أحمد جابر*
لكلّ حرب خطّةٌ وأهداف. الأمران يَقعان في مَوقع الاحتمالات المُرَجَّحَة. عناصر الترجيح الحربيّة مُتَعَدِّدَةُ المصادر، وصيغتها تكون في عنوان تقدير الموقف الشامل، الذي تتولَّى هيئات الأركان الحربيّة صَوْغَ عناصره، وتتولّى من ثمّ تفصيلها تفصيلاً مُدَقَّقاً، في ضَوء المعلومات الشاملة المُتوافرة في حوزة الهيئة القياديّة.
تتوخّى أركان الجيوش قراءة الواقع الميدانيّ في تبدّلاته، وفي احتمالاته، وفي مستجدّاته، لكي تزوّد القيادات الميدانيّة بسلسلة الإجراءات التكتيكيّة الاستباقيّة، التي تمنع ارتباك أداء الوحدات القتاليّة. أمّا ما بعد مكاتب الأركان، وأمّا ما يَقع خارج الخرائط الصامتة، فتكون الكلمة الحاسمة فيه للميدان الحيّ، وللقادة الميدانيّين الذين يسدُّون كلّ فراغ لم تلحظه أقلام الخطط القتاليّة.
آليّة التخطيط، المَبنيّة على دراسة وتقدير أداء القوى الذاتيّة وكفاءتها وقدراتها، وعلى توقُّع ما قد تُظهره قدراتُ الطرف المُعادي في المُواجَهة، تَضع أكثر من علامة استفهام حول سَيْرِ العمليّات القتاليّة، وحول النجاح الذي قد تحقّقه، وحول الإخفاق الذي قد تَقع فيه. علامات الاستفهام هذه، تعود لتَجتمع في علامةِ استفهامٍ واحدة هي: هل يُمكن الجزم بنهاية المعركة بعد ساعة صفر الانطلاق؟ أم أنّ نتائج المراحل القتاليّة المتوالية، هي التي ترسم تِباعاً صورةَ المآل الأخير المُحتمَل للمعركة؟ واضحٌ أنّ الجواب النهائي، على ختام جَلَبَةِ صنوف الأسلحة، تصنعه تطوّراتُ الميدان.
هذه المقدّمة الاستهلاليّة، الطويلة «نسبيّاً»، ضروريّة لدى التوقُّف أمام تطوّرات الحرب المفتوحة التي تشنّها قوّات العدوّ الإسرائيلي على قطاع غزّة، وضروريّة لكبْح كتابات الترجيحات والتوقُّعات، المُتفائلة والمُتشائمة، التي سارع إليها سياسيّون وعسكريّون، وأحزابٌ وتنظيماتٌ عدّة... فبات للحرب، مع هؤلاء، نهايات معلومة، قَبل أن تبدأ الحرب، وقَبل أن تنتهي مراحل التمهيد المدفعيّ والصاروخيّ والجويّ، التي تَسمح بتقدُّمٍ «أسهل» لقوّات الغزو البريّة.
عناوين تستحق الضوء
عود على بدء، وحتّى بدء عمليّة الاجتياح البريّة التي يُهدِّد بها العدوّ، ما هي العناوين الأبرز التي يُمكن إلقاء الضوء عليها؟ وما هي المعطيات والاحتمالات التي ينطوي عليها كلُّ عنوان؟.. أي ما هو الإطار العامّ الآن، بعد أيّامٍ طوالٍ من الحرب على قطاع غزّة؟ وما أدوار اللّاعبين الذين احتلُّوا مواقعهم البارزة من ضمن هذا الإطار؟
يتقدّم عنوان الإطار السياسي، الذي تدور من ضمنه معركة غزّة الحاليّة، على سائر العناوين والأسئلة المطروحة، وينتظمها قلقٌ سياسيٌّ واحد، محوره الأُفق الذي قد يكون مفتوحاً أمام المُقاتلين الفلسطينيّين، أو الحاجز السياسيّ المُعادي القاهر، الذي يَمنع المُقاتلين من بلوغِ أيِّ أُفق. إذن ماذا عن الأُفق السياسيّ، أي ماذا عن النتائج التي قد تُسفِر عنها الحربُ المفتوحة؟ يتبادر إلى الذهن طَرْحُ فكرةٍ أولى، هي: هل سيَسمح العدوُّ الإسرائيلي، ومن ورائه «الغرب»، بخيالِ نجاحٍ تَخرج حركةُ حماس متسلِّحةً به، فتَنسب إلى نفسها، ويَنسب إليها الآخرون، فَوزاً واضحاً على آلة الحرب الإسرائيليّة؟
