أنس الرشيد

كانَ الشاعرُ العربيُّ يُكرِمُ مَحبوبتَه بالكلامِ، كمَا يُكرِم ضَيفَه بالطعام. ومن كَرمِ الكلام: (الالتفات). والالتفاتُ تَحَوّلُ الوجهِ عن وضعِه الطبيعي إلى وضعٍ آخر، لكنَّه -في سياقٍ مفاهيميٍّ- تَحَوّلٌ مِن شَيءٍ إلى شيءٍ بوعيٍّ إبداعِيٍّ.

فيمكن تصوّر: سلوك السعوديين -وهم يخلعونَ ثيابَ التديّن الجنائزي- على أنَّه محاولة للالتفاتِ بتغييرِ القِيَمِ، والأفكار، والأوضاع المعيشيَّة، وطرائق العمل. لكنَّ الفرقَ المفاهيميَّ حينَ يكونُ الالتفاتُ إبداعيًا، لا يعتمد أصلًا وفَرعًا، أو طبيعةً واستثناءً، وليسَ ردةَ فعلٍ تُعيدُ الأسلوبَ القديمَ بشكلٍ جديدٍ؛ لهذا فالكاتبُ حين يُحَوِّل أسلوبَه أثناءَ الكتابةِ، فإنَّه يلتفت. لكنَّ المهمَّ تحديد مَكمن الإبداعِ في هذا التحول؛ إذ مجرد تغيير الأسلوبِ قد يأخذ نَمَطًا آليًا كما في أغلب تعبيرِ (القاعديين) ويمكنني إرجاع هذا الوصف إلى شيئين؛ الأول: أهل القاعدةِ البلاغيةِ والنحوية، ومن ثم فالالتفاتُ -حينها- مُجردُ إعادة تدوير للأشكال. والثاني: مفكرو (القاعدةِ) في الحياة الإسلامية، حيث التفاتاتهم في حواراتهم عودة للأساليب القديمةِ، بأشكال حديثة.

ولعلّ ما يَسبَغ على الالتفاتِ صورة ناصعة الجِدّة، هو جعل كلِّ التفاتٍ لحظةَ دهشةٍ أسلوبيةٍ فريدةٍ، بَعيدًا عن ثُقلِ الرُكام. ويمكن أن ألفتَ الانتباهَ -هنا- لقولِ قومِ موسى: «أجئتنا لتلفتنا عَمّا وجدنا عليه آباءنا». فكأنَّ الالتفاتَ يستلزم كسرَ الأبويّة، لهذا كانَ الالتفاتُ في الصلاة -ضمن أدبيات التراث- اختلاسًا يُختلَس، فيأتي سؤالُ معنى الصلاةِ التي تَمنَع الالتفاتَ عن المعبود. وهذا يلتقي في معنى التفاني في اللغة، وكيف يُجعَل الالتفاتُ منها وإليها، ثمَّ لها.

ومما يُلفِتُ حين نرى حِسّيةَ طبخِ الطعامِ، تُقابل المتخيلَ العقليَّ لطبخِ الكلام؛ لهذا قالَ محمود درويش: «الطهو شِعْر الحَواسّ إذا اجتمعت في يد...، قصيدةٌ تؤكلُ ولا تتحمَّل خللًا في التوازنِ بين العناصر».

حِسّيةُ الطبخِ بوصفِه قصيدةً، تستلزم -في جذورها- التقيّدَ بالوزنِ والقافية التي يحتكم إليها الناسُ، إذ أمامنا في الطبخ: أولًا: فعل الطاهي، وثانيًا: المكونات الحسّية وجودتها (نوع ودرجة)، ومقاييسها (كم)، واحترافية المزج بينها ( كَيْف). ولحظات الإعداد (زمن). وهذا ما يُورِطُ الإبداعَ في الطبخِ، إذ لو حاولَ طاهٍ أن يَصنعَ أكلةً حُرةً، لا ضابطَ لها إلا ما ستنتجه من أذواقٍ لاحقة، فما نتيجة ذلك إلا وبال حاضِر. فالطبخ آنيٌّ، ويبحثُ عن لذةِ الحاضرِ التي تستجيب للوعيِ اللحظي الجارف، لهذا جاءَ مَن يَضع (النَفَس) مكونًا إضافيًا للذةِ الطبخِ، وهذا يُقابل وضعَ النفسِ مقابلَ الجسد، أو الفرق بين فعلِ الجنسِ بِحبٍّ، وفعلِه بلا حُبّ، مِمَّا جاءَ مِن تَفريعَاتٍ ميتافيزيقيّة.

وهذه المقالةُ تأتي بالالتفاتِ؛ ليلتفّ على هذا المأزق وسيكون السؤالُ: كيف للطاهي أن يُبدعَ مَزجًا لمكوناتٍ يلتفتُ بها إلى لذةٍ مُدهِشَة، تجعل المتذوقَ يَدورُ في فلكِ اللذةِ الحاضرة، لكنَّه يعيش متعةً فريدةً جديدةً مستقبلية؟ وهذا السؤال هو ما أطرحه على كُلِ تجربةِ طبخٍ..، وهو ما أعُدّه تعويليَّ الذاتي على إبداعِ الطهاة، لا قدراتهم، فالقدرات مرتبطةٌ بالفعلِ الحسّيّ المتقن، ومقابلها الذوقي الجماعي، أما إبداعهم فهو ما يتجاوز الحاضرَ بوعيٍ شَفّافٍ، إلى إبداعٍ ذاتيٍّ لا يَشذُّ عَن الذوقِ الجامعِ، إلا بقدرِ ما يُدهِشه ليُغيّر مَساره. فقد أصِفُ أحدَهم بأنَّه لا يُجيد الطبخَ، وقد أصفه بأنَّه طاهٍ جَيدٌ، لكن ليس لديه التفات مُدهِش.

