رجاء النقاش

من الصعب أن نحدد تماما الطريق الذي يقطعه حاضر العالم الحديث إلى المستقبل، ذلك لأن عناصر الاضطراب المختلفة تقف في مواجهة الحياة الإنسانية إلى درجة يحس الفرد معها بأنه مهدد، لا يطمئن على شيء يملكه حتى صفاته كإنسان، فحريته مفقودة أمام المصادقة، والسلام الذي يعيش فيه سلام شكلي يبدو واقع الحياة معه أكثر اضطرابا منه في حالة الحرب ذاتها، ولا نخالف الحقيقة إذا قلنا إننا بالفعل في حالة حرب، كل ما هنالك أن الخطوة الأولى الإيجابية قد تأجلت كنتيجة طبيعية للرغبة الملحة في ضمان النصر بالاستعداد المستمر، حتى تكون الطاقة أقوى على الثبات في لحظات الصراع.

ولا يمكن أن تعتبر الحرب في حد ذاتها مركز المشاكل التي تواجه الإنسان، فهي ملازمة لماضيه منذ المراحل الأولى للتاريخ. أما المحنة الجديدة تماما بالنسبة لعالمنا فهي «الشكل» الذي أخذته الحروب الحديثة كنتيجة مباشرة لتدخل الآلة في صورة إيجابية ومرنة، بحيث يمكن أن يستقر عن طريقها السلام الحقيقي على الأرض. ويمكن كذلك أن تقوم الحروب ذات الطابع العنيف، والإنسان الممتحن في تقدمه الحضاري، محاولا محاولة طبيعية ومستمرة، أن يتخذ من الفكر قوة تحفظ توازن الحياة، فلا تميل مع الجانب الذي يجددنا باستمرار. ومن هنا، كانت المذاهب المعاصرة، التي حاولت تحديد قيمة الإنسان والعمل وتشكيل وضعه في صورة معينة، هي النتيجة الطبيعية لإحساس الإنسان باضطراب حياته، وتعدد مشاكله. ولقد تحول بعض هذه المذاهب إلى واقع عملي بتحققها في المجتمعات الإنسانية المختلفة، فقامت نازية ألمانيا، وفاشية إيطاليا، وكان نصيبها الفشل خلال تجربة الحرب العالمية الثانية. ويقوم في روسيا الآن، بشكل عملي، المذهب الشيوعي الذي تقابله الرأسمالية الأمريكية. وقد حاولت تلك المذاهب كلها تكييف الإنسان في صورة معينة، وتغليب هذا اللون من التكيف على مختلف البيئات الإنسانية، ولكن الصراع لم يلبث أن قام بين تلك المذاهب، وتبدو أعنف صوره في ذلك الصراع القائم بين الشيوعية والرأسمالية، ومن الطبيعي أن يكون الإنسان هو محور هذا الصراع الذي يعمل على تهديد الذين يعيشون في العالم الحديث بلا ذنب ولا خطيئة، إلا أن وجودهم بالمصادفة قد تحدد نطاقه الزمني في هذه الفترة التي أخذت فيها الحياة طابع مشكلة عنيفة المضمون والإطار.

وكان من ظواهر المقاومة لعناصر الدمار في هذا الصراع أن يظهر المذهب الوجودي بشكله عند سارتر، حيث يمثل هذا المذهب الاستجابة المباشرة لحاجة الإنسان المعاصر إلى إعادة النظر في مقومات وجوده، ثم محاولة تكييفها على شكل جديد بإرادته واختياره ما دامت المذاهب الأخرى التي أعطته شكلا معينا قد سلبت منه بالتجربة عنصرين مهمين: فنه وحريته، فالحياة الآلية في أمريكا، حيث تقوم الرأسمالية، قد رفضت الاتجاهات التي يمثلها شتاينبك وريتشارد رايت، ولم تتح الحرية والمجال لفنه الذي يحاول بقوة أن يعيد للإنسان حريته الضائعة بين الآلة والاستسلام للفطرة بالدعوة إلى ضرورة الحرص على الشكل الإنساني لحياتنا، والعمل على تحريكنا في نطاق انفعالي، غير جامد، ولا معتمد على إمكانات آلية أو بدائية، تستمد عناصرها من الغريزة، كما هو الحال تماما في فن هوليوود وحياتها. كذلك لم يعد للفن الروسي في ظل الشيوعية ذلك الأثر الإيجابي في إشباع وجدانات الإنسان، والاستجابة للقيم العليا التي تعطي لحياته صفة الإنسانية، كما كان شأنه قبل الحركة الشيوعية التي سيطرت على الحياة منذ 1917 حتى اليوم، وذلك لأن الشيوعية قد اعتبرت الفن مرفقا من مرافق الدولة - بعد أن أخذت شكلها في حدود المذهب - ويجب أن يخضع لها، ويؤدي مهمة الاستجابة لمطالبها مهما خالفت تلك المطالب واقع النفس الفردية. والخطأ البارز في تلك المذاهب، الذي كان مقدمة لظهور الوجودية، أنها أخذت ترغم الحياة أو تستغلها عندما تفقد إرادتها وحرية اختيارها، لتبقى هي على حساب الإنسان ذاته، إذ لا مانع أن يتقدم للدفاع عنها، ولو أدى ذلك إلى أن يموت كما مات بطل «قضية» كافكا بشكل غير إنساني.

1953*

* ناقد مصري «1934 - 2008»