومة النقد الدولي منذ تبنّى أنظمة الصرف العائمة في بداية سبعينيات القرن الماضي».
كان بورجستن يرى أن اليورو سيُصبح أوّل مُنافِس حقيقي للدولار، بالنظر إلى أن العملة الأوروبية تستند إلى اقتصادٍ قوي، وأحد أكبر أسواق الرأسمال في العالَم، ولهذا فقد ظن أن 5 إلى 10 سنوات ستكون كافية لليورو ليتحوَّل إلى عملة دولية على القدر نفسه من الأهمية مثل الدولار.
وكان بورجستن يعتقد أن نظاما نقديّا قائما على عملتَيْن رئيستَيْن سيرى النور، وسيحل مكان النظام السائد والقائم على هَيْمَنة الدولار على باقي العملات.
تآكل الثقة
لم تكن التوقعات تتحدث فقط عن قوة اليورو، وأنه سيبزغ بقوة في عالم النقد والمعاملات الدولية، فقد ظن كل من الأكاديميين إريك إلاينر وجوناثان كيرشنر، في كتابهما الصادر 2009 بعنوان «مستقبل الدولار»، أنّه «للمرّة الأولى في فترة ما بعد الحرب، ستتآكل الثقة بالدولار الأمريكي في بيئة تعرف وجود عملة بديلة موثوقة (اليورو)».
تذبذب
بقي الدولار الأمريكي عاجزا عن أداء دوره كمخزنٍ موثوقٍ للقيمة في ظلّ اقتصاد تطبعه الأزمات المالية ويفتقر إلى الاستقرار، ولذلك فقد كان من المُفترض أن يَمنح اليورو للفاعلين الاقتصاديين الدوليين إمكانيّة تنويع محافظهم الماليّة، وتوزيع استثماراتهم على نحوٍ يَضمن إدارة المخاطر بشكلٍ أكثر فعاليّة. غير أنّ استعمال اليورو في التعاملات الدوليّة يبقى متواضعا للغاية خارج مناطق النفوذ التقليدية لبعض بلدان منطقة اليورو (المُستعمرات الفرنسيّة سابقا بشكلٍ أساسيّ). لذلك، فإن حصة اليورو في احتياطيّات المصارف المركزيّة عبر العالَم لا تتجاوز 20%، بينما تَصِلُ حصّة الدولار إلى نحو 60% (حسب إحصائيات صندوق النقد الدولي في 2022). ويستمرّ تداوُل السلع الأساسيّة والموادّ الأوّليّة الطّاقيّة والمعدنيّة (النفط والغاز على سبيل المثال) في العالَم على نحوٍ كبير بالدولار الأمريكي.
عجز تثبته الوقائع
يؤكد الكاتب حافظ إدوخراز أن التطوُّرات الحاصلة خلال العقد الأخير أثبتت بالملموس أنّ العملة الأوروبيّة الموحّدة غير قادرة على كسر هيمنة الدولار الأمريكي، على الرغم من كل المقومات الاقتصاديّة التي يملكها الفضاءُ النقدي الأوروبي (منطقة اليورو)، بوصفه أكبر مصدِّر للسلع والخدمات في العالم.
ما يحدث لليورو أثبت بُعد نظر الأكاديمي الباحث في الاقتصاد السياسي آدم بوزن، الذي خالف كثيرا من الآراء التي سادت، وشدد على أن «اليورو لن ينجح في منافسة الدولار، وأن دوره في منظومة النقد الدولي لن يتجاوز الدور الذي أدَّته العملات التاريخيّة لبعض البلدان الأعضاء (المارك الألماني والفرنك الفرنسي تحديدا)».
وفي 2008، نشر بوزن رأيه في مقالة أكاديمية في مجلة المالية الدولية، وحدد السبب وقدمه كحجّةٍ تعضد أطروحته، بينما أغفله كثير من زملائه الأكاديميّين في حقل الاقتصاد الدولي.
رأى آدم بوزن أن «الاعتبارات الاقتصاديّة لا تكفي وحدها (وإن كانت ضروريّة) لتحديد موقع أيّ عملة في منظومة النقد الدولي، وأن ثمّة اعتبارات سياسيّة ينبغي أخذها في الحسبان».
وأضاف في مقاله: «القدرات المحدودة جدّا للبلدان الأعضاء في منطقة اليورو على مستوى التدخُّل العسكري، وتوفير المظلّة الأمنيّة، خارج مناطق نفوذها التاريخيّة (المُستعمرات السابقة لفرنسا في إفريقيا) من شأنها أن تفسِّر الأداء الحالي لليورو، الذي لا يرقى إلى مستوى التوقّعات. يخلق هذا الوضع حافزا ضعيفا لدى العديد من الدول حول العالَم، لإعطاء دور أكثر أهمية لليورو في شؤونهم النقديّة، على الرغم من علاقاتهم التجارية والمالية المتميزة مع بلدان منطقة اليورو».
دون الطموح
كان لدى اليورو كثير من الفرص لأن يكون في وضع أفض. فبالإضافة إلى أن أوروبا أكبر مصدّر للسلع والخدمات، فإن بلدان منطقة اليورو تعد الشريكَ الاقتصادي الأوّل لكثير من البلدان النامية المصدّرة للموارد الطبيعيّة (الموادّ الخامّ) في إفريقيا وآسيا، وتسجِّل الموازين التجاريّة لهذه الأخيرة عجوزاتٍ كبيرة لمصلحة منطقة اليورو. ومن المفروض نظريّا أن تقبل هذه البلدان تسوية تعاملاتها التجاريّة مع منطقة اليورو بالعملة الأوروبيّة المُشتركة بدلا من المرور عبر عملة دولة أخرى هي الدولار الأمريكي، مع ما يعني ذلك من تحمُّل مخاطر الصرف (تحويل الدولار إلى اليورو).
