عواجي النعمي

الجهل المعرفي هو إظهار أنك تعرف كل شيء وأنت لا تعرف شيئًا. يقول برنارد شو (انتبه من ادعاء المعرفة لأنها قد تكون أشد خطرًا من الجهل). كما أن ادعاء المعرفة وأننا لسنا بحاجة إلى التعلم يوقف عملية البحث والاجتهاد والمعرفة. طلب رجل من الموسيقار عبد الوهاب أن يساعده بوظيفة فسأله الموسيقار عن طبيعة العمل الذي يجيده فأجابه (أي حاجة حتى لو امسك العصاية قدام الفرقة الموسيقية).

في عصرنا الحديث عصر العولمة والتكنولوجيا وسهولة الحصول على المعلومة انتشرت ظاهرة المعرفة السطحية مع انحسار كبير للعلم الحقيقي بحثًا وتحقيقًا. وكثير من أبناء هذا الجيل أصبحوا يظنون أنهم يعرفون كل شيء بينما هم في الحقيقة لا يعلمون الكثير.

إن (التخمة أو السمنة المعرفية) هو توهم العلم والمعرفة دون تبصر بالمنهجيات العلمية أو الطرق البحثية. وفي وسائل التواصل التي أصبحت تعج بالكثير من أدعياء المعرفة في كل علم من طب وهندسة وتاريخ وفقه. فتجدهم يفتون بما لا يعلمون ويقولون ما لا يفقهون ويكتفون بأطراف المعرفة ولا يكلفون أنفسهم مشقة التأكد والتحقق من المعلومات التي يطلقونها. كثير منهم قرأ معلومة طبية أو فقهية من الإنترنت أو قام بعمل بحث علمي من أجل التخرج فيعتقد أن هذا كافيًا ليكون في مصاف العلماء. وفي مقابل هذا المد الجارف من الزبد الفارغ تراجع الإقبال على المعرفة الحقيقية والأصول العلمية.

في إعداد الدراسات والبحوث أصبح الكثير يعد ذلك البحث بالمتوفر من معلومات على الإنترنت دون بحث في المراجع أو تتبع للمصادر أو تدقيق للمعلومات، فأصبح البحث يولد بين ليلة وضحاها. وعلماء الجهل هؤلاء يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء ويميلون إلى الطعن في أقوال العلماء الثقات ويشككون في حقائق الأمور لأنهم لا يستطيعون التفكير أو البحث على أسس علمية. وهؤلاء المصابون بداء معرفة الجهل ينهجون منهج العلماء وينتسبون إلى أهل الثقافة والمعرفة فينشرون غوغائية الفكر وجهل المعلومة ويكثرون من الجدل والمهاترات وينتقصون من أصحاب العلم الثقات ويحاربون من يخالفهم ويصفونه بأبشع الألفاظ من أجل تقليل قيمتهم وحث الناس على النفور منهم. وفي حالة ظهور من يجابههم أو يشكك في معلوماتهم فإنهم يحملون ذلك على محمل شخصي فيبدؤون في نشر الشائعات وتوجيه سهام الكذب والافتراءات لكل مخالف باحث عن الحقيقة. وبسبب ضعف قدراتهم وانحسار أفقهم فهم يميلون إلى الفتوى في مسائل الخلاف معتمدين على الظاهر من العلم دون الخوض في التفصيل والتدقيق، وهم لا يؤمنون بالخلاف والاختلاف ولا يرون أن ذلك الاختلاف قد يكون نعمة ورحمة وأن قبول التنوع هو أبرز معالم العلم. إن التعصب للأفكار المغلوطة والآراء غير الموثوقة قد يوجد خللا في المجتمع فيهدد قيمه ويقوض مبادئه. وأخيرًا إن التبحر في العلم لا يكون إلا من خلال كمال الخلق وكمال المعرفة وقبول الاختلاف ونبذ التعصب والبحث عن الحقيقة.