ويدور في الذهن هاجسُ فكرةٍ أساسيّة، هي: هل يخرج «الغرب» بحقيقة سياسيّة، أقرَّ بها في اتّفاق أوسلو، فوافق على قيام دولة فلسطينيّة على جزء من أرض فلسطين التاريخيّة؟ الجواب الأقرب إلى الواقع، هو أنّ الفكرتَيْن مُستبعَدتان من السياسات الغربيّة، هذا لأنّهما تقفان على أرضِ نجاحٍ قتاليّ واضح في بُعده الميدانيّ، في الفكرة الأولى، وواضح في بُعده السياسيّ، في الفكرة الثانية، والحال، أنّ إسرائيل ورُعاتها وداعميها، ليسوا في واردِ فتْحِ الملفّ الفلسطينيّ السياسيّ، وهُم يُكثرون من «الجعْجَعة» الإنسانيّة، ويتعامون عن أنّ «الطحين» لا يُمكن إلّا أن يكون سياسيّاً، هذا ليكون مُمكناً، استواء الطحين خُبزاً فلسطينيّاً تاريخيّاً، من معجنٍ فلسطينيّ تاريخيّ، وعلى نارٍ فلسطينيّة، تُعيد اشتعال الجذوة التي لم تفلح سياساتُ إطفائها، في مَوقد التاريخ.
استبعادُ الحلّ السياسيّ
إذن، وبقراءةٍ هادئة، لا تبدو معركة الفلسطيني مفتوحة الأُفق، إذا ما قيست الأمور بمقياس الموازين التي تُقارِن بين الذاتيّ الفلسطينيّ، على صعيد الرعاية والدَّعم والقُدرات، ميدانيّاً وسياسيّاً، وبين «الذاتيّات» المُعادية والمُضادّة، على صعيد ما تمتلكه «أيمانُها» من عناصر قوّة هائلة.
الانتقال من المعطى الفلسطينيّ إلى المعطى العربيّ، قد يضيف لَوناً إلى صورة الأُفق المُمكن أو الصعب، فلسطينيّاً، لكنّه لا يَملك عناصر فرْض إضافاتٍ وازِنة على المشهد الفلسطينيّ العامّ. والعربيّ يشبه الغربيّ، في مضمار الاتّصال بفلسطين؛ فالإثنان اختارا المَدخل «الإنساني» مع جمل الشرح اللّازمة، والإثنان استبعَدا فرضيّة الحلّ السياسيّ الآن؛ العربيّ فَعَلَ ذلك، عندما أحال تنفيذ الحلّ إلى الغرب الذي يَملك مفتاح الحلّ، وهذا الأخير أَطاح بالحلّ منذ أوسلو وحتّى تاريخه، بالتغاضي عن كلّ العدوانيّة الإسرائيليّة. هذه السياسة الغربيّة، التي تقودها الولايات المتّحدة الأميركيّة، تستدعي استطراداً تفرضه الاستجابة السريعة والمُنحازة لضرورات الردّ الإسرائيليّ الشرس.
كتتمّة للمعطى العربي، هناك العامل الإقليميّ الإيرانيّ الذي لا يُمكن تجاهله، أو إسقاطه من الحساب.
بهدوء، وبواقعيّة، يبدو العامل الإيراني صاحب الثقل الوازن في المشهد الحالي، هذا لأنّه راكَمَ ومنذ زمن، استراتيجيّة نفوذه في فلسطين، وفي عدد من الدول العربيّة، على شعاريّة المُقاوَمة، وعلى شعاريّة تبنّي القضيّة الفلسطينيّة.
في ظلال الشعاريّة «النضاليّة»، امتلكتْ إيران قرارَ الحرب والسِّلم في لبنان، وامتلكته بدرجةٍ أقلّ في فلسطين، مثلما استحوذَت على مفاتيح التهدئة والمُشاكَسة، في اليمن وفي العراق وفي سوريا.
تأسيساً على ذلك، ما الذي يُمكن أن تضيفه إيران من دعْمٍ إلى المعركة الفلسطينيّة؟ للأمر حسابات، وعنوان الحسابات، المُوازَنة بين أرباح السياسة وخساراتها، وانعكاس ذلك على النفوذ الإقليميّ للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، وعلى موقعها السياسيّ - الاستراتيجيّ، على الخريطة الشرق أوسطيّة.
