عبدالله بن خميس

البادية خلاف الحاضرة، وجمعها (بوادي)، و تسمى بداوة بالكسر، والنسبة إليها: بداوي، بالفتح والكسر، وبدوي أيضا. وهي من بدا إذا نشأ، أو إذا ظهر وبرز. وهو الأرجح، لبروز البادية في الفيافي والقفار.

والبادية هم سكان الوبر، الذين يتتبعون مساقط الغيث، ويطلبون الكلأ والمرعى لماشيتهم، ولا يستقر بهم القرار في مكان معين، إلا في فصل الصيف، حيث يقطنون المناهل، ويدنون من المياه. والبادية هي أصل العرب، وسكان جزيرتهم الأولون وسفر لغتهم المعتمد، منها تكونت الحواضر، وإليها ترجع الأرومات الأصيلة، ومنها تفرعت الشعوب والقبائل.

وهي في الجاهلية رمز العرب، ووجههم الأمثل وفى الإسلام - كما قال عمر - أصل العرب وسادة الإسلام، صريح اللغة وفصيحها مصدره البادية، وعادات العرب الكريمة وتقاليدهم الأصيلة، ومميزاتهم الأثيرة مصدرها البادية، والشعراء المقاويل، والخطباء المصانع، والمتكلمون اللسن أعلامهم، ومبرزوهم، من البادية - لم تفسد الحضارة سحنهم، ولم تلن ألسنتهم ولم تغمز لهم صمدة، ولم تقل لهم حد.. يتكلمون بالسليقة والفطرة، فتفتر شفاههم من قولٍ فصل، وكلامٍ جزل، وبياٍن سليم مستقيم يصدر من طبع أبي، وخاطر ذكي، ولسان ذرب طلق.

هذه الصفات دفعت بالأمراء، والرؤساء والخلفاء، وعلية القوم، وذواتهم أن يبعثوا بأبنائهم إلى البادية المدرسة الأولى لتربية أصيلة، تعطي الشاب إلى جانب الرشاقة، وبناء الجسم بناء رياضيا متينا، وتكوينا متكاملا فارها. تعطيه قوة الشخصية واستحصاد الرأي، ونفاذ الإرادة، ومصادر الشجاعة والدربة، وسلامة المنطق، وقوة العارضة.

قال بعض الأعراب: نحن أمراء الكلام، فينا وشجت عروقه، وعلينا تدلت فصوله، فنحن نجني منها ما احلولى وعذب، ونترك ما املولح وخبث.

وقال الجاحظ: ليس فى الأرض كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، في الأسماع، ولا أقود للطباع، ولا أنتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان من كلام الأعراب الفصحاء العقلاء.

ووصفهم الحارث بن كلدة أمام كسرى فقال: لهم أنفس سخية، وقلوب جرية، وعقول صحيحة، وأنساب صريحة يمرق الكلام من أفواههم مروق السهم من الرمية، أعذب من الماء، وأرق من الهواء، يطعمون الطعام، ويضربون الهام، وعزهم لا يرام، وجارهم لا يضام. ووصف أحدهم امرأة فقال: كاد الغزال يكونها، لولا ما نقص منه وتم منها.

وأوجز أحدهم قصيدة كاملة في جملة مقتضبة فقال: سبقنا الحي، وفيهم أدوية السقام، فقران بالحدق السلام، وخرست الألسن من الكلام.

في هذه البيئة المتأبية، واللغة الصريحة - تربي سيد العرب عليه السلام، وتربى أعلام الخلافة: وكبراء القادة، ونبلاء المجتمع الإسلامي. ولم يكن الوليد بن عبد الملك بن مروان، من ثقفته البادية، وأصلحت لسانه، فكان لحنة، وظل لحنه وصمة عار في تاريخه. قال أبوه: أضر بالوليد حبنا له حيث لم نبعثه إلى البادية.

خطب الناس يوم عيد فقرأ في خطبته يا ليتها كانت القاضية بضم تاء ليت. فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا الله منك.

ومن البادية أخذ علماء اللغة فصيحها ومتوقحها، وتعلموا في اختيار الأفصح، والأبعد من الحواضر ومجاورة الأعاجم.. فعنوا عناية فائقة بما دونوه، فأخلصوا لغة العرب في صميمها الذين لم ترتضخ لغتهم عجمة، ولم يخدشها شذوذ ولم يداخلها تقصير - دونوا لغة قريش، وقيس، وتميم: وأسد، وهذيل، وبعض كنانة، وبعض طيء.

وتحاشوا الأخذ من لغة لخم، وجذام وقضاعة وغسان وإياد، لمجاورتهم أهل الشام. وكذلك تحاشوا لغة تغلب، ويمن الجزيرة، وبكر، وعبد القيس، وأزد عمان وأهل اليمن، وبني حنيفة، وثقيف.. لمجاورة بعضهم للفرس، ولمجاورة الآخرين للأحباش، ولأن بعضهم أهل تجارة، ونقلة، واختلاط بمشبوهي اللغة.

فأخلصوها من تلتلة بهراء، ومن طمطمانية حمير، ومن كشكشة ربيعة: ومن ككة هوازن، وفخفخة هذيل، ووكم ربيعة، ووهم كلب، وعجعجة قضاعة، وشنشنة اليمن ووتمها، وعجرفة ضبة.

وممن أخذ من البادية، ولقيهم في مرابعهـم ومراتعهم، وسمع منهم يونس بن حبيب الضبي، وخلف الأحمر، والخليل بن أحمد، وأبو زيد الأنصاري، والأصمعي، وأبو عبيدة، والكسائي وهؤلاء هم من أول من رحل إلى البادية وأخذ منها، وهم من علماء القرن الثاني.

وكان العلماء في القرن الأول يعتمدون الفطرة، ويرجعون إلى السليقة، ويستأنسون بمن يلقونه من الأعراب، ولما أوغل العلماء في التحقيق، وتأنقوا في الأحصاء والاستقصاء، وبعدت الحواضر الإسلامية من البادية، وداخل لغة البادية المجاورين للحواضر ما داخلها - بدأ عصر الرحلات ولقيا الأعراب.

وكانوا إذا لقوا الأعرابي وشكوا في سلامة لغته، امتحنوه وربما وضعوا له قياسا غير صحيح، أو جمعا غير وارد أو لفظا غیر فصیح، فإن نطق به أو أثره، طرحوا لغته، وأن أبت سليقته ذلك أخذوا عنه.

قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو يقول: ارتبت بفصاحة أعرابي، فأردت امتحانه، فقلت بيتا،

وألقيته عليه وهو:

كم رأينا من مسحب مسلحب

صار لحم النسور والعقبان

فأفكر فيه، ثم قال رد علي ذكر المسحوب، حتى قالها مرات، فعلمت أن فصاحته بالية.

وقال ابن جني: سألت مرة الشجري - وهو أعرابي من عقيل، كانوا يرجعون إليه في اللغة - ومعه ابن عم له، كان دونه في الفصاحة، وكان اسمه غصنا - فقلت لهما: كيف تقرآن حمراء؟ فقالا: حميراء، وواليت من ذلك أحرفا وهما يجيبان بالصواب، ثم قسمت في ذلك علباء، فقال غصن: عليباء وتبعه الشجري فلما هم بفتح الباء، تراجع كالمذعور، ثم قال آه عليبي.

وكانوا اذا لقوا الاعرابي وشكوا في سلامة لغته، امتحنوه وربما وضعوا له قياسا غير صحيح، او جمعا غير وارد أو لفظا غیر فصیح.

1971*

* شاعر وصحافي ومؤرخ سعودي «1919 - 2011»