آن الأوان ليعاد لقضية تحرير فلسطين شأنها، كقضية محورية وأساسية في الكفاح العربي. وألا يشكل موسم الثورات العربية عبئا يحول دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، التي جرى التبشير بولادتها منذ منتصف السبعينات

خلال الأسبوع المنصرم احتفلنا بحدثين فاجعين في تاريخ الأمة المعاصر. الحدث الأول هو مرور خمسة وأربعين عاما على حرب الأيام الستة التي انتهت باحتلال الكيان الصهيوني لكامل شبه جزيرة سيناء، من مصر والضفة الغربية ومدينة القدس، البقية الباقية من فلسطين ومرتفعات الجولان السورية. وكانت نتيجتها تضاعف مساحة الكيان الغاصب ثلاث مرات. أما الحدث الآخر، فهو غزو الصهاينة للبنان، وسقوط أول عاصمة عربية، بيروت في قائمة المصروفات، بعد صمود أسطوري للمقاومة الفلسطينية في الدفاع عنها استمر لأكثر من ثمانين يوما دون أن يحرك العرب ساكنا، وهم يشهدون صيحات أطفال فلسطين.
وليس بمقدور المرء بعد مرور وقت طويل على هذين الحدثين الفاجعين سوى التصور بأنهما سيكونان درسين قاسيين ومريرين، للفلسطينيين واللبنانيين معا، بعميق الحاجة للوحدة الوطنية كطريق وحيد للتصدي للعدوان وتحطيم محاولات الغزو الصهيوني على الشعبين. لكن ما حدث للأسف، بعد هذه السنوات هو استمرار حالة التشظي والتشرذم للقوى السياسية في فلسطين ولبنان، بما يجعل الأبواب مشرعة أمام استمرار العدوان الصهيوني على الأرض العربية.
في فلسطين، التي لم تنجز قيادات المقاومة، حتى هذه اللحظة، مهمة تحريرها وقيام الدولة المستقلة على أراضي الضفة الغربية والقطاع، هناك حكومتان، واحدة بالضفة بقيادة فتح والأخرى في غزة، ليصدق القول: أرأيت مزرعة البصل؟! فيهما، رغم محاولات مستمرة وحثيثة من القيادة المصرية السابقة والقيادة الحالية لتحقيق المصالحة. ولا يلوح في الأفق ما يشي باقتراب تحقيق وحدة الضفة والقطاع التي هي شرط لازم لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
في لبنان، دعا رئيس الجمهورية ميشيل سليمان، القوى السياسية اللبنانية للالتحاق بطاولة حوار للاتفاق على الإستراتيجية الوطنية الدفاعية، وعلى رأس جدول أعمال هذه الطاولة معالجة نزع السلاح غير الحكومي في لبنان، الذي تمتلكه الميليشيات اللبنانية والفلسطينيون بالمخيمات، وتسليمه إلى القيادة العسكرية اللبنانية، لتكون الدولة هي المسؤولة أولا وأخيرا عن حماية لبنان. لكن كثيرين من الساسة اللبنانيين يرون في هذه الدعوة قنبلة تفجير للصراع الكامن تحت القشرة، والذي ينتظر فرصته للاشتعال. ولكل رافض لتطبيق هذا المقترح أسبابه ومبرراته. فبينما يرى حزب الله وحلفاؤه أن سلاحه موجه ضد إسرائيل، وأنه بهذا السلاح تمكن من تحرير جنوب لبنان،
يرى زعماء الرابع عشر من مارس أن هذا السلاح يشكل خطراً على استقلال لبنان وسيادته، وعلى نظامه الديمقراطي ونمط الحياة القائمة فيه. وأن بقاءه يعزز هيمنة إيران على لبنان، ويستدلون على ذلك باختراق حزب الله للعاصمة بيروت قبل عامين من هذا التاريخ.
في هذا السياق، يطرح بعض المحللين السياسيين ضرورة التفتيش عن استراتيجية دفاعية جديدة تؤمن نزع السلاح عن القوى اللبنانية التي تحمله دون استثناء، وتغلب سيادة الدولة على كافة أراضي لبنان، وتمكن في الوقت ذاته، قوة الدفاع التابعة للدولة من التصدي للنزعات الصهيونية التوسعية. إن نجاح هذه الاستراتيجية، التي يفترض أن تكون المحور الرئيسي على طاولة المفاوضات التي اقترحها الرئيس سليمان، يعتمد على الزج بكل طاقات الشعب اللبناني، في الدفاع عن سيادة لبنان وأمنه واستقراره، دون تمييز بين الأديان والطوائف والفئوية السياسية.