على أكثر من وجه، تتعامل السياسة الإيرانيّة مع الحرب على غزّة، بما يقترب من اعتبارها حرباً عليها، وتَربط سياسيّاً بين انعكاسات نتائجها على البنية الفلسطينيّة العامّة، وعلى بنية «أذرع المُقاومة»، في فلسطين وبعيداً من فلسطين.
تتوفَّر لدى إيران كلُّ الهواجس التي تُفضي إلى نتيجةٍ مهمّة، وهي: أنّ الحرب الحاليّة، إذ تستهدف حركة حماس، فإنّها تستهدف أيضاً، كفّ اليد الإيرانيّة عن التدخُّل والفعل في ميدان الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ، ووضْع حدٍّ لاستخدامه كذريعةٍ للاستمرار في إنشاءِ ودعْمِ هياكل تنظيميّة مسلَّحة، تتّخذ لها عناوين نضاليّة متعدّدة.
لا يخفى على مُتابِعٍ سياسيّ، أنّ «خروج» الإيراني من دائرة التأثير الحاسِم في فلسطين، يحيل «تنظيماته» المسلَّحة الخارجيّة إلى بُعدِها الداخلي فقط، أي يجعلها مجرَّدة من عنصر التفوُّق ذي البُعدَيْن، النضاليّ والتسليحيّ، أي العنصر الذي أَتاح لهذه التنظيمات أن تكون دولةً في دولة، أو دولةً فوق الدولة.
جواب مركب
إذا كان ما وَرَدَ أعلاه يَقَعُ في باب الحسابات، فماذا عن احتمال التدخُّل الإيراني المباشر في الحرب الدائرة؟ وهل تَخرج السياسةُ الإيرانيّة من تدخُّل المُداوَرة والمُناوَرة، إلى تدخُّل المُباشرة؟ الجواب مركَّب، وطلائعه أَتت على أكثرِ من لسانِ مسؤولٍ إيراني، والفحوى، حتّى تاريخه، أنّ الأذرع «الجهاديّة» الفلسطينيّة واللّبنانيّة، على وجه التحديد، ما زالت تحتلّ واجهةَ الصراع ضدّ الهجمة الإسرائيليّة.
هل يَفرض الوضعُ الميدانيّ المُتدحرِج في فلسطين، تغييراً على السياسة الإيرانيّة المُعتمَدة؟ ربّما متحفّظة، هذا لأنّ السياسيّ الإيرانيّ ما زال يعتقد بأنّ «الغرب» لن يَستبعد دَورَه كليّاً من المنطقة، ولأنّ المُباحثات الجارية في الكواليس بين إيران والغرب، لمّا تنقطع، وأنّ ما هو معروض على إيران يظلّ «ثميناً» في الحسابات المُستقبليّة.
بناءً على ما سَبق ذكره، وإذا ما اندرجَ عرضُ الواقع العامّ المُحيط بفلسطين، من ضمن سياق الاحتمالات، ينتقل السؤالُ مباشرةً إلى فعْلِ الميدان وأثره على التعديل فيها، لجهة السلب، ولجهة الإيجاب.
في الميدان، العَيْن على ما قد تُبديه المقاومة الإسلاميّة في غزّة من ثبات، ومن إدارة ناجحة في التصدّي للاجتياح البرّي الإسرائيليّ، في حال حصوله، ومن قدرة عالية على إنزال خسائر كبرى في بنى التشكيلات العسكريّة المُعادية.
إنّ استطالة زمن المعركة، يستنفد مهلةَ السماح العالَميّة المُعطاة للعدوّ، وقد يُخالِف الواقع افتراضنا، فيكون للعدوّ مهلة غربيّة مفتوحة.
استطالة المعركة، تزيد خسارة العدوّ، والخسارة البشريّة العالية، هي ممّا يُقلِق القيادة الإسرائيليّة في العادة، هذا مع العِلم أنّ حساب الخسائر يكون واضحاً لدى مَن يُخطِّط العمليّة العسكريّة ويُديرها.
الافتراض الصعب
لكنْ هل تَفرض بسالةُ المقاومين التراجُعَ على العدوّ، في حال أَقدم على إطلاق عمليّته الاجتياحيّة؟ يصعب افتراض ذلك. لماذا؟ لأنّ المؤسّسة السياسيّة الإسرائيليّة، ومن ورائها ومن أمامها، المؤسّسة العسكريّة، في حاجةٍ ماسّة إلى «نَصْرٍ» ما، يغسل وجوه الساسة والقادة، من عار الهزيمة التي أنزلتها بالجميع، المقاومةُ الفلسطينيّة في السابع من شهر اكتوبر الفائت.
