موج يوسف

يطالعنا ( علي الحديثي) في روايته «وجه في كرة»، التي كُتبت براوٍ واحد هو «البطلة سما»، على طالبة جامعية في قسم التاريخ، من عائلة بغدادية مترفة ذات أصول قروية، قارئة نهمة للأدب والفلسفة، وباقي العلوم، وذكر صفات البطلة، مبرر لوعيها المعرفي بالوجود، ومعرفة ذاتها التي تثور على التقاليد البالية ـفي الروية، فسلاح المرأة فكرها.

عزل الكاتب صوته، وأصوات الأبطال الرجال ـليس عزلاً كليًاــ وفتح أبواب السرد لصوت البطلة، متكئًا على المنولوج الداخلي، فلم تثر سما على أفكار المجتمع بشكل سريع، بل تدريجًا، وكأن الكاتب يمرر رسالته إلي النساء اللواتي تتصاعد موجات التمرد المستقر بذواتهن، بأن السير نحو وجودهن خطوة، خطوة، ورفض الأحكام الجائرة بحقهن لا يأتي دفعة واحدة، وهذا ما نجده موزعًا على مراحل بالمتن السردي.

من أول الأفكار التي بسطت جناحها عليها «السمعة السيئة»، فتقول: في يوم كنت بموقف الحافلات فسمعتُ شابين يتحدثان عن النساء، قال أحدهما لصاحبه «كل النساء عاهرات».. نظرت إليه بطرف خفي وأنا أقول في نفسي «حتى أمك وأختك».

النص يحمل رؤيتين، إحداهما: رؤية المجتمع الذكوري بأن كل النساء عاهرات ـوهذه رؤية شائعة عند الغالبيةــ والأخرى: رؤية المرأة نفسها لهكذا اتهامات «نظرت بطرف خفي» فهذه الصورة المشهدية خاصة بكل امرأة تسمع الاتهامات الموجهة لها، فنظرة الطرف خفية، صفعة رفض لما يقال عنها، وهذا أقل التقدير أنها رفضت الإساءة لبنت جنسها، لكن البطلة زادت «وأمك وأختك»، فعادة الذكور يرون كل النساء فاسدات غلا أمهاتهم وأخواتهم، فماذا لو هؤلاء انشملن بتصنيف سيئ؟ حتمًا سيرفضون وتتغير رؤيتهم الدونية للمرأة.

ورغم أن رفض البطلة جاء عبر الحوار الداخلي، لكنها الخطوة الأولى لرفض هكذا أحكام، سما انطلقت من لبّ الرؤية الاجتماعية للنساء، ثم صارت تدخل بقضايا أكبر، وهي الحب فهذا المقدس المقتول في مجتمعنا، مباح للرجل، محرم على المرأة.. سما تُعجب بزميلها باسل، الشاب المثقف القارئ والمفكر، واختيار هذا الصفات للشخصية تحرّك الحوار عندها، وتفسح طاولة النقاش لأفكار أهم، وأولها الحب، فجرت العادة أن يعترف الرجل أولاً بمشاعره، ثم تبادله المرأة ذلك، هي لا تملكُ خيارًا حتى في مشاعرها، ولم تمر علينا قصة أو رواية أو واقعة -إلا بعض الاستثناءات- ومنها بطلة الرواية التي عرفت وجودها، ووصلت إلى النضج الذاتي، فأصبحت تمتلك حرية الخيار، والبوح بمشاعرها، فتتناقش عبر المنولوج الداخلي أفكار الحب في المجتمع، فقد اعتدنا أن يبدأ الرجل بكتابة الرسائل المعبرة عن شعوره فترد عليه المرأة، أما أن تبدأ هي بالبوح بمشاعرها فهذه جريمة لا تغتفر، كان عليهم أن يكملوا هذه القاعدة المنقوصة، وأن يضعوا في نهايتها فارزة، وبعدها يكتبون «إلا في علاقة الرجل والمرأة» فالمرأة رد فعل الرجل.. أسعدني صمته عن رسالتي التي بحت فيها بحبي.

هذه الثورة الثانية التي جاءت عبر قلب وجه المجتمع، فلحظة اعتراف المرأة بحبها تمثل جريمة لا تغتفر، وهذه رؤية المجتمع، وبقلبها تكون المرأة قد استطاعت أن تغير الرؤية والأفكار البالية، واستعمالها للفعل (اعتدنا) بصيغة الجمع لأن هذه القاعدة الثابتة منذ قرون، «واسعدني صمته عن رسالتي التي بحت فيها بحبي»، فصمت الرجل ليس إلا لحظة عجزه عن الرد، فتغيرت قاعدة الحب على يد المرأة، كل ما سبق ذكره يمثل المرأة الوجودية، فهذه الأخيرة كانت ممرًا نحو الجسد الذي اكتشفته عبر الآخر : ( مددت جسدي العاري أول مرة أكاد أشعر بأن لي جسداً لم أكن بوجوده عندما استحم .. ارتدي ملابسي لم يكن يختلف عن القميص الذي ارتديه حتى الروايات التي كنت اقراؤها وفيها مشاهد جنسية كنت أشعر أنها لا تعنيني حتى ظهر باسل). أحاسيس المرأة المضطربة تكمن في مشاعرها تجاه جسدها، تهتم به وتخشى عيوبه، بل تسعى أن يكون ملائمًا لما يطمح له كل رجل، لكن الحال مع البطلة سما كان مختلفًا، فهي لم تسعَ لعرض الجسد في مزاد الرجال، وإنما عرضت لوحات الفكر، وصوتها، ووجودها، فجاء الجسد بقدسيته الذي تراه هي، لا الآخر؛ ليكمل وجودها.

كما أنها لم تكتفِ بهذا الحد، بل صارت تدافع عن جنسها المتهم بالغواية منذ أمنا حواء فتقول: مشكلتكم أنكم تتغاضون عن تهمة المعصية التي اخرجتنا فتتهمون بها أمنا «حواء»، بينما الله قال «فوسوسَ لهما» سألجمكم بنكتة، أنتم تقولون إن «حواء» أكلت من التفاحة وأخرجت آدم من الجنة ألا تعرفون ما يعني ذلك؟ أول كائن بشري تمرد هو الأنثى، بتمردها أخرجت نبيًا من جنته.. فهل تعجز عن إخراجكم من تقاليدكم البالية؟ امرأة أخرجت نبيًا من الجنة، وامرأة كادت توقع نبيًا ليضاجعها، اردد مع نفسي هذه الكلمات وهناك شيء يعتمل في صدري سأفعلها ولتذهب التقاليد إلى الحجيم.

النصَّ حوارٌ داخلي لا يمثل تمردًا، بل ثورة على الأفكار المغلوطة، ومنها أن كل امرأة هي حواء خُلقت للغواية، لكن الكاتب يرى العكس برؤية المرأة لا رؤيته هو، فالبطلة قالت «فهل تعجز عن إخراجكم من أفكاركم البالية؟».

عزل الكاتب علي الحديثي ذاته الرجل في روايته، اعتمد على صوت المرأة ولغتها الرشيقة، ومرر ما يؤمن به من أفكار من خلالها، فكانت الشخصيات والمشاهد والوصف مكثفًا.

نافذة:

أحاسيس المرأة المضطربة تكمن في مشاعرها تجاه جسدها، تهتم به وتخشى عيوبه، بل تسعى أن يكون ملائمًا لما يطمح له كل رجل.

* كاتبة عراقية