أحيانا نخطئ في حق إخواننا وأبنائنا دون قصد من خلال خوفنا المبالغ فيه عليهم.. نراقبهم على نحو صارم ونتدخل في تفاصيلهم فنكبح جماح أحلامهم ونئد شخصياتهم المستقلة

في عام 2001 أصبحت أبا فجأة. قرر والداي أن يرسلا أخي الصغير ليدرس معي في نفس الجامعة في أميركا. كانت البداية ممضة، لم يتأقلم شقيقي. لم تعجبه طريقة العيش الجديدة ومعهد اللغة، الذي التحق به. كان لا يرغب في الاستمرار في أميركا. واجهت أزمة نفسية كبيرة في التعامل معه، حاولت ترغيبه بالدراسة بشتى الوسائل، لكن لم أنجح. كل مبادراتي كانت كالمسكنات ينتهي مفعولها سريعا ويعود الصداع من جديد. كان يذهب إلى معهد اللغة عنوة.. يأكل بإلحاح. ينفق يومه في الشكاية والنحيب. كان هدفي الرئيس ألا يعود شقيقي إلى والديّ خائبا وأسقط في أول امتحان حقيقي أمامهما. كنت أساعده في حل الواجبات وأخلق له الأعذار مع معلميه وأقضي يومي في سجال طويل معه. كنت ألقي عليه محاضرات طويلة، عشنا معا أياما عصيبة. لم تتطور لغته الإنجليزية أو تتحسن، بل ربما تتراجع. فأنا من أقوم بكل الأعمال نيابة عنه ابتداء بالطلب من المطعم وليس انتهاء بغسيل ملابسه حتى لا يواجه صعوبات جديدة تزيد من رغبته الملحة في العودة. استمررنا على هذا الحال لمدة عام تقريبا حتى تخرجت. حاولتُ أن أبحث لي عن قبول للماجستير في نفس المدينة لكي أظل بالقرب منه لكن لم أستطع، فالمدينة الصغيرة التي أدرس بها لا يوجد فيها سوى جامعة واحدة لا تقدم برنامجا للماجستير في تخصصي. اضطررتُ مكرها أن أغادر إلى مدينة أخرى. كنت على يقين أن مغادرتي ستزيد الطين بلة وأن عودته إلى الوطن بإخفاق مسألة وقت لا أكثر. لكن شقيقي خالف كل توقعاتي.
بعد نحو 7 أشهر من فراقنا وبعد إحدى زياراتي له لاحظت مدى تطور لغته الإنجليزية واعتماده على نفسه خارج الجامعة وداخلها، لو لم أسمعه وهو يتحدث أمامي باللغة الإنجليزية لربما قلت إن هذا الشخص ليس شقيقي، الذي عشت معه. أحسست بسعادة عارمة تقفز من صدره، شعرت أن الفترة التي أمضيتها بعيدا عنه جعلت جلده أكثر سماكة، ومنحته القدرة على إدارة حياته دون وصاية. يخطئ ويتعلم دون تأنيب وتقريع، دون خوف ووجل. فاجأني تفوقه في دراسته بعد غيابي عنه، ولو لم أطالع كشف درجاته لكذبته، سحرني بهوايته في التصميم ومشاركاته الفاعلة في أنشطة الجامعة، التي لا أعتقد أنه سيتمتع بها ومعها لو كنت ما زلت بجواره بذريعة خوفي على مستقبله ودراسته.
أحيانا نخطئ في حق إخواننا وأبنائنا دون قصد من خلال خوفنا المبالغ فيه عليهم. نراقبهم على نحو صارم ونتدخل في تفاصيلهم فنكبح جماح أحلامهم ونئد شخصياتهم المستقلة. نفرض عليهم أسلوبنا فلا إراديا نستنسخ تجربتنا. يصبحون نسخا غير أصيلة، نسخ رديئة لا تثير نقعا ولا صليلا. لا تثير ولا تؤثر. قد ينجح الطبيب في أن يجعل ابنه طبيبا، لكنه لن ينجح في أن يجعله مبدعا. الإبداع شغف، والشغف لا يأتي بالدراسة والوصاية، وإنما بالحب والعشق والهيام.
وما أحوج مجتمعاتنا العربية النامية إلى هذا الشغف ليقودها ويحركها..
تجربتي مع شقيقي كانت درسا مبكرا لي في أن أمنح أحبتي وأبنائي مستقبلا، إن شاء الله، مساحات كافية يملؤونها بما يشتهون بدلا من أن أملأها نيابة عنهم. جميل أن نشجع ونهتم بمن نحب لكن الأجمل أن نمنحهم حرية الاختيار ليمنحونا السعادة والمتعة والزهو.
عظيم أن نساعد إخوتنا وأبناءنا، لكن سيكون أعظم لو جعلناهم يقومون ويبادرون بأنفسهم. سيتألمون مبكرا لكن سيتعلمون وينجحون ويبتكرون ولا يرتكبون الاتكالية.
أحمد الله أن جامعتي السابقة لم يكن لديها التخصص الذي ابتغيه وإلا ربما لأجهزت على مستقبل شقيقي من خلال بقائي معه في نفس المدينة واستمرار سطوتي الأبوية وتضييق الخناق عليه من حيث لا أعلم. يقول الإيطاليون: النية الطيبة وراء الكثير من الممارسات الخاطئة.
لدي صديق اختار والده تخصصه الدراسي ولاحقا اختار له المواد التي يسجلها في كل فصل دراسي. اليوم تخرج من الجامعة ويعمل في شركة كبيرة لكنه غير مستمتع في عمله، بل ينفق جل وقته في الرسم الرقمي سواء في عمله أو خارجه. وللأسف لم ينجح صديقي حتى اللحظة في الاثنين، فهو لا يستسيغ وظيفته وبالتالي لم يقدم لها ما يشفع له بالصعود والنمو، كما أنه لا يملك الوقت الكافي للرسم وتسويق ما يعشقه. يعيش حياتين: حياة صنعها والده له، وحياة أخرى خفية صنعها بنفسه لا يدري عنها إلا القلة القليلة. لكنه تعيس، نادم على السنوات الماضية والسنوات اللاحقة. لا يملك الشجاعة لترك عمله إرضاء لوالده. فعلاقته بوالده قد تتأثر وتنهار إثر ذلك. يقوم بمتابعة حياته على نحو باهت لمجرد إكمالها بلا إثارة وترقب وشغف كالفريق الذي يلعب مباراة تحديد المركزين الثالث والرابع، سيلعبها وهو يدرك أن أغلى ما يمكن أن يحصل عليه هو المركز الثالث، الذي لا يقيم الأود ولا يسد الرمق.
إن ما يحدث في منازلنا من ممارسة وصاية على أبنائنا يحدث مثله تماما في مدارسنا فلا يوجد للطالب مجال للحركة والمبادرة. عليه أن يحفظ ويسمع ويصغي وينفذ لا أن يفكر ويبهر.
هذه الممارسات الأبوية صنعت مجتمعات مشوهة تظهر خلاف ما تبطن فلا تحقق شيئا سوى صناعة المزيد من الإحباط والأبناء التعيسين.