إذن، تبدو المعركة بين الجيش الإسرائيلي والمُقاوَمة في غزّة، محكومةً بضرورة إحرازِ نصرٍ يسعى إليه الطرفان، ولعلّه يجوز القول في هذا المقام، إنّ كلّ فريق يسعى إلى النصر، من دون التوقُّف طويلاً، أمام ثمن النصر الذي سيكون باهظاً، وفقاً لكلّ المقاييس.
الإصرار على تحقيق النصر، وإدامة المعركة حتّى الوصول إليه، يجعل الحرب الحاليّة «حرب وجود» كما وَصَفَها الإسرائيلي، وهي على المقدار ذاته من الأهميّة والحَسْم لدى المُقاوَمة الفلسطينيّة التي تخوض حربَ وجودها السياسيّ.
تهديدات نتنياهو
لقد هدَّد بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة العدوّ، بتغيير الشرق الأوسط، وردَّد عددٌ من المسؤولين الإسرائيليّين القولَ في صيغة الوصول إلى «عالَمٍ من دون حماس»... في موازاة ذلك، لا تضمر حركة حماس أقلّ من جعل نهاية الحرب الحاليّة، بداية لصورة فلسطينيّة «جديدة». في الانتظار، ستتكفَّل الأيّام الآتية بتظهير الشرق الأوسط الإسرائيليّ الجديد، مثلما ستتكفّل بتظهير الصورة الفلسطينيّة الجديدة.
ولأنّ الادّعاء الغاضب، الإسرائيليّ، والأمل الطموح الحمساوي، ليسا مُلْكاً حصريّاً للطرفَيْن المُتصارعَيْن، فإنّ المُعايَنة الهادئة تفضي إلى خلاصةٍ هي: أيّ شرق أوسط يخلف شرق أوسط أميركا، الذي بشَّرَ به الرئيس جورج بوش الابن؟ وفي السياق ذاته، أيّ فلسطين تلك التي ستنبعث بعد فلسطين أوسلو الذي تجري مراسيم تشييعه الأخيرة اليوم؟
كاستطرادٍ ضروريّ، لن يكون مُستغرَباً القول، إنّ الحرب المندلعة راهناً تكاد تكون الحرب الإسرائيليّة الفلسطينيّة الأخيرة. ما تعليل هذه المُقارَبة؟ جواباً عن ذلك، يجب الاعتراف بأنّ قطاع غزّة الذي خَرَجَ منه الاحتلالُ الإسرائيليّ، هو «فلسطين» المحرَّرة التي في اليد. أمّا الضفّة الغربيّة، فهي «فلسطين» التي جرى قضمها التدريجي بالاستيطان... وعليه، فإنّ كسْر غزّة، يُعبِّد الطريق أمام إعادة إنتاج «دولة فلسطينيّة» هجينة، تحلّ محلّ الدولة التي سعى إليها الرئيس الراحل ياسر عرفات. هذه الدولة المُختزَلة، مرغوبة إسرائيليّاً، وغير مرفوضة دوليّاً.
من السابق لأوانه، الرجم بالغيب السياسيّ، لكن، وحتّى يكون «عند جُهينة الخبر اليقين»، يجب الانتباه إلى أنّ «دولة غزّة» كانت مطروحة جديّاً أيّام الرئيس المصري محمّد مرسي، وأنّ صيغة هدنة السنوات العشر، بين حماس وإسرائيل، كانت موضع أخذٍ وردّ أيّام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك... لذلك، ومن باب التوقُّع السياسي الحَذِر، يجب التذكير مجدّداً بأمرَيْن اثنَيْن: الأوّل منهما، هو حقيقة القبول بفكرة «كيان غزّاوي» تحكمه حماس، والثاني منهما، هو الدَّور المصري الذي يُمكن أن يُستعاد، في صيغةٍ تُشبه الإشراف على الكيان المُقترَح، وفْقَ نسخةٍ جديدة تفرضها الحالُ الدوليّة والفلسطينيّة والإقليميّة. مصر بوّابة غزّة، ومَمرّها إلى الداخل العربيّ كان ويعود من القاهرة... هل في ما وَرَدَ تجاوُزٌ على احتمالٍ يُمكن أن يصير واقعاً عيانيّاً؟ هذا ما سيقوله الميدان، وما ستقوله القوى المُنخرطة فيه، قتالاً وسياسةً.
