منذ أن صاحبتُ أبا زيد، عبدالرحمن بن خلدون من خلال الإبحار في مقدمته الشهيرة: قراءة وتلخيصاً وكتابة، وأنا لمّا أزل أقرأ وأسمع من يَسِمُون الرجل بالعداء الشديد للفلسفة، استناداً إلى فصل خصصه في المقدمة لنقد الفلسفة.
وكنت لا أعير ذلك الاتهام لابن خلدون اهتماما، ليس لأني أريد أن أجنبه النقد، فكلنا ناقد ومنقود، بل إنه هو نفسه دعا من لديه القدرة المعرفية إلى نقد نظريته في العمران.
وهكذا، فعلى الرغم من أنه قال: «أنشأت في التاريخ كتابًا، سلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكًا غريبًا، واخترعته من بين المناحي مذهبًا عجيبًا، وطريقًا مبتدعةً وأسلوبا». وإن مؤلَّفه «استوعب أخبار الخليقة استيعابًا، وذلَّل من الحِكَم النافرة صعابًا، وأعطى لحوادث الدول أسبابًا، فأصبح للحكمة صوانًا، وللتاريخ جرابا»، وأيضاً: «لم أترك شيئًا في أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التصرف والحول، من القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملة، ومدينة وحلة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله، فجاء هذا الكتاب فذًّا بما ضمَّنته من العلوم الغريبة والحِكَم المحجوبة القريبة».
أقول على الرغم من ذلك كله، مما يوحي بأن ابن خلدون مفاخر بإنتاجه، ضنين على نقده، إلا أنه لا يفتأ ولا يتهيب أو يتحرج بأن يقول بعد ذلك «أنا من بعد ذلك موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا الفضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتعمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء».
نعم إني أزعم أن غضي الطرف عمن يقولون إن ابن خلدون معادٍ للفلسفة، ليس من باب اعتباره فوق النقد، فهو - كما رأينا - يحض قارئه على نقده، وعدم الإغضاء عن القصور الذي قد يصاحب إنتاجه، ولكني كنت مقتنعاً بأن من ينتقدونه فيما يتصل بنقده الفلسفة، إما أنهم لم يقرأوا مقدمته جيدا، أو على الأقل لم يركزوا في قراءة وتحليل الفصل، الذي انتقد فيه الفلسفة، وهو الفصل الذي عنونه بـ «فصل في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها»، إلى أن استوقفني بحثٌ للأكاديمي والباحث التونسي «محمد المزوغي» ينتقد فيه ابن خلدون، بسبب ما يزعم أنه حط من قيمة الفلسفة، وأنه حاربها بنفس أدوات أبي حامد الغزالي، وقد عنون بحثه بـ«ابن خلدون والفلسفة: تقييم نقدي».
والرجل باحث متمكن، ومن ثم فصدور بحث بقيمة المزوغي لنقد موقف ابن خلدون من الفلسفة، يحتم علي، كمصاحب لابن خلدون، أن أنقد نقده.
إن الحقيقة الناصعة التي تتضح لكل من قرأ مقدمة ابن خلدون، قراءة مركزة فاحصة نقدية أنه أراد بـ«إبطال الفلسفة وفساد منتحلها» تلك الفلسفة التي تعرف بـ «الفلسفة الإلهية، أو الماورائية، أو الميتافيزيقية»، وهي الفلسفة التي كانت سائدة في القرون الوسطى. فابن خلدون يقول ما معناه، إن إمكانات العقل البشري مقصورة، أو مصممة للتعامل مع الواقع المعيش، أو عالم الظاهر، أما ما يتجاوزه إلى ما راء ذلك، كعالم الآخرة، والنبوات، وما يحدث في الملأ الأعلى، أو إلى الأشياء في ذواتها، كما هي عبارة الفيلسوف الألماني المعروف. «كانط، توفي 1804»، فليس لدى العقل البشري إمكانات للتعامل معها.. والفلسفة الإلهية، أو الماورائية انتهت في الغرب، إلا كموضوع دراسات أكاديمية بحتة. أما فلسفات اليوم فهي، على تنوعها، فلسفات دنيوية فحسب، أي إنها تقوم على إعمال العقل في الظواهر، التي تتبدى أمامنا فقط. وهذا ما فهمه المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري. «ت 2010» عندما تحدث عن الفصل الذي عنونه ابن خلدون بـ. «إبطال الفلسفة»، معترفاً لابن خلدون بالفضل في النقد الإبيستمولوجي لميتافيزيقا الفلاسفة، قائلا: «ويأتي ابن خلدون بموقف آخر من الفلسفة، جديد وأصيل، موقف يقوم على مناقشة الأسس الإبيستمولوجية، التي بُنِيَتْ عليها إلهيات الفلاسفة، مناقشة منطقية ذات نزعة وضعية واضحة. إن ابن خلدون لا يرفض الفلسفة رفضاً فقهياً متزمتاً، ولا يعاندها باتخاذ موقف فلسفي أو كلامي مضاد لبعض قضاياها، بل يحاول نسف قاعدتها الإبيستمولوجية جملة، وذلك بإظهار بطلان القضايا الأولية الأساسية للتفكير الفلسفي «الميتافيزيقي».
