تركي الربيعو

ترى شيري أوتر خبيرة الإناسة وعضو معهد الدراسات في برنستون «أن الكثير من الإبداع في الإناسة والأنتربولوجيا» يستمد من التوتر الموجود بين مجموعتين من المطالب. تفسير العموميات الشاملة وتفسير الخصوصيات الثقافية.

موضوع القرابين البشرية الذي نعالجة يحظى بالعاملين معاً، الشمولي والخاص، فظاهرة القرابين البشرية عميقة الجذور في تاريخ البشرية بشكل عام، ولكنها تبقى مطبوعة أيضاً بالخاص الذي يميزها بالرغم من تماثله مع العام من حيث التأثر والتأثير. تشير الأبحاث الأركيولوجية في هذا المجال، إلى وجود هذه الظاهرة من الصين شرقاً إلى حضارة الأزتك غرباً، مروراً بوادي الرافدين ومصر. ففی اور - بلاد ما بين النهرين - كشف الآثاري ليوناردو وولي سنة 1927 عن وجود ستين قبراً ملكياً يعود تاريخها إلى /2800/ ق.م. تضم ستاً من ضحايا القرابين البشرية. كذلك يخبرنا الآثاري الألماني أنطوان مورتكارت الذي عمل في بعثة للتنقيب في جنوب العراق بأنه قد عثرنا في المقبرة المسماة «لا» في مدينة كيش والتي تعود إلى عصر ملوك سلالة أور الأولى على قبور تحوي إلى جانب الدفين الرئيسي العديد من الأتباع، أي دفن الأمير وأتباعه الذين دخلوا القبور طوعاً. وفي مدفن الملك شو باد لم نعثر على جثة الأمير المدفون، لكن تم العثور على جميع الأتباع الدفناء وعددهم /63/ رجلاً وامرأة سالمين في الفراغ حوالي المدفن أو في الممر الداخلي، مع ما زُوّدوا به من هدايا ثمينة، ومورتكارت يعزو عدم وجود جثة الأمير إلى الاعتقاد الديني الذي كان سائداً، والذي يجد جوهره في عالم الاعتقاد بـ « أنانا» الإلهة وتموزالملك، حيث من واجبات الملك حماية رعاياه، لذلك فقد فتح قبر الملك عمداً وأخرجت جثته ليتمكن من النهوض والعودة وأتباعه إلى عالم الحياة من جديد.

كذلك فقد بيّن ماسبيرو Maspero الخبير الفرنسي بالآثار المصرية، أن المصريين القدماء كانوا يدفنون عبيدهم معهم ثم استبدل هؤلاء العبيد مؤخراً بدمى تدعى الشابين حلت محلهم. وتشير دراسات آثارية حديثة إلى أن الكثير من حكام مصر القدماء، كانوا يقدمون أنفسهم قرباناً للألهة، وذلك بقتل أنفسهم معتقدين أنهم يؤدون عملاً دينياً عظيماً يتقربون به إلى معبودهم.

وفي الصين شرقاً تم الكشف في مدينة وواكوانغ التي تقع على بعد /322/ كلم من بكين عن مقابر ملكية كان الملك مدفوناً فيها على مستوى دون مستوى أتباعه الذين دفنوا بكامل أسلحتهم وعدتهم في غرف تجمعت حول القبر الرئيسي. الشواهد الآثارية تشير إلى أن القرابين البشرية كانت تمارس في أمريكا الوسطى منذ العام / 5000/ ق.م.، ففي وادي توهوا كان الذي يقع على بعد /193/ كلم إلى الجنوب الشرقي لمدينة المكسيك، توجد دلائل تثبت وجود القرابين البشرية منذ القدم، وتتمثل في هياكل عظمية ملفوفة بالشباك، وبقايا أطفال محترقة حسب طقوس معينة ورؤوس مقطوعة ووريت بالتراب».

وقد استمرت هذه الظاهرة حتى أواسط القرن السادس عشر عند شعوب الأزتك أي حتى عهد الاكتشافات الجغرافية على يد الإسبان. وينقل إلينا ابن فضلان المؤرخ البغدادي ورسول الخليفة العباسي المقتدر بالله / 908 - 932/ م في رحلته إلى بلغار الفولجا، عبر بلاد الخزر الحادثة التالية الغريبة: «عندما يكتشفون أن رجلاً ما يتميز بحدة الذكاء والإدراك فإنهم يقولون إنه من الأفضل لهذا الرجل أن يكون في خدمة آلهتنا ثم يقبضون عليه ويحيطون عنقه بحبل ويشنقونه على شجرة حيث يترك حتى يتفسخ»، ويعلق المؤرخ التركي زكي قاليداي على رواية ابن فضلان بقوله: وإن ابن فضلان لم يصف القتل العادي للأفراد الأكفاء، بل وصف إحدى عاداتهم الوثنية، وهي التضحية بالإنسان والتي يقدم بموجبها أكثر الرجال تفوقاً كقربان إلى الرب.

وتفيد الروايات المتأخرة التي نقلها الإصطخري الفرنسي والأناس سان جوليان /1864/ م أن الضحية كان الملك بعينه بعد قضاء فترة في الحلم. وقد ربط السير جيمس فريزر Frazer والأناس الاسكتلندي الشهير بين تأليه الملوك والحتمية المقدسة لقتلهم بعد فترة محدودة، عندما توشك حيويته على النفاذ، وذلك حتى يتسنى للطاقة المقدسة أن تتجسد فيمن هو أكثر منه شباباً وقوة.

وعند الألبانيين نجد ظاهرة القرابين البشرية حيث ينقل إلينا السير فريزر في غصنه الذهبي The Golden Bough وفي المجلد الرابع منه ما يلي: كان معبد القمر عند الألبانيين له أوقاف شاسعة يسكنها المقدسون ويحكم المعبد كاهن أكبر له المنزلة الثانية عند الألبانيين بعد الملك، وكانت الروح المقدسة تحل في كثير من هؤلاء الرجال المقدسين فينبأون . فإذا دام أحدهم في هذه الحالة من الفورة الإلهية وراح يطوف لوحده في الغابات أمر الكاهن بأخذه وربطه بسلسلة مقدسة ويحفظ كذلك في راحةٍ وترف سنة كاملة. وبعد ذلك يقاد المسكين ويمسح بالزيوت ويقدم ضحية مع آخرين غيره للقمر. وكانت طريقة التضحية أن يمسك رجل بحربة مقدسة ويطعن بها الضحية إلى أن تبلغ قلبه، فإذا ترنح وسقط أرضاً راقبه الناس عن كثب واستخلصوا من كيفية سقوطه الآيات وعلامات المستقبل، ثم يجر جسده أو يحمل إلى مكان ما، وهناك يطأ عليه أصحابه بأقدامهم تظهراً.

1988*

*باحث و كاتب سوري «1951 - 2007».