جبرا إبراهيم

يقول الأمريكيون إن الزعامة الدولية في العالم فُرضت عليهم فرضا بعد الحرب العالمية الأخيرة، وعليهم لذلك أن ينهضوا بأعباء زعامة ما كانوا مستعدين لها، ولكنهم يأملون بمواردهم الطبيعية الهائلة، وتقدمهم التكنيكي في كل ميدان ألا يخفقوا في بلوغ هذه الغاية.

وهم يتطلعون أيضا إلى زعامة العالم في الثقافة والفن، وإن كانوا لا يزالون يرون في إنجلترا وفرنسا معلمتين لا غنى لهم عنهما. وتتردد كلمة «الثقافة» على ألسنة الأمريكيين أكثر من غيرهم، لشعورهم بحداثة تاريخهم، وليقينهم بأن الخطورة السياسية لن تكتمل إلا بنشر الثقافة، ورعاية المقدرة الإبداعية وتقويتها في أبنائهم، ويمكن تحقيق هذه الغاية عن طريقين: الأولى درس الحضارة الأوروبية والتاريخ الأوروبي وهضمها، لكي تبقى الحضارة الأمريكية امتدادا للحضارة في أوروبا، والثانية خلق أدب أمريكي بحت يعني بالمشاكل المحلية التي أوجدها توسع الأمريكيين في القارة غربا، وتضاعف السكان بسرعة عجيبة في المئة سنة الأخيرة (من نحو 35 مليونا إلى 156 مليونا)، وقيام المدن الضخمة التي تنمو طولا وعرضا وعلوا بشكل رهيب.

والطريق الأولى يتوضح نهجها في برامج الجامعات الكبرى، فهارفارد مثلا تدعو نفسها خليفة الجامعات الألمانية وجامعتي أكسفورد وكامبريدج، وتدعي أنها الآن أكثر نشاطا وإبداعا من سابقاتها، مع ظهور بعض الروائيين المتشبعين بالروح الأوروبية كهنري جيمز، والانصراف إلى النقد الأدبي، لدرس الآثار الماضية دراسة دقيقة شاملة.

أما الطريق الثانية فتبدو معالمها في الأفلام والتليفزيون ومئات المجلات المصورة التي تستهدف التسلية وخدمة العامة. لكنها تبدو على أحسنها في تأليف الشعراء والروائيين الذين يستقون مادتهم من الحياة الأمريكية الصرف أمثال ويتمن وملفل Melville في القرن الماضي، وإرنست همينجوي وسنكلير لويس وولیم فولكنر وPauliner وجون شتاينبك في هذا القرن، وبينهم الكثير ممن لم يحظ بدراسة جامعية.