نعم، إن ابن خلدون، كما لاحظ الجابري، ذو نزعة وضعية واضحة، ولا يمكن لمن يكون ذا نزعة وضعية في التعامل مع الواقع، أن يحارب الفلسفة الفيزيقية التي تقوم على أسس وضعية، لا تمت بصلة لأي ماورائيات أو ميتافيزيقيات. بل إن نزعة ابن خلدون الوضعية تجاوزت التاريخ والحضارة والاجتماع البشري، لتصل إلى إعمال نظرية
«طبائع العمران» في أحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة السند، لكن محتواها يتناقض مع طبائع العمران، واستناداً على هذا الأساس الوضعي، يقوم بنفيها، أو بتأويلها بما يتفق مع النزعة الوضعية التي يتبناها، من تلك الأحاديث - على سبيل المثال - حديث «الأئمة من قريش»، وأحاديث ما يعرف بـ«المهدي المنتظر».
ولو تأملنا عبارة ابن خلدون التي أوردها في الفصل الذي خصصه لنقد الفلسفة، وهي: «وذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه و ما وراء الحسي، تدرك أدواته و أحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، و أن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر، لا من جهة السمع، فإنها بعض من مدارك العقل»، لوجدنا صحة ما نزعمه هنا من أن قصد ابن خلدون من نقد الفلسفة، ينصرف إلى الفلسفات الماورائية، فـعبارة «ما وراء الحسي» قصد بها ما وراء العالم الظاهر لنا، أما عبارة «الحسي منه» فلقد قصد بها ما عبّر عنه كانط، الذي جاء بعد ابن خلدون بحوالي أربعمائة سنة، بـ«الشيء في ذاته»، أي الذي هو على خلاف ما يظهر لنا عليه. وكلا الأمرين، سواء ما وراء العالم، أو الأشياء في ذاتها، لا سبيل للعقل الإنساني إليها، ولا يمكن أن تدرك بالأنظار والأقيسة العقلية، كما هي عبارة ابن خلدون.
وكنت لا أعير ذلك الاتهام لابن خلدون اهتماما، ليس لأني أريد أن أجنبه النقد، فكلنا ناقد ومنقود، بل إنه هو نفسه دعا من لديه القدرة المعرفية إلى نقد نظريته في العمران.
وهكذا، فعلى الرغم من أنه قال: «أنشأت في التاريخ كتابًا، سلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكًا غريبًا، واخترعته من بين المناحي مذهبًا عجيبًا، وطريقًا مبتدعةً وأسلوبا». وإن مؤلَّفه «استوعب أخبار الخليقة استيعابًا، وذلَّل من الحِكَم النافرة صعابًا، وأعطى لحوادث الدول أسبابًا، فأصبح للحكمة صوانًا، وللتاريخ جرابا»، وأيضاً: «لم أترك شيئًا في أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التصرف والحول، من القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملة، ومدينة وحلة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله، فجاء هذا الكتاب فذًّا بما ضمَّنته من العلوم الغريبة والحِكَم المحجوبة القريبة».
أقول على الرغم من ذلك كله، مما يوحي بأن ابن خلدون مفاخر بإنتاجه، ضنين على نقده، إلا أنه لا يفتأ ولا يتهيب أو يتحرج بأن يقول بعد ذلك «أنا من بعد ذلك موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا الفضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتعمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء».
نعم إني أزعم أن غضي الطرف عمن يقولون إن ابن خلدون معادٍ للفلسفة، ليس من باب اعتباره فوق النقد، فهو - كما رأينا - يحض قارئه على نقده، وعدم الإغضاء عن القصور الذي قد يصاحب إنتاجه، ولكني كنت مقتنعاً بأن من ينتقدونه فيما يتصل بنقده الفلسفة، إما أنهم لم يقرأوا مقدمته جيدا، أو على الأقل لم يركزوا في قراءة وتحليل الفصل، الذي انتقد فيه الفلسفة، وهو الفصل الذي عنونه بـ «فصل في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها»، إلى أن استوقفني بحثٌ للأكاديمي والباحث التونسي «محمد المزوغي» ينتقد فيه ابن خلدون، بسبب ما يزعم أنه حط من قيمة الفلسفة، وأنه حاربها بنفس أدوات أبي حامد الغزالي، وقد عنون بحثه بـ«ابن خلدون والفلسفة: تقييم نقدي».