لكن... ماذا عن مصير الضفّة الغربيّة؟ تستطيع الضفّة الانتظار، إلى ما بعد تقرير مصير غزّة، وعلى السلطة الوطنيّة هناك، أن تضعَ في حسابها شروط إعادة إنتاجها الجديدة، هذا إذا ما أراد الصانع الأميركي إعادة تصنيعها! *كاتب من لبنان
* ينشر متزامنا مع نشرة أفق.
تتوخّى أركان الجيوش قراءة الواقع الميدانيّ في تبدّلاته، وفي احتمالاته، وفي مستجدّاته، لكي تزوّد القيادات الميدانيّة بسلسلة الإجراءات التكتيكيّة الاستباقيّة، التي تمنع ارتباك أداء الوحدات القتاليّة. أمّا ما بعد مكاتب الأركان، وأمّا ما يَقع خارج الخرائط الصامتة، فتكون الكلمة الحاسمة فيه للميدان الحيّ، وللقادة الميدانيّين الذين يسدُّون كلّ فراغ لم تلحظه أقلام الخطط القتاليّة.
آليّة التخطيط، المَبنيّة على دراسة وتقدير أداء القوى الذاتيّة وكفاءتها وقدراتها، وعلى توقُّع ما قد تُظهره قدراتُ الطرف المُعادي في المُواجَهة، تَضع أكثر من علامة استفهام حول سَيْرِ العمليّات القتاليّة، وحول النجاح الذي قد تحقّقه، وحول الإخفاق الذي قد تَقع فيه. علامات الاستفهام هذه، تعود لتَجتمع في علامةِ استفهامٍ واحدة هي: هل يُمكن الجزم بنهاية المعركة بعد ساعة صفر الانطلاق؟ أم أنّ نتائج المراحل القتاليّة المتوالية، هي التي ترسم تِباعاً صورةَ المآل الأخير المُحتمَل للمعركة؟ واضحٌ أنّ الجواب النهائي، على ختام جَلَبَةِ صنوف الأسلحة، تصنعه تطوّراتُ الميدان.
هذه المقدّمة الاستهلاليّة، الطويلة «نسبيّاً»، ضروريّة لدى التوقُّف أمام تطوّرات الحرب المفتوحة التي تشنّها قوّات العدوّ الإسرائيلي على قطاع غزّة، وضروريّة لكبْح كتابات الترجيحات والتوقُّعات، المُتفائلة والمُتشائمة، التي سارع إليها سياسيّون وعسكريّون، وأحزابٌ وتنظيماتٌ عدّة... فبات للحرب، مع هؤلاء، نهايات معلومة، قَبل أن تبدأ الحرب، وقَبل أن تنتهي مراحل التمهيد المدفعيّ والصاروخيّ والجويّ، التي تَسمح بتقدُّمٍ «أسهل» لقوّات الغزو البريّة.
عناوين تستحق الضوء
عود على بدء، وحتّى بدء عمليّة الاجتياح البريّة التي يُهدِّد بها العدوّ، ما هي العناوين الأبرز التي يُمكن إلقاء الضوء عليها؟ وما هي المعطيات والاحتمالات التي ينطوي عليها كلُّ عنوان؟.. أي ما هو الإطار العامّ الآن، بعد أيّامٍ طوالٍ من الحرب على قطاع غزّة؟ وما أدوار اللّاعبين الذين احتلُّوا مواقعهم البارزة من ضمن هذا الإطار؟
يتقدّم عنوان الإطار السياسي، الذي تدور من ضمنه معركة غزّة الحاليّة، على سائر العناوين والأسئلة المطروحة، وينتظمها قلقٌ سياسيٌّ واحد، محوره الأُفق الذي قد يكون مفتوحاً أمام المُقاتلين الفلسطينيّين، أو الحاجز السياسيّ المُعادي القاهر، الذي يَمنع المُقاتلين من بلوغِ أيِّ أُفق. إذن ماذا عن الأُفق السياسيّ، أي ماذا عن النتائج التي قد تُسفِر عنها الحربُ المفتوحة؟ يتبادر إلى الذهن طَرْحُ فكرةٍ أولى، هي: هل سيَسمح العدوُّ الإسرائيلي، ومن ورائه «الغرب»، بخيالِ نجاحٍ تَخرج حركةُ حماس متسلِّحةً به، فتَنسب إلى نفسها، ويَنسب إليها الآخرون، فَوزاً واضحاً على آلة الحرب الإسرائيليّة؟
ويدور في الذهن هاجسُ فكرةٍ أساسيّة، هي: هل يخرج «الغرب» بحقيقة سياسيّة، أقرَّ بها في اتّفاق أوسلو، فوافق على قيام دولة فلسطينيّة على جزء من أرض فلسطين التاريخيّة؟ الجواب الأقرب إلى الواقع، هو أنّ الفكرتَيْن مُستبعَدتان من السياسات الغربيّة، هذا لأنّهما تقفان على أرضِ نجاحٍ قتاليّ واضح في بُعده الميدانيّ، في الفكرة الأولى، وواضح في بُعده السياسيّ، في الفكرة الثانية، والحال، أنّ إسرائيل ورُعاتها وداعميها، ليسوا في واردِ فتْحِ الملفّ الفلسطينيّ السياسيّ، وهُم يُكثرون من «الجعْجَعة» الإنسانيّة، ويتعامون عن أنّ «الطحين» لا يُمكن إلّا أن يكون سياسيّاً، هذا ليكون مُمكناً، استواء الطحين خُبزاً فلسطينيّاً تاريخيّاً، من معجنٍ فلسطينيّ تاريخيّ، وعلى نارٍ فلسطينيّة، تُعيد اشتعال الجذوة التي لم تفلح سياساتُ إطفائها، في مَوقد التاريخ.