وحتى يكتمل تحقيق ذلك، فإن الحاجة ماسة لإنهاء حالة الصراع والتوتر بين اللبنانيين، وتغليب مصلحة لبنان على كل المصالح والاصطفافات الأخرى. كما يتطلب ذلك جهدا استثنائيا من قبل كل الأطراف للنأي بأنفسهم عن الصراع المحتدم قريبا منهم في سوريا. إن استغراق اللبنانيين في الصراع الدائر بسوريا، وانقسام ولاءاتهم مع هذا الفريق أو ذاك، من شأنه أن يعيد حالة الاحتراب بين اللبنانيين، ليعاد مسلسل الحرب الأهلية مجددا للمربع الأول.
وقد آن الأوان ليعاد لقضية تحرير فلسطين شأنها، كقضية محورية وأساسية في الكفاح العربي. وألا يشكل موسم الثورات العربية عبئا يحول دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، التي جرى التبشير بولادتها منذ منتصف السبعينات. وجرى التأكيد على ذلك مرة أخرى في قمتين عربيتين في فاس، حين وافق العرب مجتمعين على خطة الملك الراحل، فهد بن عبد العزيز لتسوية الصراع بالشرق الأوسط. وتأكد ذلك مرة أخرى بالمبادرة العربية، التي طرحها خادم الحرمين الشريفين، وشملت ضمن ما تضمنته، اتفاق العرب على العمل معا لإعلان قيام الدولة الفلسطينية.
لا بد من أن يضغط القادة العرب مجتمعين، على الإدارة الأمريكية وحضها على قبول هذه المبادرة التي لقيت في السابق ترحيبا منها. ولا شك أن وقوف هذه الإدارة بالضد من إعلان الدولة هو إسهام مباشر في توتير الأوضاع بالمنطقة، بما لا يسهم في تحقيق الاستقرار والنماء للشعوب العربية، دون استثناء. وفي هذا الاتجاه يقتضي التحذير من مصادرة الانتفاضات العربية، وحرفها عن مسارها، لتتحول إلى تطاحن وحروب أهلية بين أبناء البلد الواحد، ويشمل ذلك ما يحدث في ليبيا واليمن وسوريا وعدد آخر من البلدان العربية.
وليس من شك أن الأوضاع في هذه البلدان مجتمعة تؤثر بشكل مباشر، وغير مباشر على الصراع العربي الإسرائيلي. فليبيا هي عمق مصر الاستراتيجي، ومصر كانت ولا تزال في القلب من هذا الصراع. وكذلك الحال، مع اليمن الذي يشكل مضيق باب المندب شريانا حيويا للعبور إلى الكيان الصهيوني، عبر إيلات. وكذلك سوريا، التي لا يزال الكيان العبري يحتل جزءا حيويا من أراضيها. إن من المهم التأكيد على أن الوقوف إلى جانب تطلعات الشعب العربي في الحرية والديمقراطية وسيادة دولة القانون، ومناهضة الأنظمة السياسية التي أثبتت عجزها عن مقابلة استحقاقات الناس، لا ينبغي أن يكون مبررا للتفريط بكيانات الدول الوطنية في هذه البلدان.
وقد أثبتت تجربة العراق المحتل، صعوبة استعادة الوحدة الوطنية بين الفئات المكونة للشعب العراقي، بعد قيام عملية سياسية مبنية على سياسة القسمة. ولعل ذلك ما حرض الإرهابي نتنياهو على التصريح أمام الكونجرس الأمريكي، أن كيانه يراهن على أن تكون المتغيرات العربية لصالحه، كونها ستفتت الوطن العربي إلى دويلات عربية جديدة، داخل الأمة المتشظية أصلا.
فهل نعمل جميعا على استعادة وحدة الفلسطينيين واللبنانيين والعرب جميعا ليتحطم حلم نتنياهو على صخرة هذه الوحدة؟!!