لنبدأ بمقتطف من لقاء عام 2019 مع سعيد حجاري (إصلاحي إيراني وهو من مؤسسي وزارة الاستخبارات الإيرانية) عندما انتقد طريقة الحكومة آنذاك في محاولة توحيد البلاد بالاعتماد على القوة القهرية فقط، محذراً من أن ذلك يؤدي إلى «بلقنة» البلاد، قال حجاريان «قد يكون من الممكن الحفاظ على وحدة التراب بالقوة، لكن قوة أو ضعف البلد تتعلق بعامل التماسك الاجتماعي، كانت البلقان موحدة، ولكنها غير مترابطة، وبمجرد دخول عامل القوة، حدثت عملية البلقنة» وأضاف «على النقيض فإن الهند بلد يضم عديدا من الأديان واللغات إلى درجة أن هناك من لا يعلم شيئاً عن لغة الآخرين ودينهم، ولكن من خلال الديمقراطية هناك تماسك اجتماعي قوي» انتهى نقلاً عن تقرير (صالح حميد بموقع العربية 12 نوفمبر 2019).
ونظراً لأن ما طرح في الشأن الإيراني- ما قرأته على الأقل- كان يتجاهل التراكم التاريخي لنمو حركة إصلاحية داخل (النخبة السياسية الإيرانية نفسها) ظهرت كلون فاقع في ما سمي الحركة الخضراء بعد انتخابات 2009 الذي يعتبر سعيد حجاري من منظريها.
كل ما قرأته من تحليلات اعتبر الحاصل في الشارع الإيراني حركة بريئة لا تنتمي حتى (لمجاهدي خلق) وهذا صحيح، ولكن وصفها بالبراءة لعدم انتمائها لأجندات خارجية معارضة، لا يعني سلامتها من انتماءات داخلية تستمد زخمها من توجهات داخل النخبة السياسية الإيرانية نفسها تراكم انقسامها الداخلي بلون فاقع فيما سمي الحركة الخضراء بعد انتخابات 2009 وزاد هذا الانقسام خلال الفترة الحالية ما يشبه (الفراغ السياسي) بمرض المرشد الأعلى الذي لم يحسم بين المتصارعين السياسيين داخل مؤسسة الحكم في إيران.
لماذا أقول هذا الرأي؟ لأن الربيع العربي الذي مر على كثير من الدول العربية تم تفكيكه وقراءته من جميع الجوانب تقريباً باستثناء جانب واحد (الصراع داخل نظام الحكم/التفسخ السياسي) ولنبدأ من تونس الذي مارس فيه الجيش الحياد الإيجابي، بل وقامت بعض النخبة المحيطة بالرئيس بن علي بممارسة (الإرجاف السياسي) على الرئيس نفسه ليتخذ قرار الهروب، أما مصر فالأمر كان واضحاً في مسيرة سياسية اختارها مبارك ضد مؤسسة الجيش باتجاه التوريث بشكل لم يجرؤ عليه لا عبدالناصر بكل كاريزماه القومية، ولا السادات بكل شجاعته الوطنية، مما انعكس على مؤسسة الجيش لتقف موقف الحياد من رئيس الدولة (الجملوكي) وبلغت ذروته في اصطفاف الجيش مع الشارع المصري مرتين، المرة الأولى ضد حسني وحاشيته، والمرة الثانية ضد مرسي وحزبه (الجمهوإخواني) مما أعاد الجيش للواجهة السياسية من جديد مستعيداً تقاليده الداخلية كضامن لسلامة واستقرار مصر، مع إمكانية سير الجيش المصري في المستقبل المنظور إلى اعتماد التقاليد الموجودة في الجيش التركي مع بعض الاختلاف المتناسب والتجربة المصرية العتيقة أيضاً.
قبل الربيع العربي ظهر تفسخ العسكريتاريا العربية في العراق من خلال صدام واحتمالية توريث عدي وقصي (جملوكية العراق) وفي اليمن ظهرت (جملوكية اليمن) علي صالح باتجاه ابنه أحمد، وفي ليبيا كان هناك (جملوكية) ظهر فيها صراع (الأجيال) ما بين الأب (معمر القذافي) وابنه (سيف الإسلام) وفي سوريا ظهر جلياً حسم الأمور لصالح (جملوكية) كادت تكون متفسخة وتنهار كأخواتها لولا ما رأته (النخبة المختلفة داخليا) من نتائج دول الجوار التي تشردت فيها (فتماسكت النخبة السورية بلحام المصلحة المصيرية) ولهذا فإن أحد أوجه الاتفاق في (دمشق) هو اتفاق النخبة على عدم التفكك رغم وجود جميع عوامل تفككها لكن سوء المصير الذي رأته في دول الربيع العربي جعلها تتكاتف على مضض خوفاً من سوء المنقلب، وهذه من الأسباب الداخلية للتماسك السوري إضافة إلى العامل الخارجي الحاسم من قبل توافقات الدول العظمى الذي لن يدوم.
