هناك عدة سمات تتميز بها الثقافة الفكرية العربية المعاصرة، وأول مميزاتها كونها ثقافة تساؤلية، محملة بالرؤى المستقبلية، أي هي ثقافة أمة تسأل نفسها عن مصيرها اليوم، وعن علاقاتها بالعالم الخارجي وماضيها على السواء، وليست ثقافة إبداعية بالعالم بالمعنى الذي تحمل فيه نظريات عامة حول الإنسان والتاريخ والمجتمع عامة. لذا بدت التيارات التي تخترقها تيارات سياسية ومذهبية أكثر منها مدارس فكرية، فمن مفكر له اتجاه قومي إلى آخر قطري، ومن الإسلامي إلى العلماني، ومن التحديثي والمتغرب إلى التراثي.. إلى آخر ذلك، وهذا الفاصل ندركه تقريبا في أي اختصاص معين لدى المؤرخ والفيلسوف وعالم الاجتماع والاقتصادي، والمفكر السياسي طبعا.
إلى حد بعيد يبقى الفكر العربي أسير النزعة الإصلاحية بالمعنى العام، وما زالت الثقافة العربية تخاصم نفسها والدنيا حول إشكاليتها الأساسية: لماذا تقدم غيرنا ولم نتقدم نحن؟.
ليس من شك في أن صدمة الحداثة لم يقع تجاوزها منذ قرن ونصف القرن، وأن البحوث الفكرية ما زالت تتخبط في مثل هذا الأفق مع رجاء التأثير على الواقع مباشر، ويكون من عدم الإنصاف أن نطالب الثقافة العربية الفكرية اليوم بأن تتخلى عن المناخ الذي تعيش فيه، كما عن الإشكاليات الموروثة، فقد يكون هذا من باب المستحيلات. لكن مع هذا، ولو قبلنا الأمر تماما، لوجب علينا أن نصرح بأن هذه الثقافة لا تسهم في المجهود البشري لفهم عقل العالم الإنساني في تاريخه واقتصاده وقوانينه الاجتماعية وسننه اللغوية، وتجديد التفكير الفلسفي فيه.
فلئن وجب أساسا على العرب أن يقوّم فكرهم بتفهم مشكلاتهم الذاتية بتعميق أكثر للأمور وحذق أدق المنهجيات، فواجب على البعض منهم أن يشجعوا على خوض المعارك الفكرية العامة. وإذا كانت النقطة الأخيرة تكون منعدمة، فإن النقطة الأولى تشكو أيضا ضعفا كبيرا. وفي هذا الصدد، لا بد أيضا أن نميز بين الإنتاج الأيديولوجي الموجه الجماهير (الذي قد يكون لازما) والذي ينتج العدد الأوفر من الكتب والدوريات، وبين الإنتاج العلمي الجيد أو الإنتاج الفكري العام في المرتبة الرفيعة.
هذه الدائرة الأخيرة على الرغم من عناصر تقدم ملموسة فيها ما زالت ضئيلة، وقد أكون متعسفا لو قلت إن العرب لم يصدروا أكثر من مائة كتاب في شتى المجالات المسموحة بالمستوى المرجو، وهي دراسات تخصصية أو تاريخهم الخاص، والملاحظ مع هذا أن الثقافة العربية عريقة في هذه الميادين، أي ميادين التحليل والعلم الإنساني والقانون والتاريخ والاقتصاد، فهي ثقافة فكرية ذهنية من قديم. وأدل دليل على ذلك أنا نفخر بابن سينا والطبري والمقدسي والبيروني، بينما يفخر الإنجليز بشكسبير، والفرنسيون بروائيهم أو كتّاب التراجيديا عندهم. الشعر والفكر هما سمات الثقافة العربية، وليس الإبداع الأدبي الخيالي، فليست الثقافة العربية القديمة - سوى في المستوى الشعبي المكبوت - ثقافة خيالية، بل هي ثقافة جامعية وعقلية.
