أصبح نشر الكتب، في البلاد العربية، يقوم على أساس المنفعة المادية البحتة.
وفقد المهتمون بالتراث القديم منذ منتصف القرن الحالي عناية واهتمامًا عظيمين يبذلها الناشرون لإبراز النصوص العربية القديمة على أقوى ما يستطيع ناشر عربي بلوغه من حيث الصحة والإتقان ومرد هذا إلى أسباب:
1 - انصراف المعنيين بشؤون التربية والتعليم في البلاد العربية، والقائمين بوضع المناهج الدراسية فيها عن ذلك التراث، أو الاكتفاء منه بقدر بسير، يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، بسبب طغيان الحضارة الغربية، وسيطرة وسائلها على جميع مظاهر الحياة في العالم کله.
2 - ضعف الاهتمام بالتراث نفسه - حتى لدى المحتاجين إليه، في بعض البلاد العربية - بسبب ضعف أسباب التوجيه إلى الاستفادة منه، فبعد أن كانت أمهات هذا التراث وأصوله، تتخذ أساسًا للدراسة والتعليم، استغني عنها بمذكرات موجزة، يقدمها الأستاذ لتلاميذه مطبوعة، ولا يكلفهم مشقة البحث والاستقصاء في المصادر فضلًا عن أن يوجههم إلى الانتفاع بتلك المصادر نفسها، بدراستها، والقيام باستخلاص ما يحتاجون إلى دراسته منها بأنفسهم.
3 - وعدم ـ نتيجة لما تقدم - المتخصصون بدراسة ذلك التراث، وبفهمه فهما كاملًا، أو قلوا. فكان أن وجد أناس يتعاطون مهنة النشر غير مدفوعين برغبة من الحرص على ذلك التراث، ومن إدراك فائدته، أو ضرورة العناية به باعتباره أساسًا تقوم عليه حياة أمة، لا يمكن أن تبقى ذات كيان ما لم تستمد روافد بقائها منه.
ومن هنا أصبحت الدوافع إلى النشر لا ترتكز على أسس من الرغبة في إحياء ذلك التراث، وإنما تقوم على مقدار الاستفادة المادية البحتة منه ونشأ - عن ذلك فريقان اتجها لنشر المخطوطات من أمهات كتب التاريخ والجغرافية والآداب العربية.
فريق من الجهال، تصدوا لتحقيق المخطوطات، وهم يجهلون الطريقة الصحيحة التي بها يقدمون ما ينشرون على خير الوجوه، يكتفي المرء منهم بكتابة مقدمة طويلة حول الكتاب، ولا يتورع بعد أن يعدد مخطوطاته في مكتبات العالم، من أن يؤكد أنه رجع إليها، أو اعتمد عليها، وهــو في الحقيقة لا يعرف إلا أوصافها من فهارس المكتبات العامة.
والفريق الآخر اتجهوا إلى نشر أمهات الكتب التي سبق أن قام بتحقيقها ونشرها بعض العلماء من المستشرقين وغيرهم، قبل زمن طويل، وفي وقت كانت الوسائل التي تمكن الباحث أو العالم من الاطلاع على ما يريد الاطلاع عليه من مخطوطات - كانت تلك الوسائل غير ميسرة، بخلافها في هذا العهد، وقد تكون النسخ التي اتخذت أصلا للنشر في ذلك العهد ليست على درجة من الصحة تصلح لأن تكون أصلا، فوجد الآن ما هو خير منها. وقد يكون موضوع ذلك الكتاب من الموضوعات البعيدة عن فهم المحقق الغربي.
وكان من جراء ذلك أن توقفت حركة نشر أمهات الكتب العربية، بعد أن امتلأت المكتبات بما نشره المستشرقون قبل عشرات السنين، مطبوعًا بطريقة التصوير، بل نشأ عن ذلك انصراف عن تحقيق تلك الكتب وتصحيحها وإعادة نشرها، بسبب ما سيعرض لها من كأد، فيما لو تصدى أحد لنشرها نشرًا جديدًا.
ومن هنا نشأت عقبة كأداء في سبيل نشر التراث، وإن شئت فقل: أصيب التراث بكارثة أبقته قابعًا في زوايا المكتبات من جهة، وأبرزت جوانب منه بصورة من النقص تحول دون الاستفادة منها استفادة كاملة من جهة أخرى.
