يحكي جلال أمين في «رحيق العمر»، عن أحمد عبّاس صالح، أنه كتبَ مسرحيةً إذاعيّة عمّا فعله الإنجليز بالهنود، ثم تمنّى ألا تُسمَع،..! لكي لا يُعاقَب سياسيًا، في مرحلة جمال عبدالناصر، إلا أنَّ الظرفَ الزماني أبى إلا أن تُسمَع المسرحية، فيُعاقب عليها كاتبُها.
أما الظرفُ فكانَ بثّ المسرحية في التاسعة والنصف مساءً، في أول خميسٍ من الشَهر، أي قبلَ حفلةِ أمِّ كلثوم مباشرة.
لهذا سُمِعت المسرحية بوعيٍ جماعيٍ، عَكَسَ تأثيره في أروقةِ السلطة الناصرية. وأما العقابُ فكانَ اعتقال، تدخّل فيه صلاح سالم، ليحوله إلى فصلٍ من الوظيفة، ونتذكر هنا أنَّ صلاح سالم فُصِل من وظيفته بعد خلافِه الشهير مع عبد الناصر.
ماذا لو لم تُعرض المسرحية قبلَ حفلة أم كلثوم؟ وما قيمة النص حينئذ؟ هل كان أحمد عباس يغتال نصَّه بالقارئِ الاجتماعي/السياسي، حين تمنى ألا يُسمع؟.
تلك بعض أسئلة الفرد، وهو يواجه فعل القارئ بإبداعه، فهل تكمن أهمية أمنية أحمد عباس، بكونها تريد التخلص من القارئ الراصد المرصود؟.. ومعنى الراصد هنا يأخذ اتجاهين يتقاطعان، الأول الرصد بمعنى المراقبة، كأن يُقال: «رصد الأسدُ فريستَه»، ومع وعي الإنسان سيضاف للمراقبة معاقبة، والآخر الرصد بمعنى السجل الخاصّ بالشيء المُركَّز عليه، ومنه رصيد المال، ومعنى كونه مرصودا، أي أنَّ فعلَ الرصدِ لم يكن ذاتيًا فرديًا حرًا، بل وعيًا جماعيًا يُسيطِر على الفعل، ومن ثم ردة الفعل، حيث لنا أن نسأل: هل فُصِلَ عباس من وظيفته بسببٍ مباشرٍ من قيادة الضباط الأحرار، حيث يمكن أن يكونوا بجوار الراديو، لانتظار حفلة أم كلثوم، لكن ما الذي سيُغضِب عبد الناصر وزملاؤه الضباط، مما فعله الإنجليز بالهنود؟ ألم يكن الانقلاب يَدّعي محاولة التحرر من فعل الإنجليز بمصر؟
هنا يأتي تبرير بأنَّ هذه المرحلة هي المرحلة الأولى لعبد الناصر، ولم يتحوّل بعدُ إلى اليسار. ولو استُخدم المنطق دونَ الواقع لكان الأولى أن يدعم المسرحية، لكنَّه الواقع الذي يفرض منطقه غير المؤطر بنظرية شمولية.
وهنا يتجلى سؤالُ القارئ، وعلاقته بكونه كاتبًا لئيما، يحدّ من تحرر القادر حتى يكون عاجزًا عن الكتابةِ، إلا بحدود الظرفِ الاجتماعيّ والسياسي. أم هل فُصِلَ عباس بسببٍ غير مباشر، وذلك بعد تداول الشعب لمفرداتِ المسرحية، حيث قد سمعوها كُلهم، لا لأهميتها في ذاتها، بل لأنّها سبقت حفلة أم كلثوم، ومن ثمّ أصبحت السلطةُ قَلِقَة من انتشارها، وهنا يكون سماع الشعب للمسرحية مرغوبا وغير مرغوب، وذلك هو تناقض الكتابة والكاتب، الذي يُصارع فيه فكرُه قلمَه.