ما أريد قوله هنا: إن القفز على إشكاليات (الخلاف داخل مؤسسة الحكم) يعتبر قفزا على عامل جوهري وليس ثانويا في قراءة ما يحصل منذ 2003 في الشرق الأوسط، الذي ظهر جلياً في (التفسخ السياسي) لتقاليد الأنظمة في كل الدول التي أنهكها الربيع العربي، (أنظمتها جمهورية ديمقراطية ولم تمارس الحد الأدنى في ذلك وهو بقاء الطابع الحزبي العسكريتاري في تداول السلطة، فعبدالناصر ليس من أقارب السادات، بل جمعتهما مبادئ الثورة التي قاموا بها حتى ولو اختلفوا في تفسيرها، ولم يجرؤ أحد منهما كما فعل حسني أن يتجاوز خطوطها العريضة بإنقلاب يصل إلى احتمال توريث الابن في نظام جمهوري).
وبقول آخر: ما نراه في إيران ليس حركة شعبية بريئة بقدر ما هي انعكاس لخلاف داخل (مؤسسة الحكم في إيران ما بين إصلاحيين ومحافظين) بقيت إلماحة سريعة لأبجديات علم الاجتماع السياسي منذ أحداث مايو 1968 بفرنسا وأثر الشباب فيها، إذ إن قرابة 50% من الشعب الإيراني دون الثلاثين ويتم حكمهم بمفاهيم محافظة تناسب الأقلية من كبار السن (الكهول)، وفي هذا ارتطام مع حقيقة المزاج الشعبي العام، مما يخلق رغبة طبيعية لدى الغالبية الشابة للخروج من شرنقة التقاليد الخمينية التي لم تتغير طيلة نصف قرن بقدر ما تم مأسستها وشد صواميلها أكثر، لتخرج- بدعم الإصلاحيين غير المباشر- فراشة الحرية الفارسية وسط عالم افتراضي طبيعته ديمقراطية لتجد مثلاً في تويتر حساب ترمب وتجد التعليقات الساخرة التي لا يسع الرئيس الأمريكي إلا قبولها بصدر رحب، بل ويصل الأمر لإغلاق حسابه، ولا يسع المرشد الأعلى للثورة في وسائل التواصل إلا أن يعيش تحت هذه التقاليد الديمقراطية افتراضياً لكن انعكاسها على الواقع لا يمكن تجاهله فقد تم تجميد حسابه مثلاً عندما هدد بالانتقام الصعب لقتلة قاسم سليماني في زمن مضى، وها نحن نرى الحاضر ونرجو للشعب الإيراني كل ما يرجوه في راياته المرفوعة (المرأة، الحياة، الحرية) ليساعدوا دولتهم في الانتقال من (شقاء سيزيف) في (حياة الثورة) إلى (حياة النهضة والازدهار) لتنعكس عليها (تعاون وتنمية وسلام) مع دول المنطقة والعالم.
ونظراً لأن ما طرح في الشأن الإيراني- ما قرأته على الأقل- كان يتجاهل التراكم التاريخي لنمو حركة إصلاحية داخل (النخبة السياسية الإيرانية نفسها) ظهرت كلون فاقع في ما سمي الحركة الخضراء بعد انتخابات 2009 الذي يعتبر سعيد حجاري من منظريها.
كل ما قرأته من تحليلات اعتبر الحاصل في الشارع الإيراني حركة بريئة لا تنتمي حتى (لمجاهدي خلق) وهذا صحيح، ولكن وصفها بالبراءة لعدم انتمائها لأجندات خارجية معارضة، لا يعني سلامتها من انتماءات داخلية تستمد زخمها من توجهات داخل النخبة السياسية الإيرانية نفسها تراكم انقسامها الداخلي بلون فاقع فيما سمي الحركة الخضراء بعد انتخابات 2009 وزاد هذا الانقسام خلال الفترة الحالية ما يشبه (الفراغ السياسي) بمرض المرشد الأعلى الذي لم يحسم بين المتصارعين السياسيين داخل مؤسسة الحكم في إيران.