والرجل باحث متمكن، ومن ثم فصدور بحث بقيمة المزوغي لنقد موقف ابن خلدون من الفلسفة، يحتم علي، كمصاحب لابن خلدون، أن أنقد نقده.
إن الحقيقة الناصعة التي تتضح لكل من قرأ مقدمة ابن خلدون، قراءة مركزة فاحصة نقدية أنه أراد بـ«إبطال الفلسفة وفساد منتحلها» تلك الفلسفة التي تعرف بـ «الفلسفة الإلهية، أو الماورائية، أو الميتافيزيقية»، وهي الفلسفة التي كانت سائدة في القرون الوسطى. فابن خلدون يقول ما معناه، إن إمكانات العقل البشري مقصورة، أو مصممة للتعامل مع الواقع المعيش، أو عالم الظاهر، أما ما يتجاوزه إلى ما راء ذلك، كعالم الآخرة، والنبوات، وما يحدث في الملأ الأعلى، أو إلى الأشياء في ذواتها، كما هي عبارة الفيلسوف الألماني المعروف. «كانط، توفي 1804»، فليس لدى العقل البشري إمكانات للتعامل معها.. والفلسفة الإلهية، أو الماورائية انتهت في الغرب، إلا كموضوع دراسات أكاديمية بحتة. أما فلسفات اليوم فهي، على تنوعها، فلسفات دنيوية فحسب، أي إنها تقوم على إعمال العقل في الظواهر، التي تتبدى أمامنا فقط. وهذا ما فهمه المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري. «ت 2010» عندما تحدث عن الفصل الذي عنونه ابن خلدون بـ. «إبطال الفلسفة»، معترفاً لابن خلدون بالفضل في النقد الإبيستمولوجي لميتافيزيقا الفلاسفة، قائلا: «ويأتي ابن خلدون بموقف آخر من الفلسفة، جديد وأصيل، موقف يقوم على مناقشة الأسس الإبيستمولوجية، التي بُنِيَتْ عليها إلهيات الفلاسفة، مناقشة منطقية ذات نزعة وضعية واضحة. إن ابن خلدون لا يرفض الفلسفة رفضاً فقهياً متزمتاً، ولا يعاندها باتخاذ موقف فلسفي أو كلامي مضاد لبعض قضاياها، بل يحاول نسف قاعدتها الإبيستمولوجية جملة، وذلك بإظهار بطلان القضايا الأولية الأساسية للتفكير الفلسفي «الميتافيزيقي».
نعم، إن ابن خلدون، كما لاحظ الجابري، ذو نزعة وضعية واضحة، ولا يمكن لمن يكون ذا نزعة وضعية في التعامل مع الواقع، أن يحارب الفلسفة الفيزيقية التي تقوم على أسس وضعية، لا تمت بصلة لأي ماورائيات أو ميتافيزيقيات. بل إن نزعة ابن خلدون الوضعية تجاوزت التاريخ والحضارة والاجتماع البشري، لتصل إلى إعمال نظرية
«طبائع العمران» في أحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة السند، لكن محتواها يتناقض مع طبائع العمران، واستناداً على هذا الأساس الوضعي، يقوم بنفيها، أو بتأويلها بما يتفق مع النزعة الوضعية التي يتبناها، من تلك الأحاديث - على سبيل المثال - حديث «الأئمة من قريش»، وأحاديث ما يعرف بـ«المهدي المنتظر».
ولو تأملنا عبارة ابن خلدون التي أوردها في الفصل الذي خصصه لنقد الفلسفة، وهي: «وذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه و ما وراء الحسي، تدرك أدواته و أحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، و أن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر، لا من جهة السمع، فإنها بعض من مدارك العقل»، لوجدنا صحة ما نزعمه هنا من أن قصد ابن خلدون من نقد الفلسفة، ينصرف إلى الفلسفات الماورائية، فـعبارة «ما وراء الحسي» قصد بها ما وراء العالم الظاهر لنا، أما عبارة «الحسي منه» فلقد قصد بها ما عبّر عنه كانط، الذي جاء بعد ابن خلدون بحوالي أربعمائة سنة، بـ«الشيء في ذاته»، أي الذي هو على خلاف ما يظهر لنا عليه. وكلا الأمرين، سواء ما وراء العالم، أو الأشياء في ذاتها، لا سبيل للعقل الإنساني إليها، ولا يمكن أن تدرك بالأنظار والأقيسة العقلية، كما هي عبارة ابن خلدون.