ومما يُلتَفتُ إليه ارتباطُ الطعامِ بالإكرامِ؛ إما إكرامُ الضيفِ الغريب، أو إكرامُ النفس والضيف القريب؛ وهذا ما يجعل الطهاةَ مَعنيّين بردةِ فعلِ متذوقِ الطعام، وكأنَّهم يُوغلون في تقديسِ اللحظةِ الحاضرةِ من جهةٍ، وربطِ قدراتهم وتطورها بذلك المتذوقِ من جهةٍ أُخرى. لكن هل فَكَّر أحدُ الطهاةِ بأنَّ الالتفاتَ إكرامٌ للذاتِ وللآخر؟ يمكن هنا أن نستشهد أيضًا ببني إسرائيل حينَ قالوا: «لن نَصبرَ على طَعامٍ واحد». وهذا طلبُ التفاتٍ؛ إذ الالتفاتُ في بعضِ تفرعاته - كما قال ابنُ عاشور «فيه تجديدُ أسلوبِ التعبيرِ عن المعنى بعينه تحاشيًا من تكرر الأسلوبِ الواحد». والطاهي الملتَفِتُ يَفعَلُ كما يفعل الطهاة، لكنه حين يُذيقنا طعامَه، يُشركنا باللحظةِ الالتفاتية التي فَكّر بها، وجعلنا في نشوةٍ جديدة. فهل يمكن أن يُفكَّر بتحولات الطبخِ وذوقه من خلال هذه النظرية الالتفاتيَّة؟.

يحضرني الآن الشيخُ البلاغيُّ أبو يوسف السَكّاكي؛ لأنّي أعدُّه سَكَّ معايير الطبخِ، وقيّدها بمفتاحِه، إذ لم يجد أفضلَ من مثالِ الطَبخِ، ليُشبِّه به حالَ إبداعيةِ الالتفات الأدبي. وحكاية السَّكاكي كما تراها المقالةُ كالتالي:

لما رأى السكّاكيُّ أنَّ ذبحَ الأنعامِ، ثم تغيير طعمها بالتفنّن بِطَهيهِا، مطيةُ العربِ للذةٍ يرسمونها على وجوهِ الأضياف، فإنَّه جعلَ الالتفاتَ الأدبي يرسم لذةً على وجوهِ المتلقين بتغييرِ طعمِ الأساليب.

والسَكّاكيُّ سينقلنا إلى بنيةٍ مُهِمَةٍ في هذه اللذةِ المُشتَركة، وهي (الملح). والملح في الطعام حِسيٌّ يُقابل الجسدَ، أما ملحُ الكلام فقد وُضِعَ في مُقابل الروحِ، أو النفس. وسنتذكَّر -مرةً أخرى- أصحابَ (النَفَس) في الطعام، حين اقتحموا مَجالًا آخرَ؛ ليُوثِّقُوا بصمةَ الإبداعِ الغامضة.

هنا: هل نستطيع أن نُفَسِّر: لِمَ كانَ مسرحيّو اليابان القُدماء يَرشُّون (الملحَ) على الخشبةِ، قبلَ العرض؟ لما بحثتُ عن سببٍ، وجدتُهم يقولون: «لحمايةِ الممثلين من الأرواحِ الشِريرة». والسؤال: هل الأرواحُ الشريرةُ هي التي تَحُثُّ الممثلَ على الالتفات؟. إنَّ الإجابةَ بنعم، تُذكِرنا بأنَّ المَسرحَ -في أصلِه القديم-طَقسٌ دينيٌّ أصيلٌ، يَخشَى الالتفاتَ عن المعبود. لكنَّنا سنتذكَّر أيضًا أنَّ المِلحَ هو الحامي، أي أنَّنَا أمامَ تَصوّرٍ للمِلحِ يَجمَع بَينَ الحِسيِّ والمعنوي. حسيَّتُه واضِحَةٌ، أمَّا معنويتُه فتَمثَّلت فِي قُدرتِه على جَعلِ المُمَثِّل مُتَمَاهيًا مع أرواحٍ محددةٍ جاءَ بها الملحُ. وكأنَّ الممثلَ يَطهُو بالملحِ مَا تُريده أرواحُ الخَشَبةِ والخشّابين، ومِن ثَمَّ هو غافلٌ عن أرواحٍ غيرها. وهذا مَعنىً مِن مَعاني رفضِ الالتفاتِ؛ إذ جُعِلَ الإبداعُ المَسرحِيُّ متَمَاهيًا مع الطبخِ الحِسّي. ويُمكِنُ قِياسُ هذا الرفض على واقعِ كثيرٍ من الحركاتِ الواقعيّة التي حَجّمَت مِن الإبداعِ الأدبي، بتذويبِه فِي كُوبِ مِلح.