أنس الرشيد

تطرح المقالةُ أمامَ المتأمل نمطًا في السيرةِ الذاتيةِ، له وجهان، وجهٌ يقول إنَّ للتاريخِ فلسفته، وللسيرةِ مسارها، كلّ على حدة. ووجهٌ يمكر بالكتابة؛ ليحس القارئَ بالتاريخِ من خلالِ سيرٍ أخلاقيةٍ تعليميّة، وفكريةٍ تؤطرها قيم إسلاميّة.

ووجدتُ في قراءاتي المتعددة نموذجيْن لهذه الازدواجية، بوعي ورصد، الأول: (رحلتي الفكرية، في البذور والجذور والثمر. سيرة غير ذاتية، غير موضوعية) للمسيري، والثاني: (غبار السنين) لعمر فَرّوخ.

والسؤال الذي يوضح المراد: ما الدافع الذي يجعل المسيري يُحَوّل حياته إلى رحلةٍ فكرية، ثم يجعل لفظ (سيرة) مطلقًا، وينصُّ على أنها ليست ذاتية، وليست موضوعية؟ ويجعل فرّوخ حين كتبَ لمحات من حياته، ينصَّ على أنها وقائع في الثقافة والاجتماع؟

يطرح المسيري مثالا لتوضيح مراده وذلك حينما طلب من رسامٍ أن يرسم له صورةً لوصوله الأربعين، إلا أنَّ الرسامَ قال من الأفضل رسم أعمالك. فيعلق المسيري: «فكان البورتريه الذي رسمه صورةً غير ذاتية، غير موضوعية».

الذاتية عند المسيري تتقلّص لتكونَ في حدودِ «ما لوني المفضل؟ وما نوعية قماش بدلتي؟ ومَن خالتي؟» بحسب تعبيره! لهذا فإنه يملأ كتابه بالذاتِ الغارقةِ بأحداثِ ما يجري لها، دون أن يسميها ذاتية؛ لأنه نبّه القارئَ بأنَّ أهميتَها فيما تُلقيه من ضوءٍ على تطوره الفكري.

وهذا التنبيه هو الوجه الآخر الذي يعبّر عن مكر السيرة هنا، أي هي دعوة ضمنية بأن تكون حياتُه حياةً عامة.

يقول: «وهي ترصد تحولاتي الفردية في الفكرِ والمنهجِ، ولكنّها تؤرخ -في الوقت نفسه- لجيلي». نلحظ -هنا- لفظتي: (فردية وتؤرخ) في سياقٍ يُوضِّح الازدواجية المسيريّة، ولن تتضح كونها ازدواجية إلا بمعرفة الهاجس الأساس الذي يؤرقه دومًا في كتاباته وهو (النماذج التفسيرية للحياةِ) فهو «ماركسي على سنةِ اللهِ ورسوله» -كما يقول هازلًا جادًا في الوقتِ نفسه- أي أنَّه تركَ الماركسيّة، وأبقى منها -في مرحلته الإسلامية- ما يُريد من نماذج تفسيرية، ليكمل مشروع اكتشاف الحقيقة؛ لهذا أشارَ في كتابه إلى أنّه فهمَ حياتَه الخاصّة من خلالِ المقولاتِ التحليليّة التي يستخدمها. ويُصِرّ على وضعِ (الذاتية) أمامَ لفظِ (الخاصّة)، لشعوره بورطةٍ تفسيريّة لما يُخبر به المتلقي.

والنموذج كما يراه المسيري هو رؤية تصورية معرفية يجردها عقل الإنسان -وعى أم لم يعِ- من الوقائعِ والأحداثِ التي تقع له، والظواهرِ التي يرصدها، والدراسات التي يقرؤها. وبما أنَّ هذا هو هاجسه، فإنّه يكتبُ السيرةَ التي تدعو -ضمنا- لفهمٍ كفهمه للحياة، وهذه مرحلة عُليا في الذاتيّة، إلا أنَّ الذاتيةَ هنا تأخذ اسمًا آخر -في وعي المتلقي المسكون بنماذج المسيري- أقرب لمعنى الأنماط التفسيرية لحقيقةِ الحياة، وما ينبغي فعله.