وينتج عن هذا سؤال: هل كان خوف عباس قبلَ كتابةِ المسرحيةِ أم بعدها؟ فإن كانَ قبلها، فما الذي يدعوه لكتابتها كما هي؟ وإن كان بعدها، فما الذي أنساه الظرف السياسي الذي تعيشه مصر؟.
أحمد عباس كان يساريًا اشتراكيا آنذاك، وقد كتبَ مسرحيتَه بوحي من الأفكار الاشتراكية، فلماذا يخاف يساريٌّ اشتراكيٌّ من انتشارِ مَا ينشُره؟
يظهر لنا أنَّ التوقيتَ السييء فاجأ عباس، وكأنَّه يصنع تكتيكًا يساريًا، لنشرِ المسرحية لكنّه لم يُوفّق. هنا يأتي القارئ بوصفه توقيتًا سيئًا- التوقيت السييء الذي كان عنصرًا مخفيًا في الخوفِ من الكتابةِ - أي أنَّ ثمةَ قارئًا كامنًا في ذهن الكاتب، لكنّ السؤالَ حول معاني هذا القارئ، هل هو قارئ تضج به الحياة كما هي في واقعها الاجتماعي والسياسي؟
وسيكون الإشكال -حينها- في تصور أحمد عباس لواقع الحال وتشظيه، ومن ثم جاءت الفجوة، التي جعلته يتفاجأ بتوقيت إذاعة المسرحية، وسيكون الخوف من التوقيت السييء حادًّا من إبداعيّة الكتابة، وجعلها صورةً لما يريده الوعي الجمعي. أم هو قارئٌ نموذجيُّ في ذهنِ الكاتب؟
ومن ثمّ يكون التوقيت السييء محوّلا هذا النموذجي إلى واقعي، يتجاوز النظرية الماركسية إلى واقعِ الحال بالفعل الدقيق، ولعلَّ جلال أمين - الذي كتب حكاية أحمد عباس - في تخليه عن الماركسية، مرتبط بهذه الإشكالات التي ينسى - ولا أقول يهمل - فيها الإيديولوجي اليساري عناصر واقعية متشظية، كأثر الزمن الدقيق في تفصيلاته، وتنوّع الاستجابة البشرية، وتداخل العوامل المؤثرة في مجريات الحياة.. وغيرها؛ وخصوصا حين نقرأ قولَه: «كانت هذه هي بداية إعجابي بالماركسية، وتقديري لأهميتها، وهو إعجاب وتقدير ما زالا معي إلى حد كبير حتى اليوم، على الرغم من أني مع مرور الوقت، وصلت إلى إدراك عيوب وأخطاء كثيرة فيها، مما لا يمكن معه أن أصف نفسي اليوم بأني ماركسي».
وعودا على موضوعنا، فإذا كان القارئ أتى بوصفه توقيتًا سيئًا، فإنَّ التوقيتَ السييء -بدوره- يأتي بوصفه صانع مضمونٍ للنص، ليفضح ويعري ويكشف أنَّ الإبداع النصّي، تساوى مع المنشورات الإيديولوجية، بحيث إنها لم تكن مقصودة لذاتها، بل لزمنها وظرفها، وحاجتها الوظيفية الآنية.
لهذا فإنَّ فعل الكتابة عند أحمد عباس، وصورة المجتمع في ذهنه اليساري، مع تصور مفهوم التوقيت السييء، المرتبط بنموذجٍ عالٍ في الجماهير العربية كأم كلثوم، جعلتنا نتصور تصورا مقابلا حول قارئ لئيم، تمثل في كل تشكلات العقوبة، التي وقعت على عباس؛ إذ نلحظ أنَّ العقوبةَ هي اعتقال، لكنَّها تحولت إلى فصلٍ وظيفي، وتُظهِر الروايةُ أنَّ العقوبةَ كانت متدرجة، إما بإخفاء الكاتب من الحياة «سجنه» أو تعطيله منها بنزع الوظيفة عنه، وكأنَّ الوظيفة هنا تعادل الحياة نفسها، وهذا معنى لقارئٍ لئيم، عقد الصلة بين مجتمع العمل في واقعه السياسي، والحياة نفسها، ومن ثمَّ أصبحَ الكاتبُ يكتب، إرضاء لمفهوم الوظيفة المعنوية والمادية، التي يصنعها مكوّن ....... ما.