وبما أن التقليد الثقافي يسيطر على مناهج الإبداع، فلا أرى أن عرب اليوم سينبغون في الميدان المسرحي أو في الميدان الروائي أو في ميدان الفن الكلاسيكي، بل في ميدانهم المعهود الذي كانوا يسمونه علما وحكمة، ونسميه اليوم «علوما إنسانية - علوما اجتماعية - تفكيرا شموليا يتسم بالعمق»، وإذا عجز العرب عن إنشاء سوسيولوجيا بالمعنى الصحيح، وتاريخ وعلم جغرافيا واقتصاد وعلم سياسة، فهم في غير ذلك أعجز.
1985*
* كاتب وباحث أكاديمي تونسي «1935 - 2021»
إلى حد بعيد يبقى الفكر العربي أسير النزعة الإصلاحية بالمعنى العام، وما زالت الثقافة العربية تخاصم نفسها والدنيا حول إشكاليتها الأساسية: لماذا تقدم غيرنا ولم نتقدم نحن؟.
ليس من شك في أن صدمة الحداثة لم يقع تجاوزها منذ قرن ونصف القرن، وأن البحوث الفكرية ما زالت تتخبط في مثل هذا الأفق مع رجاء التأثير على الواقع مباشر، ويكون من عدم الإنصاف أن نطالب الثقافة العربية الفكرية اليوم بأن تتخلى عن المناخ الذي تعيش فيه، كما عن الإشكاليات الموروثة، فقد يكون هذا من باب المستحيلات. لكن مع هذا، ولو قبلنا الأمر تماما، لوجب علينا أن نصرح بأن هذه الثقافة لا تسهم في المجهود البشري لفهم عقل العالم الإنساني في تاريخه واقتصاده وقوانينه الاجتماعية وسننه اللغوية، وتجديد التفكير الفلسفي فيه.
فلئن وجب أساسا على العرب أن يقوّم فكرهم بتفهم مشكلاتهم الذاتية بتعميق أكثر للأمور وحذق أدق المنهجيات، فواجب على البعض منهم أن يشجعوا على خوض المعارك الفكرية العامة. وإذا كانت النقطة الأخيرة تكون منعدمة، فإن النقطة الأولى تشكو أيضا ضعفا كبيرا. وفي هذا الصدد، لا بد أيضا أن نميز بين الإنتاج الأيديولوجي الموجه الجماهير (الذي قد يكون لازما) والذي ينتج العدد الأوفر من الكتب والدوريات، وبين الإنتاج العلمي الجيد أو الإنتاج الفكري العام في المرتبة الرفيعة.
هذه الدائرة الأخيرة على الرغم من عناصر تقدم ملموسة فيها ما زالت ضئيلة، وقد أكون متعسفا لو قلت إن العرب لم يصدروا أكثر من مائة كتاب في شتى المجالات المسموحة بالمستوى المرجو، وهي دراسات تخصصية أو تاريخهم الخاص، والملاحظ مع هذا أن الثقافة العربية عريقة في هذه الميادين، أي ميادين التحليل والعلم الإنساني والقانون والتاريخ والاقتصاد، فهي ثقافة فكرية ذهنية من قديم. وأدل دليل على ذلك أنا نفخر بابن سينا والطبري والمقدسي والبيروني، بينما يفخر الإنجليز بشكسبير، والفرنسيون بروائيهم أو كتّاب التراجيديا عندهم. الشعر والفكر هما سمات الثقافة العربية، وليس الإبداع الأدبي الخيالي، فليست الثقافة العربية القديمة - سوى في المستوى الشعبي المكبوت - ثقافة خيالية، بل هي ثقافة جامعية وعقلية.
وبما أن التقليد الثقافي يسيطر على مناهج الإبداع، فلا أرى أن عرب اليوم سينبغون في الميدان المسرحي أو في الميدان الروائي أو في ميدان الفن الكلاسيكي، بل في ميدانهم المعهود الذي كانوا يسمونه علما وحكمة، ونسميه اليوم «علوما إنسانية - علوما اجتماعية - تفكيرا شموليا يتسم بالعمق»، وإذا عجز العرب عن إنشاء سوسيولوجيا بالمعنى الصحيح، وتاريخ وعلم جغرافيا واقتصاد وعلم سياسة، فهم في غير ذلك أعجز.
1985*
* كاتب وباحث أكاديمي تونسي «1935 - 2021»