جدة: محمود تراوري

اعتادت أم كلثوم على الحب من جمهورها، وكم هائل من التقدير هذا كل شيء.. لم يعرف جمهورها وعشاق فنها أكثر من 15% من أم كلثوم، حياتها/ شخصيتها ظلت خافية عن الجمهور، مقارنة بمطربات هذا الزمان، شخصية تحتاج إلى اكتشاف.. إلى تحليل، فقد شيدت أم كلثوم سورًا عاليًا حول شخصيتها، سورًا يحجب ما في داخله، خلف هذا السور تحتفظ بحياتها الخاصة، بشخصيتها، بأفكارها الخاصة. أم كلثوم اتخذت قرارًا اختياريًا بأن تعيش حياتها بين قوسين.

المفتاح الرئيس

بهذه المعاني يقتحم ( محمود عوض) عوالم من عرفت بـ (كوكب الشرق) أم كلثوم، مقتربًا من شخصيتها بعيدًا عن منصة الغناء في كتابه (أم كلثوم التي لا يعرفها أحد).. ذاكرًا أن (أم كلثوم بدأت حياتها من لا شيء لا شيء.. من الصفر.. من تحت الصفر.. ولكنها استطاعت أن تصل إلى قمة لم يصل إليها أحد، ثم استمرت في وقت لا يستمر فيه أحد وفيما بين النقطتين - القاع والقمة - واجهت أم كلثوم مواقف كثيرة: الفقر، الجوع، الحرمان، الشقاء الهزيمة، السقوط، الفشل، الألم، العذاب - كثيرًا من العذاب، ثم - بعد وقت طويل. النجاح، مواقف لا يعرفها أحد فيما بين القاع والقمة كان فن أم كلثوم هو - في الواقع - الطريقة التي عاشت بها، حياتها نفسها.. فن أم كلثوم هو حياتها، وحياتها هي شخصيتها، وشخصيتها هي - المفتاح الرئيسى - لفهم أم كلثوم أن أم كلثوم هنا هي الفن، هى رمز، رمز الشخصية، لحياة، لمجتمع.

سومة اسم غير معروف

بعد المقدمة الوصفية، يستهل الكتاب بسرد فائض المحبة عن سيرتها الأولى (كانت فاطمة تقيم في بيت ريفي صغير من الطوب النيء البيت له عدة أبواب تطل على حوش وراء كل باب حجرة صغيرة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران تقيم فيها أسرة مكونة من زوج وزوجته وعدة أطفال، وفي إحدى هذه الحجرات رقدت فاطمة المليجى تتلوى من الألم

في انتظار المولود أطلت المولودة برأسها وحملت الداية القروية المولودة وخرجت بها وهى تصرخ مبروك فاطمة ولدت ولم تقل الداية أن فاطمة أنجبت طفلة.. فقد خشيت أن يصطدم الأب بالخبر !.. ومع الفجر..

وكان الأب يجلس على الأرض يقرأ كتابا عن أولاد النبي، وكانت عيناه في تلك اللحظة على اسم إحدى بنات النبي، وقبل أن يسمع أنه رزق بمولود أو مولودة صاح نسميها باسم بنت النبي نسميها أم كلثوم.. ولم يكن اسم «أم كلثوم» معروفًا ولا متداولًا في قرية (طماى) ولا القرى المجاورة، ولهذا كان اسما غريبًا على أسماعهم، ولم تعارض فاطمة فى اختيار هذا الاسم ولكن الأهل والأقارب اعترضوا على الاسم الغريب، وراحوا يحاولون اقناع الشيخ إبراهيم باختيار اسم خفيف ورفض الشيخ هذه الأسماء لقد أصر على أن يسمى المولودة باسم بنت النبي أم كلثوم..

تقول أم كلثوم يظهر أن أمى كانت تشارك أهل القرية سرًا في اعتراضهم على اسمي لأننى وعيت عليها وهي تناديني «سومة».

