المغيب دومًا ذلك المجهود الكبير على الذات، العمل والكدح الحضاري الذي تمخض هو الآخر، عبر خمسمئة سنة من الفاعلية البشرية.
كان العرب وما زالوا في انتظار المعجزة، بل كلما زاد واقعهم ترديًا علقوا المزيد من الآمال على المعجزة المنتظرة، فمنذ أفاق العرب، في سياق ما سمي بصدمة اللقاء مع الغرب، على واقع تأخرهم وتقدم الغرب وهم يراهنون على معجزة تنقلهم من وهدة التأخر إلى مصاف الأمم المتقدمة، وربما إلى مقدمتها، بل حتمًا إلى مقدمتها، بين إغماضة عين وتفتيحها. وهذا الرهن لمستقبل الأمة بطروء المعجزة يجد ما يوازيه ويعززه في قراءة العرب لتاريخهم على أنه بدوره تاريخ معجزة. وفيما يتعلق بالتاريخ الماضي، فإن الأمر يبدو لوهلة أولى على الأقل منطقيًا تمامًا، فالمعجزة هي بالتعريف تدخل سماوي يخرق العادة أو يُجري الأمور في غير مجراها المقرر والمعهود، والعرب قد اجترحوا معجزتهم الكبرى في التاريخ من خلال الرسالة السماوية التي حملوها -مع مولد الإسلام- إلى العالمين،
ولكن هذه القراءة المعجزية للتاريخ العربي تنطوي، رغم ظاهرها المنطقي، على مسكوت عنه كبير وأساسي.
فالمعجزة إن كانت تساعد على تفسير النشأة -ولو بقوة الدفعة السيكولوجية الأولى- فإنها تقف عاجزة تمامًا عن تفسير «التطور»، والحال أنه، وإن يكن من معجزة عربية بالمعنى التاريخي والبشري للكلمة فهي تلك التي تتصل بـ«التطور» لا بـ«النشأة».
فالرسالة السماوية أعطت العرب بكل تأكيد الدفعة الأولى التي مكنتهم من اجتراح معجزة الفتوحات، ولكن المعجزة الحضارية الحقيقية التي اجترحها العرب، بالتعاون الوثيق مع جميع شعوب البلدان المفتوحة، ابتداءً من مطلع القرن الثاني للهجرة ووصولاً إلى القرن السادس، ما تم إنجازها إلا في مجرى «التطور»، أي من خلال عمل تاريخي كبير -وبشري بالضروري- على «النص المقدس» الذي تجسدت فيه «الرسالة». والحال، أن ما ينزع عرب العصر الحديث، ممن يحلو لهم أن يتكلموا على «المعجزة»، إلى تناسيه، هو بالضبط ذلك المجهود الهائل على الذات الذي قام به الأسلاف حال توقف موجة الفتوحات وتبدد قوة الاندفاعة الأولى، والذي تمخض في سياق خلطة تاريخية فذة وعالمية المردود إبداعيًا وإنتاجيًا عن حضارة ذهبية لا تصمد للمقارنة معها سوى الحضارة الهلنستية التي جمعت هي الأخرى بين عاملي «الفتوحات» و«الخلطة التاريخية»، وإن تكن قد افتقدت عامل النص المقدس. فابتداء من (عصر التدوين) -وهو تعبير غير مطابق ابتدعه أحمد أمين في وضحى الإسلام، وروج له محمد عابد الجابري في (تكوين العقل العربي) اندفع العرب بالمشاركة الجوهرية مع شعوب البلدان المفتوحة في عملية منقطعة النظير للبناء الحضاري: ابتنوا المدن (الكوفة البصرة، بغداد، سامراء، فاس، الفسطاط / القاهرة)، أسسوا وطوروا علوم اللغة والعروض والفقه، دوّنوا أو بالأحرى أنتجوا وأعادوا إنتاج تراث الجاهلية وصدر الإسلام، ترجموا كل المنظومة العلمية والفلسفية المتاحة في عصرهم مارسوا وطوروا علوم الحساب والهندسة والفلاحة والكيمياء والطب والمناظر، صنفوا المعاجم والموسوعات، أقاموا السدود وشقوا الأقنية، استصلحوا الأراضي وأنشؤوا أنظمة البريد والمحاسبة وجباية الجزية والخراج، شادوا المشافي والجامعات والحدائق العامة، وإلى جانب القصور والمعسكرات والقلاع والأسواق