أما الظرفُ فكانَ بثّ المسرحية في التاسعة والنصف مساءً، في أول خميسٍ من الشَهر، أي قبلَ حفلةِ أمِّ كلثوم مباشرة.
لهذا سُمِعت المسرحية بوعيٍ جماعيٍ، عَكَسَ تأثيره في أروقةِ السلطة الناصرية. وأما العقابُ فكانَ اعتقال، تدخّل فيه صلاح سالم، ليحوله إلى فصلٍ من الوظيفة، ونتذكر هنا أنَّ صلاح سالم فُصِل من وظيفته بعد خلافِه الشهير مع عبد الناصر.
ماذا لو لم تُعرض المسرحية قبلَ حفلة أم كلثوم؟ وما قيمة النص حينئذ؟ هل كان أحمد عباس يغتال نصَّه بالقارئِ الاجتماعي/السياسي، حين تمنى ألا يُسمع؟.
تلك بعض أسئلة الفرد، وهو يواجه فعل القارئ بإبداعه، فهل تكمن أهمية أمنية أحمد عباس، بكونها تريد التخلص من القارئ الراصد المرصود؟.. ومعنى الراصد هنا يأخذ اتجاهين يتقاطعان، الأول الرصد بمعنى المراقبة، كأن يُقال: «رصد الأسدُ فريستَه»، ومع وعي الإنسان سيضاف للمراقبة معاقبة، والآخر الرصد بمعنى السجل الخاصّ بالشيء المُركَّز عليه، ومنه رصيد المال، ومعنى كونه مرصودا، أي أنَّ فعلَ الرصدِ لم يكن ذاتيًا فرديًا حرًا، بل وعيًا جماعيًا يُسيطِر على الفعل، ومن ثم ردة الفعل، حيث لنا أن نسأل: هل فُصِلَ عباس من وظيفته بسببٍ مباشرٍ من قيادة الضباط الأحرار، حيث يمكن أن يكونوا بجوار الراديو، لانتظار حفلة أم كلثوم، لكن ما الذي سيُغضِب عبد الناصر وزملاؤه الضباط، مما فعله الإنجليز بالهنود؟ ألم يكن الانقلاب يَدّعي محاولة التحرر من فعل الإنجليز بمصر؟
هنا يأتي تبرير بأنَّ هذه المرحلة هي المرحلة الأولى لعبد الناصر، ولم يتحوّل بعدُ إلى اليسار. ولو استُخدم المنطق دونَ الواقع لكان الأولى أن يدعم المسرحية، لكنَّه الواقع الذي يفرض منطقه غير المؤطر بنظرية شمولية.
وهنا يتجلى سؤالُ القارئ، وعلاقته بكونه كاتبًا لئيما، يحدّ من تحرر القادر حتى يكون عاجزًا عن الكتابةِ، إلا بحدود الظرفِ الاجتماعيّ والسياسي. أم هل فُصِلَ عباس بسببٍ غير مباشر، وذلك بعد تداول الشعب لمفرداتِ المسرحية، حيث قد سمعوها كُلهم، لا لأهميتها في ذاتها، بل لأنّها سبقت حفلة أم كلثوم، ومن ثمّ أصبحت السلطةُ قَلِقَة من انتشارها، وهنا يكون سماع الشعب للمسرحية مرغوبا وغير مرغوب، وذلك هو تناقض الكتابة والكاتب، الذي يُصارع فيه فكرُه قلمَه.
وينتج عن هذا سؤال: هل كان خوف عباس قبلَ كتابةِ المسرحيةِ أم بعدها؟ فإن كانَ قبلها، فما الذي يدعوه لكتابتها كما هي؟ وإن كان بعدها، فما الذي أنساه الظرف السياسي الذي تعيشه مصر؟.