والظاهرة التي يلحظها القادم إلى هذه البلاد للمرة الأولى هي العنابة العجيبة بالنقد الأدبي التي يبديها قسم كبير من الأدباء (وكثير منهم شعراء أو روائيون، فضلا عن كونهم أساتذة في الجامعات)، فهم يغرقون في دراسة النصوص، واستخلاص صورها الشعرية imagery، والنفاذ إلى رموزها، واكتشاف المعاني الباطنية والارتباطات الخفية فيها، حتى كاد النقد، وقد غدا مجالا لجلو المواهب وشحذ الفكر، أن يحل محل الكتابة الإبداعية عند بعضهم، وغدا النقد يسمى في الغالب «النقد الإبداعي» Creative Criticism. لكن يخشى الإنسان أن هذا الانصراف الشديد إلى تمحيص النص والتدقيق في الشكل يؤدي أحيانا إلى شيء من البيزنطية، وبالتالي إلى الجدب في نواحي الخلق. لذلك، نسمع شكاوى كثيرة من الأدباء خلاصتها أن الشعر الجيد في البلاد قليل الآن، وأن التغلغل في الدراسة إلى المنابع اللاواعية في شعر الشعراء الكبار - أمثال شكسبير وملتون ودان وكيتس وشلي وكولردج - قد ينتهي بالدارس إلى العجز عن الاستسلام لما عنده هو من منابع لاواعية، لشدة يقظته المستمرة، فيصبح في النهاية أستاذا للأدب لا مبدعا له. غير أن الجامعات تهتم بالكتابة الإبداعية، وهذا النقد يختلف عن «النقد التاريخي» الذي كان شائعا في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، وهو الذي يعنى بتراجم الأدباء ودراستهم من حيث تفاصيل الحوادث في حياتهم وعلاقتها بكتاباتهم. وفي البلاد عدد كبير من الشعراء، وإن انصرف الكثير منهم إلى النقد أو الرواية. وقد كان الشعر حتى الحرب الأخيرة تحت تأثير تي. إس. إليوت T. S. Eliot، الذي عبر عن المحل النفسي والوحشة الإنسانية في فترة ما بين الحربين (كما فعل إرنست همينغوي في رواياته عن «الجيل الضائع» The lost generation)، ولكن تأثيره الآن في تقلص سريع، إذ عاد الشعراء الشباب إلى غنائية الشاعر الأيرلندي بيتس Beats الذي توفي قبيل الحرب الثانية، وبيتر فيرك أحسن من يمثّل هذا الاتجاه الغنائي الجديد، والعودة إلى الوزن والقافية، وعدم الترفع عن عرض عواطف الحب والحماسة للحياة والجمال. وقد بقي في الشعر الأمريكي تأثير إزرا باوند Eara Pound الأمريكي (وهو شاعر يتسرب إطلاعه العجيب الاتساع إلى شعره فيعقده جدا، وقد جاهد في نظم ونثر التحرير الإنساني مما يدعوه حكم الرباء Usaroorats)، ولعل تأثيره ناجم عن مقالاته ورسائله المدهشة بأسلوبها ولغتها التي يدعو فيها إلى التركيز والغناء في الشعر أكثر مما هو ناجم عن قصائده المدعوة «Canton»، لصعوبتها، وهو الآن نزيل في مصح عقلي بأمر من الحكومة بعد أن اتهم بالخيانة، لإذاعاته من روما في أثناء الحرب. مع ذلك، فإنه قبل أربع سنين أعطي جائزة الكونغرس للشعر، لديوان نظمه وهو في المصح.

وما من شك في أن الأدب الأهم في هذا العصر هو أدب الرواية، والأمريكيون يعتزون بكتّابهم الروائيين، ولا سيما بعد أن رأوا ما لرواياتهم من وقع في نفوس الأوروبيين. ففي بحر اثنتين وعشرين سنة، نال اثنان من الروائيين الأمريكيين جائزة نوبل، وهما سنكلير لويس ووليم فولكنر. غير أن حصول فولكنر على هذه الجائزة، وهو إقرار بخطورته الأدبية في العالم، كاد يدهش الأمريكيين، إذ لم ينتبهوا إليه كثيرا في العشرين سنة الأولى من كفاحه الأدبي، بينما اهتم الفرنسيون برواياته، وتصدوا لدرسها وتحليلها، فكانوا السبب في لفت الأنظار إليه في العالم وأمريكا، حيث تدور قصصه حول الأصقاع الجنوبية من الولايات الأمريكية، وينتقي من المواضيع ما هو مرعب أو قبيح أو شرس كأن الحياة تحدو بها قوى شريرة عارمة على الإنسان أن يصارعها. ولعل الخطاب القصير الذي ألقاه فولكنر في ستوكهولم يعين على فهم نهاية الاتجاهات التي عمت من 1920 إلى 1950، وينذر الأدباء بمسؤولياتهم تجاه الحياة والإنسانية (بعد أن كانوا في الغالب يستخفون بمثل هذا الرأي في السنوات الماضية)، حيث قال إن الأمر الوحيد الذي يستحق عناية الكاتب هو: مشاكل القلب في صراعه مع نفسه، وقرن هذا الموضوع بمأساة هذا العصر.

1953*

* أديب وأكاديمي فلسطيني / عراقي «1920 - 1994»