جدة: محمود تراوري

(جحا)، يكاد يكون أشهر شخصية متداولة في الخيال الشعبي العربي على امتداد قرون، شخصية مثلت رمزا للسخرية وللفكاهة الهازلة والحكمة العميقة المفحمة في آن، وشكلت قاسما مشتركا في جميع النكت الشعبية التي كان هو بطلها الأوحد، وفى مأثورات وحكم بليغة قيلت على لسانه.

فهل لهذه الشخصية أصول واقعية في التاريخ؟ في أي عصر نشأ وعاش؟

وجوه متعددة

الدكتور محمد رجب النجار الباحث المعروف بجهوده في ما يتعلق بالمأثور الشعبي، بدأ مرحلته الكبرى بهذا البحث الكبير الذي أجراه عن (جحا)، باحثا فى مكونات الوجدان الشعبي العربي ومدى تفاعلها مع مجريات الحياة في الواقع التاريخي أو التاريخ الواقعي للأمة العربية، وذلك من خلال بحثه في جذور شخصية قومية فولكلورية، وقدم بحثا علميا مستنيرا تبين له من خلاله أن لشخصية جحا وجوها متعددة في مصر تختلف عنها في البلاد العربية وتختلف عنها في البلاد التركية والفارسية، ومعظم البلدان التي خالطها العرب والمسلمون، حيث لكل بلد منها جحاها الخاص.

درس النجار كل هذه الوجوه فكأنه يستشف من كل وجه صورة قومه وكيفية تناولها للأمور ومدى وعيها الاجتماعي والسياسي.

الباحث بذل جهودا مضنية في قراءات متنوعة وغزيرة، وفى تجميع الطرف والملح المنسوجة حول شخصية جحا في كل بلد استضافه خيالها الشعبي، ونسج على لسانه المقولات والطرائف.

نسبه ووجوده التاريخي

في ضوء غلبة الرمز الفني على الواقع التاريخي للنموذج الجحوي في الأدب العربي، غاب عن بال الكثير أن جحا العربي شخصية حقيقية ذات واقع تاريخي، وأن نسبه ينتهى به إلى قبيلة فزارة العربية.. إذ ولد في العقد السادس من القرن الأول الهجري، وقضى الشطر الأكبر من حياته في الكوفة.. وبذلك تخبرنا كتب التراب العربي، وبخاصة كتب الأدب والأخبار والتراجم والسير، وقد أشارت إلى اسمه، وما يشتهر به من نوادر وحكايات، هو صاحبها. وعلى الرغم من اضطراب أخباره أحيانًا في تلك المصادر إلا أنها تجمع في النهاية على وجوده «التاريخي» بسمته وملامحه المعروفة. ومن تلك المصادر «ابن النديم» المتوفى سنة 385هـ 987م، صاحب (الفهرست) الذي انتهى من تأليفه سنة 377هـ يذكر كتاباً قائماً بذاته اسمه «كتاب نوادر جحا»، وقد وضعه في أول قائمة كتب النوادر ضمن «أسماء قوم من المغفلين، ألف في نوادرهم الكتب، ولا يعلم مؤلفها".

وإذا كان ابن النديم قد صنف نوادره ضمن نوادر الحمقى والمغفلين فالذي يعنينا - بحسب النجار - هنا أن نوادر جحا العربي قد باتت في القرن الرابع الهجري من الشهرة والذيوع، بحيث وجدت من يحفل بها.

خوجة التركي أو ملا الفارسي

محتوى الكتاب قسمه الدكتور النجار إلى ثلاثة أبواب، الباب الأول قدم (شخصية جحا بين الواقع التاريخي والرمز) عبر ثلاثة فصول عرضت (جحا العربي، جحا التركي، والفصل الثالث: جحا المصري).

الباب الثاني كان عن (فلسفة النموذج الجحوي) متضمنا فصولا عن (جحا والنقد السياسي، جحا والسلطان، جحا والقضاء، جحا والأمن، جحا والنقد الاجتماعي، جحا والأسرة الجحوية زوجته ابنه حماره).