استبعادُ الحلّ السياسيّ
إذن، وبقراءةٍ هادئة، لا تبدو معركة الفلسطيني مفتوحة الأُفق، إذا ما قيست الأمور بمقياس الموازين التي تُقارِن بين الذاتيّ الفلسطينيّ، على صعيد الرعاية والدَّعم والقُدرات، ميدانيّاً وسياسيّاً، وبين «الذاتيّات» المُعادية والمُضادّة، على صعيد ما تمتلكه «أيمانُها» من عناصر قوّة هائلة.
الانتقال من المعطى الفلسطينيّ إلى المعطى العربيّ، قد يضيف لَوناً إلى صورة الأُفق المُمكن أو الصعب، فلسطينيّاً، لكنّه لا يَملك عناصر فرْض إضافاتٍ وازِنة على المشهد الفلسطينيّ العامّ. والعربيّ يشبه الغربيّ، في مضمار الاتّصال بفلسطين؛ فالإثنان اختارا المَدخل «الإنساني» مع جمل الشرح اللّازمة، والإثنان استبعَدا فرضيّة الحلّ السياسيّ الآن؛ العربيّ فَعَلَ ذلك، عندما أحال تنفيذ الحلّ إلى الغرب الذي يَملك مفتاح الحلّ، وهذا الأخير أَطاح بالحلّ منذ أوسلو وحتّى تاريخه، بالتغاضي عن كلّ العدوانيّة الإسرائيليّة. هذه السياسة الغربيّة، التي تقودها الولايات المتّحدة الأميركيّة، تستدعي استطراداً تفرضه الاستجابة السريعة والمُنحازة لضرورات الردّ الإسرائيليّ الشرس.
كتتمّة للمعطى العربي، هناك العامل الإقليميّ الإيرانيّ الذي لا يُمكن تجاهله، أو إسقاطه من الحساب.
بهدوء، وبواقعيّة، يبدو العامل الإيراني صاحب الثقل الوازن في المشهد الحالي، هذا لأنّه راكَمَ ومنذ زمن، استراتيجيّة نفوذه في فلسطين، وفي عدد من الدول العربيّة، على شعاريّة المُقاوَمة، وعلى شعاريّة تبنّي القضيّة الفلسطينيّة.
في ظلال الشعاريّة «النضاليّة»، امتلكتْ إيران قرارَ الحرب والسِّلم في لبنان، وامتلكته بدرجةٍ أقلّ في فلسطين، مثلما استحوذَت على مفاتيح التهدئة والمُشاكَسة، في اليمن وفي العراق وفي سوريا.
تأسيساً على ذلك، ما الذي يُمكن أن تضيفه إيران من دعْمٍ إلى المعركة الفلسطينيّة؟ للأمر حسابات، وعنوان الحسابات، المُوازَنة بين أرباح السياسة وخساراتها، وانعكاس ذلك على النفوذ الإقليميّ للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، وعلى موقعها السياسيّ - الاستراتيجيّ، على الخريطة الشرق أوسطيّة.
على أكثر من وجه، تتعامل السياسة الإيرانيّة مع الحرب على غزّة، بما يقترب من اعتبارها حرباً عليها، وتَربط سياسيّاً بين انعكاسات نتائجها على البنية الفلسطينيّة العامّة، وعلى بنية «أذرع المُقاومة»، في فلسطين وبعيداً من فلسطين.
