جمال العبيريد

حتى الآن تنجح القدرات السعودية بضبط زمام الأمور في الأسواق النفطية في ظل حالة مستمرة من (عدم اليقين) يؤثر عليها بلا شك الركود الاقتصادي والتضخم الذي يجتاح العالم بعد كارثتين حلتا بالاقتصادات العالمية هما جائحة كورونا تلاها الغزو الروسي لأوكرانيا. أما الأحداث التي تشير في مجملها إلى وتيرة تصاعدية للنمو الاقتصادي العالمي، فإن حجر الأساس فيها -وبلا مبالغة- هي السعودية.

فبدءًا من اجتماع أوبك بلص الأسبوع الماضي، قررت السعودية إجمالي خفض لإنتاجها بشكل طوعي إلى مليون برميل يوميًا بدءًا من يوليو لتصل إلى مستويات إنتاج 9.9 ملايين برميل يوميًا في 2024، كما انضمت دول أوبك لهذا الخفض ليبلغ مجموع الخفض الطوعي 1.4 مليون برميل عن المستويات الحالية.

يتلو اجتماع أوبك بلص قرار مرتقب هذا الأسبوع للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي من المفترض أنه سيبقي أسعار الفائدة ثابتة. كذلك ستعلن بكين في بياناتها الاقتصادية المقرر إصدارها الخميس عن مجموعة من التحديثات حول الإنتاج الصناعي والاستثمار ومبيعات التجزئة والتي يتوقع أن تلقي بأثرها الإيجابي على تسارع وتيرة النمو الاقتصادي الصيني الذي جاء خلال النصف الأول من العام الحالي أقل من المستويات المتوقعة بعد رفع قانون (صفر كوفيد).

وباعتبار زيارة وزير الخارجية الأمريكي للسعودية نهاية الأسبوع الماضي، التي بدا فيها التودد الأمريكي الكبير للرياض من أجل ضخ المزيد من النفط أو على الأقل التراجع عن قرارات الخفض الطوعية، فإن الهدف غير المعلن للزيارة -كما أراه- هو الرغبة في كبح جماح التضخم وزيادة معدلات الفائدة، وهو ما تحاول الولايات المتحدة تلافيه، حين أدى احتمال بقاء بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على سعر الفائدة الحالي إلى تخفيف قيمة الدولار الأمريكي مقابل سلة من العملات العالمية. فبشكل عام، يتأثر الدولار بعدة عوامل من بينها أسعار النفط. فعندما ترتفع أسعار النفط، يميل الدولار الأمريكي إلى الانخفاض لأن الولايات المتحدة تستورد نفطًا أكثر مما تصدر، لذلك عندما ترتفع أسعار النفط، يتعين على الولايات المتحدة أن تدفع أكثر مقابل وارداتها، مما يضع ضغطًا على الدولار. والعكس صحيح، فعندما تنخفض أسعار النفط، يميل الدولار الأمريكي إلى الارتفاع لأن الولايات المتحدة ستدفع أقل مقابل وارداتها.

كل ما سبق يعطي للقارئ الكريم صورة شمولية عن الوضع في الأسواق، وكيف أن السعودية تضطلع بدور كبير للحد أولًا من تذبذب أسواق الطاقة والذي يعتبر مضرًا بشكل كبير على الاقتصادات والاستثمارات، وثانيًا لتأهيل العالم بشكل سليم نحو نهضة اقتصادية مقبلة في العقدين القادمين، خصوصًا في الشرق الأوسط.

إن العمل الذي تقوم به أوبك بلص يظهر للعالم بشكل واضح وشفاف، بعيدًا عن المعطيات السياسية، فالمجموعة لم يسبق لها تسييس النفط أو استخدامه كسلاح اقتصادي مقابل السياسة، بل إن ما يفعله الغرب اليوم من التخلي عن حماية أنابيب النفط التي تربط أوروبا يوضح بشكل كبير كيف انعكست المشكلات السياسية على الوضع الاقتصادي النفطي الغربي.

في المقابل، يقول وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان إن السعودية منفتحة على الجميع ولدى رؤية السعودية 2030 انسجام تام مع أهداف خارطة الحزام والطريق الصينية، وذلك خلال الدورة العاشرة لمؤتمر الأعمال العربي الصيني، ما يعني بجلاء أن السعودية تستهدف النمو الاقتصادي الكلي للمنطقة ولشركائها بعيدًا عن استخدام الطاقة كورقة سياسية وبعيدًا عن العقوبات الاقتصادية النفطية التي فرضها الغرب على روسيا (الشريك المهم في أوبك بلص) والتي لم تؤثر فعليًا في صادرات روسيا النفطية التي أظهرت تصاعدًا مستمرًا من بداية العام الجاري.

إن ما سبق يدعوني للتفاؤل المقولب منطقيًا، بأن الخطوات السعودية جاءت سليمة وصحيحة في ظل تردد الكثير من اقتصادات الدول الكبرى عن اتخاذ قرارات حازمة وحاسمة لحماية مصالحها الوطنية واقتصاداتها. فبداية من يوليو، سيكون العالم موعودًا بارتفاعات في الاستهلاك النفطي لمستويات تقترب من فترة ما قبل كورونا.

وفي أسوأ الأحوال، سيكون لدى السعودية القدرة على خفض إنتاجها لمستويات هي الأدنى خلال عشر سنوات. فلا تزال السوق النفطية مشوبة بحالة (عدم اليقين) وبالتالي واجب على الدول المنتجة مراقبة السوق بحذر.

وفي سلسلة تلك الأحداث، يزداد التعاون السعودي-الصيني قوة ومتانة، وتتطوّر العلاقات السعودية الإيرانية وترتسم صورة مشرقة لشرق أوسط مزدهر، ومما لا شك فيه أن السعودية كانت هي الحجر الأساس في تلك النهضة الشاملة التي تقودها في مجال الاقتصاد الصلب والاقتصاد الناعم.