طبق المهلبية

تضيف سومة :( من الصور التي تعيش فى ذاكرتى صورة أبي وهو جالس على الأرض، يعلم أخي قصة مولد النبى والقصائد والتواشيح، وأذكر أنني لم أكن أهتم بالجهود التي يبذلها أبي لتعليم أخي وتحفيظه هذه القصائد، كنت في شغل عنها باللعب مع أجمل فتاة في الدنيا عروسة جدتي.. ولكن يظهر أن التكرار بدأ يتحكم في ذاكرتي، لأننى بدأت وعمری خمس سنوات أقلد أبي من وراء ظهره.. أقلده وهو يعلم اخي خالد! وفي أحد الأيام ضبطني أبي ووقف وراء الباب يرقبني وأنا أقلده! فلما انتهيت من تقليده قال لى تعالى معايا إلى حفلة شيخ البلد.. لا قلت له موش عاوزة أروح !.. فراح أبي يغريني بالكراملة التي أحبها فعاندت ورفضت! ولكن لما بدأ يلوح لى بصحن المهلبية الذي أعشقه ذاب عنادی ووافقته على أن أذهب معه إلى الحفلة.. وكانت الحفلة مزدحمة بالناس.. فقد بلغ عدد الذين حضروها حوالي خمسة عشر شخصا وكان هذا العدد بالنسبة لى هو الزحام الضخم !..

وطلب منى أبى أن أجلس بجانبه على الكنبة الخشبية وأغنى كما هي عادة المغنية في ذلك الوقت! ولكني رفضت الجلوس. وأصررت على الوقوف فوق الكنبة وبدأت أغنى!..

لم أضطرب أمام الجماهير! لقد وقفت وغنيت بلا اهتمام وكأني أغنى لعروستى الصغيرة.. إنني أخاف اليوم من الجمهور الذى يعرفني وأعرفه وأحسب له ألف حساب وأنا أواجهه، لكن لما كان عمري خمس سنوات كنت أكثر ثقة بنفسى من اليوم! ويظهر أن التجربة هي التي تعلمنا الخوف!..

وبعد خمس دقائق انتهيت من غنائي وسمعت لأول مرة في حياتي تصفيق الناس!

ولكن هذا التصفيق لم يهزني! فقد التفت إلى أبى وقلت له في لهفة فين بقى اللي قلت لي عليه؟ فين «طبق المهلبية» ؟!

أغاني الشيخ أبو العلا

حين تستمر أم كلثوم في سرد حكايتها، تروي أن «فونوغراف» العمدة هو الذي غيرها (سمعت عبر هذا الفونوغراف صوت الشيخ أبو العلا، وهزنى صوته.

كنت أشعر وأنا أسمعه أنه يغني لي وحدي وسمعت صوته مئات المرات وهو يغنى: أفديه أن حفظ الهوي أو ضيعا!، وسمعته وهو يغنى «وحقك أنت المنى والطلب».. وقصيدة «غيرى على السلوان قادر» كان الفونوغراف يسكت ولكن صوت الشيخ أبو العلا كان يستمر يغني في أذني!

أطفال القرية يرددون أغنية (وأنا نازلة أدلع أملا القلل) أما أنا فكنت أعيش مع أغانى الشيخ أبوالعلا، وكنت أتصور أنه قد مات! لم يخطر على بالى أن صاحب هذا الصوت يعيش في الدنيا التي أعيش فيها!

ومرت السنون وفي يوم من الأيام كنت فى محطة السنبلاوين، فسمعت صوتًا يقول:

الشيخ أبو العلا هنا!

ولم أصدق أذني! ورأيت أبي يسرع نحو الرجل الكبير ويصافحه في احترام.. وأسرعت وراءه وأمسكت يده، ورحت أحدثه على الفور عن إعجابي وتحول الشيخ أبو العلا عنى ليستأنف حديثه مع الآخرين.

وبعد سنوات استمرت صداقتي بأستاذى الشيخ أبو العلا سنين طويلة كنت أبحث عنه في كل مكان لاستظل برعايته وأستاذيته وكنت أطالبه في كل مرة نلتقى فيها بأن يغني لى! كان غناؤه هو غذاء روحی.

