جدة: محمود تراوري

شاعت في تراث الثقافة العربية كتب ومؤلفات من ذاك الجهد المحمود والمقدر، الذي ينهض على انتقاء وجمع مقولات «الحكمة والعظة»، أو النوادر والطرائف وأخبار وحكايات الأهالي الاجتماعية، وبعضها يرتقي لما يعد من اهتمامات الصفوة كـ«العقد الفريد لابن عبدربه» الذي سار على خطاه -مجازا- ( نعيم بن محمد الفارسي) وهو يضع كتابه وبما يوافق روح العصر «تباريح القراءة» الصادر عن دار الرافدين، وأيضا بما يحيل إلى تجربة الأرجنتيني ( البرتو مانغويل) في تقصيه الكتب وأثر المكتبة عبر مؤلفاته التي ذاعت عالميا خلال العقدين الماضيين.

تباريح الحياة

يرجع الفارسي سبب جمعه مادة الكتاب إلى أسئلة كثيرة متعلقة بالقراءة والكتابة طرقت باب عقله -حسب تعبيره- وكان يتجاهلها في بادئ الأمر، ويتابع: (وبعد مدة، ولكي أُوقف إلحاح هذه الأسئلة، عزمتُ -وتوكلت على الله- على البحث والكتابة فيها، وقد يسر الله بمنه وكرمه، فكانت هذه المقالات التي كتبتها ووضعتها في هذا الكتاب الذي بين يديك الآن، والذي اخترتُ له عنوان: (تباريح القراءة).

والتباريح تعني الشدائد، فيقال: عانى تباريح الحياة؛ أي عانى مشقة المعيشة، ويُقال عَانى تباريح الشوق؛ أي عانى توهج الشوق ولوعته وتكاليفه، وبما أني عانيت من تباريح أي شدة كتابة هذه المقالات، حيثُ أرقتني وأسهرتني وأخذت مني جهدا كبيرا، قراءةً وبحثا وكتابة ومراجعة مع انشغال دائم لعقلي طوال فترة كتابتها.

القراءة بخطى حلزون

يجمع الكتاب تطوافا لعدد كبير من الكتاب والأدباء من الشرق والغرب، عربا وغير عرب، من مختلف التيارات والاتجاهات، طارحا آراءهم عن القراءة وعلاقتها بالإنسان، وتأثيرها فيه، ومحددات الكتابة وبواعثها، وكل ما يتعلق بها من تقنيات ومحطات وارتحالات وأشواق، ما يرشح الكتاب بامتياز ليكون بمثابة مرشد لطيف للمولعين بالقراءة، وشداة الكتابة من الناشئة والمهووسين بالكتابة من المبتدئين.

فنجده يورد رأي الكاتب الأمريكي (هنري ميلر): إنَّ أغلبنا يقرأ بطريقة تجعله يكبت انفعالاته ولا ينفعل مع القراءة. ويقصد (ميلر) بكلامه هذا السرعة في القراءة دون التوقف والسماح للأفكار التي تطرق باب عقولنا ـ ونحن مثلًا نقرأ عبارة أو فقرة معينة ـ أن توقفنا عن القراءة لنتأمل فيها، بل ما يفعله أغلبنا ـ كما يقول (ميلر) ـ هو تجاهل هذه الأفكار والانفعالات وإكمال القراءة، نقول لأنفسنا إننا سنعود لهذه الأفكار لاحقًا عند الانتهاء من قراءة الكتاب.

وبالتأكيد ـ كما قال (ميلر) - أنَّنا لا نعود لهذه الأفكار، وكان الأفضل والأكثر إفادة وحكمة وثراء لنا هو السماح لهذه الأفكار بمقاطعتنا ونحن نقرأ، وعدم كبتها، فبذا نحصد الفائدة المرجوة من القراءة. لكن مشكلتنا بالفعل - كما ذكر (ميلر) - هي القراءة بسرعة لإنهاء صفحات الكتاب! وعقب (ميلر) بأنه ليس هناك أي مشكلة لو استغرقت قراءة الكتاب لديك عامًا كاملًا، ولو كنت تقرأ بخطى حلزون.

تشتت القراءة

يتطرق الفارسي لمشكلة يعاني منها بعض القُرَّاء، تحرمهم من جَنْيِ الفائدة التامة من قراءاتهم، وهي تشتيت أنفسهم في القراءة، فيوضح (أعني بذلك أنهم يقرءون كل يوم في مجال معين، ولا مشكلة للمبتدئ في القراءة أن يفعل ذلك، حتى يعتاد القراءة ويعرف أي المجالات التي تميل نفسه إليها. لكني أعني هنا من قطع شوطًا لا بأس به في القراءة، فهو يقرأ منذ سنوات ليست بالقليلة، ومع ذلك تراهُ مُشتتا نفسه بالقراءة في عشرات المجالات، فيقرأ يوما في الفلسفة، ويوما آخر في الأديان، وثالثًا في التاريخ، فهو ليس لديه مجال مُعيَّن يُعطيه جُلَّ قراءاته؛ ليفهمه بعمق، ومن ثم يُضيف هو أيضًا الجديد في هذا المجال.

القراءة المبعثرة دون وجود خطة أو إطار عام لا تؤتي نفعها المرجو منها، ولو كان صاحبها يقرأ الساعات الطوال في اليوم، بل تجعل صاحبها مشتتا ليس لديه إلا معلومات متنوعة من كل فنّ قرأه. وعلى القارئ أن يتجه للطريقة الصحيحة في القراءة، التي تُغيّر من صاحبها؛ بالتركيز على القراءة في مجال معين بحيث تكون قراءاته في هذا المجال بما لا يقل عن 50 % من مجموع قراءاته كلها، فالدخول في العمق في أي مجال، هو الذي يجعلنا نلم بأطراف الموضوع من جميع جوانبه، ونقف على ما تجدّد من موضوعاته وما تفرّق من مسائله فأحدهم لديه مكتبة بها قرابة الأربعة آلاف كتاب كما قال لي هو بنفسه، ويقرأ منذ سنوات طويلة جدًّا، ولكن إلى اليوم لم ألحظ عليه أي تغيير، ولم يُنتج شيئًا، هذه القراءة الطويلة، والسبب أنه مشتت نفسه، يقرأ كلَّ يوم في مجال معين، ولم يُخصص له مجالًا يعشقه ويقرأ فيه بنهم.

نعيم بن محمد بن ماجد الفارسي

*مواليد عام 1982 بولاية شناص - سلطنة عُمان.

* بكالوريوس (إدارة) 2005م، من جامعة السلطان قابوس.

*ماجستير إدارة الأعمال 2021م من جامعة (بیدفوردشير) في (بريطانيا).

صدر له:

القراءة صنعة العظماء

لو كنا نقرأ

عزاءات القراءة

شجون القُراء