لماذا أقول هذا الرأي؟ لأن الربيع العربي الذي مر على كثير من الدول العربية تم تفكيكه وقراءته من جميع الجوانب تقريباً باستثناء جانب واحد (الصراع داخل نظام الحكم/التفسخ السياسي) ولنبدأ من تونس الذي مارس فيه الجيش الحياد الإيجابي، بل وقامت بعض النخبة المحيطة بالرئيس بن علي بممارسة (الإرجاف السياسي) على الرئيس نفسه ليتخذ قرار الهروب، أما مصر فالأمر كان واضحاً في مسيرة سياسية اختارها مبارك ضد مؤسسة الجيش باتجاه التوريث بشكل لم يجرؤ عليه لا عبدالناصر بكل كاريزماه القومية، ولا السادات بكل شجاعته الوطنية، مما انعكس على مؤسسة الجيش لتقف موقف الحياد من رئيس الدولة (الجملوكي) وبلغت ذروته في اصطفاف الجيش مع الشارع المصري مرتين، المرة الأولى ضد حسني وحاشيته، والمرة الثانية ضد مرسي وحزبه (الجمهوإخواني) مما أعاد الجيش للواجهة السياسية من جديد مستعيداً تقاليده الداخلية كضامن لسلامة واستقرار مصر، مع إمكانية سير الجيش المصري في المستقبل المنظور إلى اعتماد التقاليد الموجودة في الجيش التركي مع بعض الاختلاف المتناسب والتجربة المصرية العتيقة أيضاً.
قبل الربيع العربي ظهر تفسخ العسكريتاريا العربية في العراق من خلال صدام واحتمالية توريث عدي وقصي (جملوكية العراق) وفي اليمن ظهرت (جملوكية اليمن) علي صالح باتجاه ابنه أحمد، وفي ليبيا كان هناك (جملوكية) ظهر فيها صراع (الأجيال) ما بين الأب (معمر القذافي) وابنه (سيف الإسلام) وفي سوريا ظهر جلياً حسم الأمور لصالح (جملوكية) كادت تكون متفسخة وتنهار كأخواتها لولا ما رأته (النخبة المختلفة داخليا) من نتائج دول الجوار التي تشردت فيها (فتماسكت النخبة السورية بلحام المصلحة المصيرية) ولهذا فإن أحد أوجه الاتفاق في (دمشق) هو اتفاق النخبة على عدم التفكك رغم وجود جميع عوامل تفككها لكن سوء المصير الذي رأته في دول الربيع العربي جعلها تتكاتف على مضض خوفاً من سوء المنقلب، وهذه من الأسباب الداخلية للتماسك السوري إضافة إلى العامل الخارجي الحاسم من قبل توافقات الدول العظمى الذي لن يدوم.
ما أريد قوله هنا: إن القفز على إشكاليات (الخلاف داخل مؤسسة الحكم) يعتبر قفزا على عامل جوهري وليس ثانويا في قراءة ما يحصل منذ 2003 في الشرق الأوسط، الذي ظهر جلياً في (التفسخ السياسي) لتقاليد الأنظمة في كل الدول التي أنهكها الربيع العربي، (أنظمتها جمهورية ديمقراطية ولم تمارس الحد الأدنى في ذلك وهو بقاء الطابع الحزبي العسكريتاري في تداول السلطة، فعبدالناصر ليس من أقارب السادات، بل جمعتهما مبادئ الثورة التي قاموا بها حتى ولو اختلفوا في تفسيرها، ولم يجرؤ أحد منهما كما فعل حسني أن يتجاوز خطوطها العريضة بإنقلاب يصل إلى احتمال توريث الابن في نظام جمهوري).
وبقول آخر: ما نراه في إيران ليس حركة شعبية بريئة بقدر ما هي انعكاس لخلاف داخل (مؤسسة الحكم في إيران ما بين إصلاحيين ومحافظين) بقيت إلماحة سريعة لأبجديات علم الاجتماع السياسي منذ أحداث مايو 1968 بفرنسا وأثر الشباب فيها، إذ إن قرابة 50% من الشعب الإيراني دون الثلاثين ويتم حكمهم بمفاهيم محافظة تناسب الأقلية من كبار السن (الكهول)، وفي هذا ارتطام مع حقيقة المزاج الشعبي العام، مما يخلق رغبة طبيعية لدى الغالبية الشابة للخروج من شرنقة التقاليد الخمينية التي لم تتغير طيلة نصف قرن بقدر ما تم مأسستها وشد صواميلها أكثر، لتخرج- بدعم الإصلاحيين غير المباشر- فراشة الحرية الفارسية وسط عالم افتراضي طبيعته ديمقراطية لتجد مثلاً في تويتر حساب ترمب وتجد التعليقات الساخرة التي لا يسع الرئيس الأمريكي إلا قبولها بصدر رحب، بل ويصل الأمر لإغلاق حسابه، ولا يسع المرشد الأعلى للثورة في وسائل التواصل إلا أن يعيش تحت هذه التقاليد الديمقراطية افتراضياً لكن انعكاسها على الواقع لا يمكن تجاهله فقد تم تجميد حسابه مثلاً عندما هدد بالانتقام الصعب لقتلة قاسم سليماني في زمن مضى، وها نحن نرى الحاضر ونرجو للشعب الإيراني كل ما يرجوه في راياته المرفوعة (المرأة، الحياة، الحرية) ليساعدوا دولتهم في الانتقال من (شقاء سيزيف) في (حياة الثورة) إلى (حياة النهضة والازدهار) لتنعكس عليها (تعاون وتنمية وسلام) مع دول المنطقة والعالم.