وستكون نتيجة كل ما تقدم الانصراف التام عن التراث العلمي العربي، وبهذا تصاب الأمة العربية بأعنف مصيبة، تزعزع كيانها من أساسه، وقد تقضي على حياتها إذ لا حياة لأية أمة من الأمم لا تستمد بقاءها وقوتها من روافد حياتها القديمة من حضارة وعلوم وثقافة، ضمها تراثها القديم.
والداء - أي داء ـ لا ينجع علاجه ما لم يقم على أساس إدراك الأسباب، ليتم استئصالها وفوضى النشر عارض من عوارض ذلك الداء، أما جرثومته فهي الانصراف عن ذلك التراث.
وأقوى أسباب ذلك الانصراف طغيان الحضارة المادية الغربية، في وقت كانت الأمة العربية تغط في سباتها العميق، فلم تفتح عينيها إلا وقد أصيبتا بغشاوة من آثار تلك الحضارة، تكاد أن تطمس عنها معالم طريقها إلى حياة كريمة، تحفظ بها كيانها، وتبقي لها أثمن شيء تفخر به، وتعتز بالتمسك بما يتوقف بقاؤها على التمسك به منه
ولئن أدرك مفكرو الأمة العربية - بعد صحوتها - هـــذا الأمر، وبدؤوا بمعالجة الداء، فقامت والإدارة الثقافية في الجامعة العربية، بعقد المؤتمرات، واتخاذ القرارات حول إصلاح نظم التعليم ومناهجه في البلاد العربية، وسارت جل الأقطار العربية على ضوء تلك القرارات، فعنيت الجامعات والمدارس بالنواحي التي تبرز كيان الأمة، وترعى ذلك الكيان في مختلف العلوم التاريخية والجغرافية والأدبية، فإن جانبًا - قد يعتبر هينا في نظر بعض المهتمين بتلك النواحي - لا يزال بحاجة الى عناية من كل مفكر يتصف بالغيرة الصادقة على ما الأمة العربية من مقدرات حيوية.
ذلك هو العناية بنشر ذلك التراث نشرًا صحيحًا، ووضع حد لهذه الفوضى التي أخذ داؤها يسري، ويوشك أن يستشري، إذا لم يستأصل بالعلاج الناجع.
فماذا سيكون موقف الإدارة الثقافية حياله؟!
وماذا سيقوم به كل مثقف ذي غيرة صادقة، من أبناء هذه الأمة الكريمة من عمل؟!
1966*
* باحث وكاتب وصحافي سعودي «1910 - 2000».
وفقد المهتمون بالتراث القديم منذ منتصف القرن الحالي عناية واهتمامًا عظيمين يبذلها الناشرون لإبراز النصوص العربية القديمة على أقوى ما يستطيع ناشر عربي بلوغه من حيث الصحة والإتقان ومرد هذا إلى أسباب:
1 - انصراف المعنيين بشؤون التربية والتعليم في البلاد العربية، والقائمين بوضع المناهج الدراسية فيها عن ذلك التراث، أو الاكتفاء منه بقدر بسير، يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، بسبب طغيان الحضارة الغربية، وسيطرة وسائلها على جميع مظاهر الحياة في العالم کله.
2 - ضعف الاهتمام بالتراث نفسه - حتى لدى المحتاجين إليه، في بعض البلاد العربية - بسبب ضعف أسباب التوجيه إلى الاستفادة منه، فبعد أن كانت أمهات هذا التراث وأصوله، تتخذ أساسًا للدراسة والتعليم، استغني عنها بمذكرات موجزة، يقدمها الأستاذ لتلاميذه مطبوعة، ولا يكلفهم مشقة البحث والاستقصاء في المصادر فضلًا عن أن يوجههم إلى الانتفاع بتلك المصادر نفسها، بدراستها، والقيام باستخلاص ما يحتاجون إلى دراسته منها بأنفسهم.
3 - وعدم ـ نتيجة لما تقدم - المتخصصون بدراسة ذلك التراث، وبفهمه فهما كاملًا، أو قلوا. فكان أن وجد أناس يتعاطون مهنة النشر غير مدفوعين برغبة من الحرص على ذلك التراث، ومن إدراك فائدته، أو ضرورة العناية به باعتباره أساسًا تقوم عليه حياة أمة، لا يمكن أن تبقى ذات كيان ما لم تستمد روافد بقائها منه.
ومن هنا أصبحت الدوافع إلى النشر لا ترتكز على أسس من الرغبة في إحياء ذلك التراث، وإنما تقوم على مقدار الاستفادة المادية البحتة منه ونشأ - عن ذلك فريقان اتجها لنشر المخطوطات من أمهات كتب التاريخ والجغرافية والآداب العربية.