فيما خصص النجار الباب الثالث لـ (الدراسة الفنية للنوادر الجحوية)، لافتا إلى انتقال النوادر وشيوعها وأن هذا العدد الكبير للنوادر الجحوية - وهو عدد لا يمكن حصره - يقودنا إلى قضية أخرى، وهي كيف تمت العلاقة بين النموذجين العربي والتركي، وكيف ساعد على نمو هذه العلاقة بينهما أن النادرة المرحة عموماً لا تلحق أو لا ترتبط بمجتمع إنساني محدد دون غيره والفكاهة - كالموسيقى - لغة عالمية ومن هنا امتزج الجحوان معًا، فكان التركي وقد أخذ نوادر سلفه جحا العربي، الذي أخذ بدوره نوادر جحا التركي، فكلاهما أخذ من الآخر بقدر ما أعطى له - ليكونا فى النهاية نموذجاً عاماً - هو الذي سادت نوادره وانتشرت في العالم العربي خاصة والإسلامي عامة (تركيا وإيران) وهو نفسه النموذج الذي صار يعرف فيما بيننا باسم ( جحا نصر الدين أو نصر الدين جحا)، مع لقب خوجة بالتركية أو ملا بالفارسية، ومعناها الشيخ أو المعلم، وعند بعض الخاصة يعرف باسم جحا الرومي عندما يذكرون جحا العربي أو يفرقون بينهما، وهو أمر مرتبط بالنوادر أساساً من حيث هي فن عالمي.

أقرب إلى طبيعة الأطفال المرحة

يخلص الدكتور النجار في خاتمة بحثه إلى نتائج منها (أن جحا العربي ليس هو صاحب كل النوادر التي كان بطلاً لها ونسبت إليه، حتى من قبل أن يظهر التركي أو يعرف في العالم العربي، والدليل على ذلك كتب التراث العربي التي تحفل بالنوادر قد وردت فيها النوادر الجحوية منسوبة إلى غير جحا، وإن كان قد استأثر بها هو فيما بعد، بقطع النظر عن كونه هو القائل الحقيقي، وبقطع النظر كذلك عن دلالتها ومضامينها، بدليل أن القدماء قد صنفوا جحا بين الحمقى والمغفلين وليس بين الأذكياء، فإنه بالرغم من ذلك قد نسبوا إليه كثيراً من نوادر التحامق والذكاء والتطفيل والمجون والبخل والطمع... إلخ. وهنا ينبغي ألا نبحث عن «جذورها التاريخية»، بقدر البحث عن قيمتها (وظيفتها الفولكلورية). كما تحمل في أغلب الأحيان - كما تجمع في الوقت نفسه - الكثير من العناصر الترفيهية والتعليمية والتربوية.

وإذا كانت حكايات: كليلة ودمنة «وحكايات» ألف ليلة وليلة في الشرق، وحكايات (إيسوب وخرافاته) في الغرب من أبرز ما تستوعبه مكتبة الطفل إلى يومنا هذا، ففى رأينا أن ثمة مكاناً لا يزال خالياً في المكتبة العربية - بخاصة - يستوعب نوادر جحا وحكاياته، التي نراها أثراً أدبيا، لا يقل بحال من الأحوال عن تلك الآثار الأدبية المذكورة التي أقبل عليها الأطفال في كل بلاد العالم، بل إن «المادة الجحوية» تمتاز عن نظائرها من الحكايات بأنها مادة حية، جاهزة - إن صح التعبير - يمكن صياغتها وتقديمها للطفل دون عناء، فهي أقرب إلى طبيعة الأطفال المرحة، خالية من عوامل الجمود. بعيدة عن العنصر الخرافي، ومن ثم فليس فيها من الرواسب الثقافية أو الخرافية.

النموذج الجحوى - بنوادره - يشكل أيضا شخصية محورية شعبية، يمكن للمعنيين بالرسوم المتحركة والأفلام الكرتونية في بلادنا الاستفادة منها في مئات من القصص، يلعب بطولتها جحا - بشكله التقليدي - وأسلوبه المميز فى التعبير، وكذلك الأمر في صناعة الألعاب الشعبية والدمى المتحركة.

يذكر أن تأثير النموذج الجحوي قد انتقل إلى السينما العالمية وبخاصة في فرنسا التي أنتجت فيلما اجتماعياً موضوعه النموذج الجحوي، ويوضح النجار بقوله: أتيح لي عام 1964 أن أشاهد بعض الأفلام السينمائية القصيرة في السفارة الأمريكية بالقاهرة، كان بطلها وموضوعها النموذج الجحوي بمأثوره الشعبي وإن كان الغرض السياسي منها لا يخفى على المشاهد.

الدكتور محمد رجب النجار

(1941 - 2005)

دكتوراه في الأدب الشعبي العربي

صدر له:

أبو زيد الهلالي.. دراسة نقدية فى الإبداع الشعبي العربي.

حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي

بردة البوصيرى.. قراءة فولكلورية.

النشر العربي القديم من الشفاهية إلى الكتابية.

من فنون الأدب الشعبي في التراث العربي

سيرة على الزيبق (تحقيق)

الشعر الشعبي الساخر في عصر المماليك.