ابتنوا المساجد والأربطة والخانقاهات والمكتبات، مارسوا تخطيط المدن ومخروا البحار، ورصدوا الأجواء، وسيروا القوافل البرية والبحرية، رسموا الخرائط الجغرافية، وطوروا صناعة الوراقة ومارسوا أشكالاً أولية من الأنتروبولوجيا، ودخلوا في علاقات تجارية ودبلوماسية وحتى ثقافية مع معظم العالم المتمدن آنذاك؛ وبكلمة واحدة شادوا لبنة لبنة، وعلى مدى قرون خمسة هرمًا للعمران والحضارة هو بكل تأكيد من العجائب السبع للعالمين القديم والوسيط. هذا المجهود على الذات هذا الشغل، بل هذا الكدح الحضاري هو المسكوت عنه في التصور العربي السائد راهنًا عن شروط الانتقال من التأخر إلى التقدم، أو ما يحلو لبعضهم أن يسميه تسمية غير مطابقة أيضًا -بـ«المشروع الحضاري العربي»، ويتضامن مع هذا المسكوت عنه على صعيد الحضارة العربية الإسلامية ولا مفكر به على صعيد الحضارة الغربية. وصحيح أن المعطيات اللاهوتية تحول، من وجهة النظر العربية، دون تعقل الحضارة الغربية بمصطلح «المعجزة»، ولكن مفهومًا آخر يسد المسد نفسه، هو مفهوم «الصدفة التاريخية»، الذي يتضمّن الإحالة المعجزية عينها، ولكن بدون مصادمة للمعطى اللاهوتي، والحال أن مفهوم «الصدفة»، مثله مثل مفهوم «المعجزة»، مشحون بالطاقة التغيبية، والمغيب هنا هو دومًا ذلك المجهود الكبير على الذات، ذلك العمل والكدح الحضاري الذي تمخض هو الآخر، عبر خمسمئة سنة من الفاعلية البشرية، عن بناء تراكمي لهرم حضاري من نوعية جديدة تحوّل معها اتجاه العمران البشري من مسار الدائرة المكررة لنفسها إلى مسار السهم المندفع دومًا إلى الأمام، على حد تغير اشبنغلر المشهور. ورغم حدة الخلاف الإيديولوجي، أي الفوقي بين أنصار بعث الحضارة العربية الإسلامية وأنصار تقليد الحضارة الغربية، فإن المنطق التحتي الذي يصدر عنه هؤلاء وأولئك هو إلى حد كبير واحد، لأن مقولته الجوهرية، التي إليها تسند سائر محمولاته، هي «المعجزة».
1994*
* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016».
كان العرب وما زالوا في انتظار المعجزة، بل كلما زاد واقعهم ترديًا علقوا المزيد من الآمال على المعجزة المنتظرة، فمنذ أفاق العرب، في سياق ما سمي بصدمة اللقاء مع الغرب، على واقع تأخرهم وتقدم الغرب وهم يراهنون على معجزة تنقلهم من وهدة التأخر إلى مصاف الأمم المتقدمة، وربما إلى مقدمتها، بل حتمًا إلى مقدمتها، بين إغماضة عين وتفتيحها. وهذا الرهن لمستقبل الأمة بطروء المعجزة يجد ما يوازيه ويعززه في قراءة العرب لتاريخهم على أنه بدوره تاريخ معجزة. وفيما يتعلق بالتاريخ الماضي، فإن الأمر يبدو لوهلة أولى على الأقل منطقيًا تمامًا، فالمعجزة هي بالتعريف تدخل سماوي يخرق العادة أو يُجري الأمور في غير مجراها المقرر والمعهود، والعرب قد اجترحوا معجزتهم الكبرى في التاريخ من خلال الرسالة السماوية التي حملوها -مع مولد الإسلام- إلى العالمين،
ولكن هذه القراءة المعجزية للتاريخ العربي تنطوي، رغم ظاهرها المنطقي، على مسكوت عنه كبير وأساسي.
فالمعجزة إن كانت تساعد على تفسير النشأة -ولو بقوة الدفعة السيكولوجية الأولى- فإنها تقف عاجزة تمامًا عن تفسير «التطور»، والحال أنه، وإن يكن من معجزة عربية بالمعنى التاريخي والبشري للكلمة فهي تلك التي تتصل بـ«التطور» لا بـ«النشأة».