وفجأة ثقل لسانه وأصبح يتعثر في نطق الكلمات ومع ذلك كان يغني لى! وعندما يخونه صوته أثناء الغناء كان

يقول أنت عارفه أنا عاوز أقول أيه؟!

وفي إحدى الليالى فوجئت بوفاة الشيخ أبو العلا ، وامتلا رأسي بقصائد الشعراء بعد أن امتلات روحي بأغاني الشيخ أبو العلا، ولم أحتمل أن أذهب إلى بيته!

مشيت في شوارع حى الزمالك شارعا شارعا ولم أذرف دمعة واحدة!

ولم أستطع أن أبقى في بيتي مشيت إلى شارع فؤاد ثم إلى شارع الملكة نازلي ثم عدت..

ست بیت فاشلة جدا

يذكر الكتاب أن أم كلثوم لا تجيد الطبخ!

في الواقع أنها لم تحاول أن تطبخ ولا مرة.. إنها لو حاولت فالنتيجة معروفة مقدمًا! لهذا لا تتدخل في أعمال منزلها لديها من يقوم بذلك.

ولكنها تتدخل في أشياء أخرى، تنسيق الغرف مثلا، المكان الذي تعلق فيه اللوحات الفنية مثل لوحة نحاسية للعذراء تجدها في المدخل، لوحة زيتية للفنان صلاح طاهر في الصالون، لوحة أخرى تمثل الفلاحة المصرية في الغرفة الأولى وهكذا.

فبينما يختلف الدكتور حسن الحفناوي عن زوجته أم كلثوم فى مواعيد وأسلوب العمل والعادات المنزلية فإنهما يتفقان في شيء آخر الذوق الفني.

والواقع أن اتفاق الذوق الفنى كان أول نقطة اتفق فيها الحفناوى وزوجته هذا الاتفاق هو الذى أدى الى زواجهما. في سنة 1955 تزوجت أم كلثوم الدكتور حسن الحفناوي من «سميعة أم كلثوم»، هكذا بدأت علاقتهما ( مستمع ومطربة9 ولكن أم كلثوم كانت تتردد عليه للعلاج فى سنة 1954 فقد كان من أبرز أطباء الأمراض الجلدية.

علاقة عادية بين طبيب ومريضة تطورت إلى اتفاق عاطفى، وتم الزواج بعد عودة أم كلثوم من رحلتها إلى أمريكا للعلاج.

الفنان يرى الغابة

شخصية أم كلثوم كفنانة هى امتداد لشخصيتها كإنسانة ، إنها غير عادية في فنها، لهذا تصر على أن تكون عادية في حياتها. تقول: (فساتينى تتكلف أقل مما يرددون بكثير، المهم فى المسألة ليست تكاليف الفستان إنما ذوقه هكذا أرى، وبالنسبة لى فإنني لا أنقل الموضة مع أنني أتابعها، أتابعها لكي أخذ منها ما يناسبني، أنا لا أريد أن أرتدى فستانا يلفت نظر الناس وإلا تبقى معرض موش موضة! أن أهم أربع صفات في الفستان الذي أرتديه هي أولا - أن يكون حشمة. ثانيًا - ألا يكون متخلفًا عن خطوط الموضة السائدة. ثالثًا - أن يكون هناك ذوق في ألوانه بمعنى أن تكون الألوان منسجمة في تركيبها مع بعضها.

وما يبقى من أم كلثوم كفنانة هو أن الفنان أيضا لا يمكن أن يكون محايدا، الفنان لابد أن يكون «مع» و «ضد»، الفنان لا يستطيع أن يكون عديم اللون والطعم والرائحة، الشخص العادى يرى صورة الحياة مجزأة منظرًا منظرًا، يرى الجزء الذي يهمه، ولكن الفنان يرى - أو يحاول أن يرى - الصورة كلها، فالشخص العادى يرى الشجرة والفنان يرى الغابة.