وما يؤكد ذلك، أنَّ بِنيةَ الكتابِ قامت على سيرورةٍ تاريخيةٍ تطوريةٍ بالضرورةِ لكنها لا تسير بصورة مادية كما في مرحلته الماركسية، بل مترابطة بوعي لها غايات تفسيرية للحياة من منظار إسلامي، خلاصتها: «ترابطت الأفكار (الثمر)، بجذورها (حياتي الثقافية بأسرها)، وببذورها (تكويني في دمنهور)».

موضوع المقالة القادمة (الإحساس بالتاريخ)؛ الذي يكشف الوجه الآخر لأسلمة التاريخ، أو الكاشف لازدواجية المسيري بين مرحلتيْه: الماركسية والإسلامية، لبناءِ رحلته الفكرية. هذا المصطلح سأوظفه لأمرين: الأول فردية السيرة في التاريخ بما يخدم المرحلة الإسلامية، والثاني: أنه سيوصلنا إلى نقاطِ التقاءٍ مع عمر فرّوخ، مع أنَّ سيرته صحفية يراها القارئ شيئا مختلفا عن المسيري، وهي كذلك في المضمون والتنظير الشمولي، لكنَّ الشكل يقع على الشكل، وتحديدا فيما تبناه عمر بأنَّ أعمالَ البشر محكومة بقوانين التاريخ، بحسب الأحوال المحيطة بأفراد الناس، لدرجة أن تَقرُب في عددٍ من الأحيان إلى أن تكون شبيهة بالقوانين الطبيعية. ومع ذلك فإنَّ عمر -بازدواجيةٍ كازدواجية المسيري- يَنصُّ على أهمية الفرد في التاريخ، يقول: «... وكثيرًا ما اضطر هؤلاء إلى أن يسلكوا إلى غاياتهم طريق الرمز الجلي، أو طريق الرمز الخفي، وهدفهم من ذلك أن ينبهوا ذوي الفطر الفائقة إلى أن يتلافى هؤلاء مستقبل حياتهم ما ارتكبه آباؤهم وأجدادهم...».

التفاتة:

جاء في البديعِ لابنِ المعتز: أنَّ الأصمعي سأل إسحاق الموصلي: أتعرف التفاتات جرير؟

قال: لا.

فأنشد الأصمعيُّ قولَ جرير: «أتنسى إذا تودعنا سُليمى/ ‌بعودِ ‌بشامةٍ، سُقِيَ البشام»

ثم قال: ألا تراه مُقبلًا على شعره، فإذا به التفتَ إلى البشام فدعا له.

ومن الالتفاتات في أسلمة التاريخ، أنَّ ماركسيةَ المسيري التي على سنة الله ورسوله، تستعيدُ تأثر سيد قطب بالماركسية لمَّا تبنى سيرورة للتاريخ، تُحتّم على أنَّ ما بعد الشيوعية هو الإسلام، وبما أنَّ الماركسية تنصُّ على أنَّ الإنسانَ يتغير في مجرى التاريخ، ومن ثم فإنَّ الإنسان الحقيقي أو المتوحد مع العالم هو الذي قهر الاغتراب عن نتاجه، وعن عمله، وهذا سيأتي في مرحلة الشيوعية المتقدمة، فإنَّ هذا القول أَنتجَ بالضرورة قولا لسيد قطب مفاده أنّ المجتمع -القائم الآن- مجتمع جاهلي، أي أنَّ المسلم الحقيقي لن يأتي ويتوحد مع وحدانية الله إلا بمجيء المجتمع الإسلامي ذاته.

سيد قطب كانَ منظرًا إنشائيًا لعمّال الإسلام، وكيفية العبور إلى ما بعد الجاهلية. وأما المسيري فهو منظر نموذجي لــ (...) وسأبقي ثلاث نقاط لتحليلات القارئ.