لكن إذا استحضرنا الجوانب الأمنيّة، والبُعد الجيوسياسي لعلاقة الأنظمة الحاكمة في هذه البلدان مع الولايات المتّحدة، يصبح من المفهوم لماذا تبقى هذه الدول وفيّة للدولار، إمّا وفاءً للولايات المتّحدة، وطَمَعا في استمرار مظلّتها الأمنيّة التي لا يُمكن للاتّحاد الأوروبي أن يقدّم بديلا منها، أو خوفا من إثارة غضب الولايات المتّحدة ونقمتها عليهم، كما حصلَ للعراق في عهد الرئيس الأسبق صدّام حسين بعدما تجرأ على تحدّي الهيْمنة الأمريكيّة بمطالبته الأُمم المتّحدة (التي كانت تسهر على إدارة برنامج النفط مقابل الغذاء) بتسوية الصادرات النفطيّة للعراق بالعملة الأوروبيّة الموحّدة بدلا من الدولار الأمريكي.
فعلى الرّغم من كلّ المعارضة الفرنسيّة والألمانيّة لغزو العراق في 2003 (انطلاقا من المصالح الإستراتيجيّة للاتحاد الأوروبي، وليس حبّا في نظام صدّام)، فإن ذلك لم يَمنع الولايات المتّحدة من اجتياحه حتّى من دون غطاء الشرعيّة الدوليّة التي كانت إدارة جورج بوش الابن ترغب فيه من خلال استصدار قرارٍ من مجلس الأمن في الأُمم المتّحدة.
ومن أجل هذه الاعتبارات تحديدا، نرى بعض الدول التي تُعلن في الصحافة والإعلام منذ سنوات أنّها تتّجه نحو استبدال اليوان الصيني بالدولار في تسويةِ صادراتها النفطيّة تقدِّم رِجلا وتؤخِّر أخرى، وكأنّها تختبر ولا تدري ما قد يكون ردُّ فعلِ دوائر صناعة القرار في أمريكا، وما قد يترتّب عن ذلك من عواقب على أمنها القومي. فهل من المُمكن أن تأتي الصين لحمايتها من الولايات المتّحدة في حال أَقدمت هذه الأخيرة على عملٍ عسكري ضدها تحت أي ذريعة (تمويل إرهاب أو اضْطهاد أقليّات أو أيّ سببٍ آخر سيتمّ تعبئة الإعلام والمؤسّسات الدوليّة من أجل تسويقه)، كما صنعت مع العراق؟. أرى ذلك مستبعدا على الأقل في الوقت الراهن، فالمشكلات والتحدّيات الإقليمية للصين (تايوان أنموذجا) أكبر من أن تسمح لها بالتورُّط العسكري في أي منطقة من العالَم، مهما تكن أهميّتها من الناحية الإستراتيجيّة والجيوسياسية.
الأقوى عسكريا
يجزم إدوخراز أن التاريخ يقدم دروسه، وأن هذا التاريخ يخبرنا أن العملة المُهيمنة في العلاقات الدولية تبقى هي عملة البلد (الإمبراطورية) الأقوى عسكريا (وإن تراجَعَ نسبيا على المستوى الاقتصادي)، إلى أن تتغير موازين القوة العسكريّة في العالَم، فتحل عملةُ إحدى القوى الصاعدة مكانها، كما حصل عندما حلَّ الدولار الأمريكي مكان الجنيه الإسترليني (عملة الإمبراطوريّة البريطانيّة التي هَيْمَنت على القرن الـ19).
لكنّ هذا التغيير، كما يؤكِّد المؤرِّخ البريطاني بول كينيدي، يحدث في أعقاب حربٍ عظمى تُعيد توزيع القوّة بين الدول الكبرى في العالَم (الحرب العالَميّة الثانية أنموذجا).
فهل يكرِّر التاريخُ نفسَه، وتمضي البشريّة من جديد في مُعاودة أخطاء الماضي، أم أن الردع النووي قادر على أن يَحول دون ذلك هذه المرّة، وإقناع الجميع بأنه لا بديل عن التفاوض والتعاون في سبيلِ إرساءِ أُسسِ نظامٍ دولي جديد أكثر عدالة؟. من الصعب التنبّؤ بأي شيء حينما يتعلّق الأمر بالإنسان!.
اليورو
العملة الرسمية لـ20 من أصل 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي
تُعرف مجموعة الدول هذه باسم «منطقة اليورو»
تضم دول منطقة اليورو 343 مليون مواطن تقريباوفقا لإحصاء 2019
يقسم اليورو إلى 100 سنت
يعد ثاني أكبر العملات وأكثرها تداولًا بعد الدولار الأمريكي
يخضع لإدارة البنك المركزي الأوروبي بمقره في فرانكفورت
في 16 ديسمبر 1995، اُعتمد اسم اليورو رسميا في مدريد
في 1 يناير 1999، أُدرِج اليورو في الأسواق المالية العالمية، بوصفه وحدة حساب نقدية
لماذا عجز اليورو عن كسر هيمنة الدولار؟
الاعتبارات الاقتصاديّة لا تكفي وحدها لتحديد موقع أي عملة في منظومة النقد الدولي
الاعتبارات السياسية لم تساعد على تقوية موقع اليورو
القدرات المحدودة جدّا للبلدان الأعضاء في منطقة اليورو على مستوى التدخُّل العسكري أثرت سلبيا على اليورو
الجوانب الأمنية والبُعد الجيوسياسي والحضور العسكري الأمريكي تقوي الدولار على حساب اليورو
تغيير عملة دولة وتراجعها يحتاج إلى حدث كبير وعظيم مثل الحرب العالمية