تتوفَّر لدى إيران كلُّ الهواجس التي تُفضي إلى نتيجةٍ مهمّة، وهي: أنّ الحرب الحاليّة، إذ تستهدف حركة حماس، فإنّها تستهدف أيضاً، كفّ اليد الإيرانيّة عن التدخُّل والفعل في ميدان الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ، ووضْع حدٍّ لاستخدامه كذريعةٍ للاستمرار في إنشاءِ ودعْمِ هياكل تنظيميّة مسلَّحة، تتّخذ لها عناوين نضاليّة متعدّدة.
لا يخفى على مُتابِعٍ سياسيّ، أنّ «خروج» الإيراني من دائرة التأثير الحاسِم في فلسطين، يحيل «تنظيماته» المسلَّحة الخارجيّة إلى بُعدِها الداخلي فقط، أي يجعلها مجرَّدة من عنصر التفوُّق ذي البُعدَيْن، النضاليّ والتسليحيّ، أي العنصر الذي أَتاح لهذه التنظيمات أن تكون دولةً في دولة، أو دولةً فوق الدولة.
جواب مركب
إذا كان ما وَرَدَ أعلاه يَقَعُ في باب الحسابات، فماذا عن احتمال التدخُّل الإيراني المباشر في الحرب الدائرة؟ وهل تَخرج السياسةُ الإيرانيّة من تدخُّل المُداوَرة والمُناوَرة، إلى تدخُّل المُباشرة؟ الجواب مركَّب، وطلائعه أَتت على أكثرِ من لسانِ مسؤولٍ إيراني، والفحوى، حتّى تاريخه، أنّ الأذرع «الجهاديّة» الفلسطينيّة واللّبنانيّة، على وجه التحديد، ما زالت تحتلّ واجهةَ الصراع ضدّ الهجمة الإسرائيليّة.
هل يَفرض الوضعُ الميدانيّ المُتدحرِج في فلسطين، تغييراً على السياسة الإيرانيّة المُعتمَدة؟ ربّما متحفّظة، هذا لأنّ السياسيّ الإيرانيّ ما زال يعتقد بأنّ «الغرب» لن يَستبعد دَورَه كليّاً من المنطقة، ولأنّ المُباحثات الجارية في الكواليس بين إيران والغرب، لمّا تنقطع، وأنّ ما هو معروض على إيران يظلّ «ثميناً» في الحسابات المُستقبليّة.
بناءً على ما سَبق ذكره، وإذا ما اندرجَ عرضُ الواقع العامّ المُحيط بفلسطين، من ضمن سياق الاحتمالات، ينتقل السؤالُ مباشرةً إلى فعْلِ الميدان وأثره على التعديل فيها، لجهة السلب، ولجهة الإيجاب.
في الميدان، العَيْن على ما قد تُبديه المقاومة الإسلاميّة في غزّة من ثبات، ومن إدارة ناجحة في التصدّي للاجتياح البرّي الإسرائيليّ، في حال حصوله، ومن قدرة عالية على إنزال خسائر كبرى في بنى التشكيلات العسكريّة المُعادية.
إنّ استطالة زمن المعركة، يستنفد مهلةَ السماح العالَميّة المُعطاة للعدوّ، وقد يُخالِف الواقع افتراضنا، فيكون للعدوّ مهلة غربيّة مفتوحة.
استطالة المعركة، تزيد خسارة العدوّ، والخسارة البشريّة العالية، هي ممّا يُقلِق القيادة الإسرائيليّة في العادة، هذا مع العِلم أنّ حساب الخسائر يكون واضحاً لدى مَن يُخطِّط العمليّة العسكريّة ويُديرها.
الافتراض الصعب
لكنْ هل تَفرض بسالةُ المقاومين التراجُعَ على العدوّ، في حال أَقدم على إطلاق عمليّته الاجتياحيّة؟ يصعب افتراض ذلك. لماذا؟ لأنّ المؤسّسة السياسيّة الإسرائيليّة، ومن ورائها ومن أمامها، المؤسّسة العسكريّة، في حاجةٍ ماسّة إلى «نَصْرٍ» ما، يغسل وجوه الساسة والقادة، من عار الهزيمة التي أنزلتها بالجميع، المقاومةُ الفلسطينيّة في السابع من شهر اكتوبر الفائت.
إذن، تبدو المعركة بين الجيش الإسرائيلي والمُقاوَمة في غزّة، محكومةً بضرورة إحرازِ نصرٍ يسعى إليه الطرفان، ولعلّه يجوز القول في هذا المقام، إنّ كلّ فريق يسعى إلى النصر، من دون التوقُّف طويلاً، أمام ثمن النصر الذي سيكون باهظاً، وفقاً لكلّ المقاييس.