فالرسالة السماوية أعطت العرب بكل تأكيد الدفعة الأولى التي مكنتهم من اجتراح معجزة الفتوحات، ولكن المعجزة الحضارية الحقيقية التي اجترحها العرب، بالتعاون الوثيق مع جميع شعوب البلدان المفتوحة، ابتداءً من مطلع القرن الثاني للهجرة ووصولاً إلى القرن السادس، ما تم إنجازها إلا في مجرى «التطور»، أي من خلال عمل تاريخي كبير -وبشري بالضروري- على «النص المقدس» الذي تجسدت فيه «الرسالة». والحال، أن ما ينزع عرب العصر الحديث، ممن يحلو لهم أن يتكلموا على «المعجزة»، إلى تناسيه، هو بالضبط ذلك المجهود الهائل على الذات الذي قام به الأسلاف حال توقف موجة الفتوحات وتبدد قوة الاندفاعة الأولى، والذي تمخض في سياق خلطة تاريخية فذة وعالمية المردود إبداعيًا وإنتاجيًا عن حضارة ذهبية لا تصمد للمقارنة معها سوى الحضارة الهلنستية التي جمعت هي الأخرى بين عاملي «الفتوحات» و«الخلطة التاريخية»، وإن تكن قد افتقدت عامل النص المقدس. فابتداء من (عصر التدوين) -وهو تعبير غير مطابق ابتدعه أحمد أمين في وضحى الإسلام، وروج له محمد عابد الجابري في (تكوين العقل العربي) اندفع العرب بالمشاركة الجوهرية مع شعوب البلدان المفتوحة في عملية منقطعة النظير للبناء الحضاري: ابتنوا المدن (الكوفة البصرة، بغداد، سامراء، فاس، الفسطاط / القاهرة)، أسسوا وطوروا علوم اللغة والعروض والفقه، دوّنوا أو بالأحرى أنتجوا وأعادوا إنتاج تراث الجاهلية وصدر الإسلام، ترجموا كل المنظومة العلمية والفلسفية المتاحة في عصرهم مارسوا وطوروا علوم الحساب والهندسة والفلاحة والكيمياء والطب والمناظر، صنفوا المعاجم والموسوعات، أقاموا السدود وشقوا الأقنية، استصلحوا الأراضي وأنشؤوا أنظمة البريد والمحاسبة وجباية الجزية والخراج، شادوا المشافي والجامعات والحدائق العامة، وإلى جانب القصور والمعسكرات والقلاع والأسواق ابتنوا المساجد والأربطة والخانقاهات والمكتبات، مارسوا تخطيط المدن ومخروا البحار، ورصدوا الأجواء، وسيروا القوافل البرية والبحرية، رسموا الخرائط الجغرافية، وطوروا صناعة الوراقة ومارسوا أشكالاً أولية من الأنتروبولوجيا، ودخلوا في علاقات تجارية ودبلوماسية وحتى ثقافية مع معظم العالم المتمدن آنذاك؛ وبكلمة واحدة شادوا لبنة لبنة، وعلى مدى قرون خمسة هرمًا للعمران والحضارة هو بكل تأكيد من العجائب السبع للعالمين القديم والوسيط. هذا المجهود على الذات هذا الشغل، بل هذا الكدح الحضاري هو المسكوت عنه في التصور العربي السائد راهنًا عن شروط الانتقال من التأخر إلى التقدم، أو ما يحلو لبعضهم أن يسميه تسمية غير مطابقة أيضًا -بـ«المشروع الحضاري العربي»، ويتضامن مع هذا المسكوت عنه على صعيد الحضارة العربية الإسلامية ولا مفكر به على صعيد الحضارة الغربية. وصحيح أن المعطيات اللاهوتية تحول، من وجهة النظر العربية، دون تعقل الحضارة الغربية بمصطلح «المعجزة»، ولكن مفهومًا آخر يسد المسد نفسه، هو مفهوم «الصدفة التاريخية»، الذي يتضمّن الإحالة المعجزية عينها، ولكن بدون مصادمة للمعطى اللاهوتي، والحال أن مفهوم «الصدفة»، مثله مثل مفهوم «المعجزة»، مشحون بالطاقة التغيبية، والمغيب هنا هو دومًا ذلك المجهود الكبير على الذات، ذلك العمل والكدح الحضاري الذي تمخض هو الآخر، عبر خمسمئة سنة من الفاعلية البشرية، عن بناء تراكمي لهرم حضاري من نوعية جديدة تحوّل معها اتجاه العمران البشري من مسار الدائرة المكررة لنفسها إلى مسار السهم المندفع دومًا إلى الأمام، على حد تغير اشبنغلر المشهور. ورغم حدة الخلاف الإيديولوجي، أي الفوقي بين أنصار بعث الحضارة العربية الإسلامية وأنصار تقليد الحضارة الغربية، فإن المنطق التحتي الذي يصدر عنه هؤلاء وأولئك هو إلى حد كبير واحد، لأن مقولته الجوهرية، التي إليها تسند سائر محمولاته، هي «المعجزة».
1994*
* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016».