أحمد عباس كان يساريًا اشتراكيا آنذاك، وقد كتبَ مسرحيتَه بوحي من الأفكار الاشتراكية، فلماذا يخاف يساريٌّ اشتراكيٌّ من انتشارِ مَا ينشُره؟
يظهر لنا أنَّ التوقيتَ السييء فاجأ عباس، وكأنَّه يصنع تكتيكًا يساريًا، لنشرِ المسرحية لكنّه لم يُوفّق. هنا يأتي القارئ بوصفه توقيتًا سيئًا- التوقيت السييء الذي كان عنصرًا مخفيًا في الخوفِ من الكتابةِ - أي أنَّ ثمةَ قارئًا كامنًا في ذهن الكاتب، لكنّ السؤالَ حول معاني هذا القارئ، هل هو قارئ تضج به الحياة كما هي في واقعها الاجتماعي والسياسي؟
وسيكون الإشكال -حينها- في تصور أحمد عباس لواقع الحال وتشظيه، ومن ثم جاءت الفجوة، التي جعلته يتفاجأ بتوقيت إذاعة المسرحية، وسيكون الخوف من التوقيت السييء حادًّا من إبداعيّة الكتابة، وجعلها صورةً لما يريده الوعي الجمعي. أم هو قارئٌ نموذجيُّ في ذهنِ الكاتب؟
ومن ثمّ يكون التوقيت السييء محوّلا هذا النموذجي إلى واقعي، يتجاوز النظرية الماركسية إلى واقعِ الحال بالفعل الدقيق، ولعلَّ جلال أمين - الذي كتب حكاية أحمد عباس - في تخليه عن الماركسية، مرتبط بهذه الإشكالات التي ينسى - ولا أقول يهمل - فيها الإيديولوجي اليساري عناصر واقعية متشظية، كأثر الزمن الدقيق في تفصيلاته، وتنوّع الاستجابة البشرية، وتداخل العوامل المؤثرة في مجريات الحياة.. وغيرها؛ وخصوصا حين نقرأ قولَه: «كانت هذه هي بداية إعجابي بالماركسية، وتقديري لأهميتها، وهو إعجاب وتقدير ما زالا معي إلى حد كبير حتى اليوم، على الرغم من أني مع مرور الوقت، وصلت إلى إدراك عيوب وأخطاء كثيرة فيها، مما لا يمكن معه أن أصف نفسي اليوم بأني ماركسي».
وعودا على موضوعنا، فإذا كان القارئ أتى بوصفه توقيتًا سيئًا، فإنَّ التوقيتَ السييء -بدوره- يأتي بوصفه صانع مضمونٍ للنص، ليفضح ويعري ويكشف أنَّ الإبداع النصّي، تساوى مع المنشورات الإيديولوجية، بحيث إنها لم تكن مقصودة لذاتها، بل لزمنها وظرفها، وحاجتها الوظيفية الآنية.
لهذا فإنَّ فعل الكتابة عند أحمد عباس، وصورة المجتمع في ذهنه اليساري، مع تصور مفهوم التوقيت السييء، المرتبط بنموذجٍ عالٍ في الجماهير العربية كأم كلثوم، جعلتنا نتصور تصورا مقابلا حول قارئ لئيم، تمثل في كل تشكلات العقوبة، التي وقعت على عباس؛ إذ نلحظ أنَّ العقوبةَ هي اعتقال، لكنَّها تحولت إلى فصلٍ وظيفي، وتُظهِر الروايةُ أنَّ العقوبةَ كانت متدرجة، إما بإخفاء الكاتب من الحياة «سجنه» أو تعطيله منها بنزع الوظيفة عنه، وكأنَّ الوظيفة هنا تعادل الحياة نفسها، وهذا معنى لقارئٍ لئيم، عقد الصلة بين مجتمع العمل في واقعه السياسي، والحياة نفسها، ومن ثمَّ أصبحَ الكاتبُ يكتب، إرضاء لمفهوم الوظيفة المعنوية والمادية، التي يصنعها مكوّن ....... ما.