الإصرار على تحقيق النصر، وإدامة المعركة حتّى الوصول إليه، يجعل الحرب الحاليّة «حرب وجود» كما وَصَفَها الإسرائيلي، وهي على المقدار ذاته من الأهميّة والحَسْم لدى المُقاوَمة الفلسطينيّة التي تخوض حربَ وجودها السياسيّ.
تهديدات نتنياهو
لقد هدَّد بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة العدوّ، بتغيير الشرق الأوسط، وردَّد عددٌ من المسؤولين الإسرائيليّين القولَ في صيغة الوصول إلى «عالَمٍ من دون حماس»... في موازاة ذلك، لا تضمر حركة حماس أقلّ من جعل نهاية الحرب الحاليّة، بداية لصورة فلسطينيّة «جديدة». في الانتظار، ستتكفَّل الأيّام الآتية بتظهير الشرق الأوسط الإسرائيليّ الجديد، مثلما ستتكفّل بتظهير الصورة الفلسطينيّة الجديدة.
ولأنّ الادّعاء الغاضب، الإسرائيليّ، والأمل الطموح الحمساوي، ليسا مُلْكاً حصريّاً للطرفَيْن المُتصارعَيْن، فإنّ المُعايَنة الهادئة تفضي إلى خلاصةٍ هي: أيّ شرق أوسط يخلف شرق أوسط أميركا، الذي بشَّرَ به الرئيس جورج بوش الابن؟ وفي السياق ذاته، أيّ فلسطين تلك التي ستنبعث بعد فلسطين أوسلو الذي تجري مراسيم تشييعه الأخيرة اليوم؟
كاستطرادٍ ضروريّ، لن يكون مُستغرَباً القول، إنّ الحرب المندلعة راهناً تكاد تكون الحرب الإسرائيليّة الفلسطينيّة الأخيرة. ما تعليل هذه المُقارَبة؟ جواباً عن ذلك، يجب الاعتراف بأنّ قطاع غزّة الذي خَرَجَ منه الاحتلالُ الإسرائيليّ، هو «فلسطين» المحرَّرة التي في اليد. أمّا الضفّة الغربيّة، فهي «فلسطين» التي جرى قضمها التدريجي بالاستيطان... وعليه، فإنّ كسْر غزّة، يُعبِّد الطريق أمام إعادة إنتاج «دولة فلسطينيّة» هجينة، تحلّ محلّ الدولة التي سعى إليها الرئيس الراحل ياسر عرفات. هذه الدولة المُختزَلة، مرغوبة إسرائيليّاً، وغير مرفوضة دوليّاً.
من السابق لأوانه، الرجم بالغيب السياسيّ، لكن، وحتّى يكون «عند جُهينة الخبر اليقين»، يجب الانتباه إلى أنّ «دولة غزّة» كانت مطروحة جديّاً أيّام الرئيس المصري محمّد مرسي، وأنّ صيغة هدنة السنوات العشر، بين حماس وإسرائيل، كانت موضع أخذٍ وردّ أيّام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك... لذلك، ومن باب التوقُّع السياسي الحَذِر، يجب التذكير مجدّداً بأمرَيْن اثنَيْن: الأوّل منهما، هو حقيقة القبول بفكرة «كيان غزّاوي» تحكمه حماس، والثاني منهما، هو الدَّور المصري الذي يُمكن أن يُستعاد، في صيغةٍ تُشبه الإشراف على الكيان المُقترَح، وفْقَ نسخةٍ جديدة تفرضها الحالُ الدوليّة والفلسطينيّة والإقليميّة. مصر بوّابة غزّة، ومَمرّها إلى الداخل العربيّ كان ويعود من القاهرة... هل في ما وَرَدَ تجاوُزٌ على احتمالٍ يُمكن أن يصير واقعاً عيانيّاً؟ هذا ما سيقوله الميدان، وما ستقوله القوى المُنخرطة فيه، قتالاً وسياسةً.
لكن... ماذا عن مصير الضفّة الغربيّة؟ تستطيع الضفّة الانتظار، إلى ما بعد تقرير مصير غزّة، وعلى السلطة الوطنيّة هناك، أن تضعَ في حسابها شروط إعادة إنتاجها الجديدة، هذا إذا ما أراد الصانع الأميركي إعادة تصنيعها! *كاتب من لبنان
* ينشر متزامنا مع نشرة أفق.