فريق من الجهال، تصدوا لتحقيق المخطوطات، وهم يجهلون الطريقة الصحيحة التي بها يقدمون ما ينشرون على خير الوجوه، يكتفي المرء منهم بكتابة مقدمة طويلة حول الكتاب، ولا يتورع بعد أن يعدد مخطوطاته في مكتبات العالم، من أن يؤكد أنه رجع إليها، أو اعتمد عليها، وهــو في الحقيقة لا يعرف إلا أوصافها من فهارس المكتبات العامة.
والفريق الآخر اتجهوا إلى نشر أمهات الكتب التي سبق أن قام بتحقيقها ونشرها بعض العلماء من المستشرقين وغيرهم، قبل زمن طويل، وفي وقت كانت الوسائل التي تمكن الباحث أو العالم من الاطلاع على ما يريد الاطلاع عليه من مخطوطات - كانت تلك الوسائل غير ميسرة، بخلافها في هذا العهد، وقد تكون النسخ التي اتخذت أصلا للنشر في ذلك العهد ليست على درجة من الصحة تصلح لأن تكون أصلا، فوجد الآن ما هو خير منها. وقد يكون موضوع ذلك الكتاب من الموضوعات البعيدة عن فهم المحقق الغربي.
وكان من جراء ذلك أن توقفت حركة نشر أمهات الكتب العربية، بعد أن امتلأت المكتبات بما نشره المستشرقون قبل عشرات السنين، مطبوعًا بطريقة التصوير، بل نشأ عن ذلك انصراف عن تحقيق تلك الكتب وتصحيحها وإعادة نشرها، بسبب ما سيعرض لها من كأد، فيما لو تصدى أحد لنشرها نشرًا جديدًا.
ومن هنا نشأت عقبة كأداء في سبيل نشر التراث، وإن شئت فقل: أصيب التراث بكارثة أبقته قابعًا في زوايا المكتبات من جهة، وأبرزت جوانب منه بصورة من النقص تحول دون الاستفادة منها استفادة كاملة من جهة أخرى.
وستكون نتيجة كل ما تقدم الانصراف التام عن التراث العلمي العربي، وبهذا تصاب الأمة العربية بأعنف مصيبة، تزعزع كيانها من أساسه، وقد تقضي على حياتها إذ لا حياة لأية أمة من الأمم لا تستمد بقاءها وقوتها من روافد حياتها القديمة من حضارة وعلوم وثقافة، ضمها تراثها القديم.
والداء - أي داء ـ لا ينجع علاجه ما لم يقم على أساس إدراك الأسباب، ليتم استئصالها وفوضى النشر عارض من عوارض ذلك الداء، أما جرثومته فهي الانصراف عن ذلك التراث.
وأقوى أسباب ذلك الانصراف طغيان الحضارة المادية الغربية، في وقت كانت الأمة العربية تغط في سباتها العميق، فلم تفتح عينيها إلا وقد أصيبتا بغشاوة من آثار تلك الحضارة، تكاد أن تطمس عنها معالم طريقها إلى حياة كريمة، تحفظ بها كيانها، وتبقي لها أثمن شيء تفخر به، وتعتز بالتمسك بما يتوقف بقاؤها على التمسك به منه
ولئن أدرك مفكرو الأمة العربية - بعد صحوتها - هـــذا الأمر، وبدؤوا بمعالجة الداء، فقامت والإدارة الثقافية في الجامعة العربية، بعقد المؤتمرات، واتخاذ القرارات حول إصلاح نظم التعليم ومناهجه في البلاد العربية، وسارت جل الأقطار العربية على ضوء تلك القرارات، فعنيت الجامعات والمدارس بالنواحي التي تبرز كيان الأمة، وترعى ذلك الكيان في مختلف العلوم التاريخية والجغرافية والأدبية، فإن جانبًا - قد يعتبر هينا في نظر بعض المهتمين بتلك النواحي - لا يزال بحاجة الى عناية من كل مفكر يتصف بالغيرة الصادقة على ما الأمة العربية من مقدرات حيوية.
ذلك هو العناية بنشر ذلك التراث نشرًا صحيحًا، ووضع حد لهذه الفوضى التي أخذ داؤها يسري، ويوشك أن يستشري، إذا لم يستأصل بالعلاج الناجع.
فماذا سيكون موقف الإدارة الثقافية حياله؟!
وماذا سيقوم به كل مثقف ذي غيرة صادقة، من أبناء هذه الأمة الكريمة من عمل؟!
1966*
* باحث وكاتب وصحافي سعودي «1910 - 2000».