كان لا يبخل بمعونته على أصحابه وزملائه، يصلح للشعراء المغمورين قصائدهم ويذكرهم بالخير عند ذوي الوجاهة والنعمة
كان ابن الرومي هجاء مقذعا في الهجاء، وكان لأهاجيه أثر كبير في حياته وفي شهرته، ومن هذا الأثر ما أشار إليه الأديب كامل أفندي كيلاني في مقتطف هذا الشهر، وعزا إليه سكوت أبي الفرج الأصفهاني عن الترجمة لابن الرومي مع من ترجم لهم من الشعراء والأدباء الذين لا يبلغون في الشعر مبلغه؛ ولا في ثقافة العصر علمه. فقد سكت أبو الفرج عن هذا الشاعر اتقاء لمن هجاهم وأقذع في هجائهم من سروات زمانه وأولهم أستاذ أبي الفرج، ولعـــله سكت لأسباب أخرى سنلم بها في مكانها من تاريخ الشاعر الذي نعنى بدرسه، وبعض هذه الأسباب أن صاحب الأغاني لم يكن مستطيعا أن يقدر ابن الرومي حق قدره وأنه كان أمويا، وكان ابن الرومي شديد الكراهية للأمويين.
والواقع أن ابن الرومي لم يدع أحداً من النابهين في زمانه إلا هجاه أو أنذر بهجائه. والغريب في أمره أننا أخذنا نحصي أسماء من مدحهم وأطنب في مدحهم ثم أخذنا نحصي أسماء من هجاهم وأغلظ لهم الهجاء، فإذا الممدوحون هم المذمومون أو المتوعدون بالذم إلا واحداً أو اثنين، وإذا أبطال الرواية المحببون هم أشرارها المبغضون المثلوبون، لا يكاد يفصل المدح عن القدح فاصل أو يكاد يكون المدح والقدح متواليين في صفحات الديوان لأن الديوان مرتب على حسب الحروف لا على التواريخ والموضوعات.
هل كان ابن الرومي شريراً لأنه كان كثير الهجاء؟ لا، ولا شبهة من الريب في ذلك عندنا. بل هو لو كان شريراً لما اضطر إلى كل هذا الهجاء، أو لو كان أكبر شراً لكان أقل هجاء لأبناء عصره. فما كان الهجاء عنده إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشف عن الكيد والنكاية وما شابه ذلك من ضروب الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتقائه. وكثير من الأشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان، وكثير من الناس يذمون ويتسخطون. وهم مطبوعون على الخير والعطف وحسن المودة، بل هم قد يذمون ويتسخطون، لأنهم على ذلك مطبوعون.
إذا قرأت مراثي ابن الرومي في أولاده وأمه وأخيه وزوجته وخالته وبعض أصدقائه علمت منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم، والأنس بالأصدقاء والإخوان، وأنها هي التي تدل عليه حق الدلالة المنصفة، وليست مدائحه التي كان يمليها عليه الطمع أو الرغبة، أو أهاجيه التي كان يمليها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس. ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل التي لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار والأخ الشفيق والوالد الرحيم والزوج الودود والقريب الرؤوم والصديق المحزون. ولن يكون الرجل كذلك ثم يكون بعد ذلك شريراً مغلق الفؤاد مطبوعاً على الكيد والإيذاء.
ومن الأخبار القليلة التي وصلت إلينا عن حياة ابن الرومي نعرف أن الرجل كان لا يبخل بمعونته التي يستطيعها على أصحابه وزملائه، فكان يصلح للشعراء المغمورين قصائدهم ويذكرهم بالخير عند ذوي الوجاهة والنعمة، وإن كانوا هم لا يذكرون له رفده ولا يرعون عهده، وكان يصنع القصائد لبعض الأدباء عسى أن يصيبوا بها عنها ويصلوا بها إلى مجالسة العلية والأغنياء فيمدوهم بالحباء أو يولوهم بعض أعمال الدولة.
1928*
*كاتب مصري «1889 - 1964»
كان ابن الرومي هجاء مقذعا في الهجاء، وكان لأهاجيه أثر كبير في حياته وفي شهرته، ومن هذا الأثر ما أشار إليه الأديب كامل أفندي كيلاني في مقتطف هذا الشهر، وعزا إليه سكوت أبي الفرج الأصفهاني عن الترجمة لابن الرومي مع من ترجم لهم من الشعراء والأدباء الذين لا يبلغون في الشعر مبلغه؛ ولا في ثقافة العصر علمه. فقد سكت أبو الفرج عن هذا الشاعر اتقاء لمن هجاهم وأقذع في هجائهم من سروات زمانه وأولهم أستاذ أبي الفرج، ولعـــله سكت لأسباب أخرى سنلم بها في مكانها من تاريخ الشاعر الذي نعنى بدرسه، وبعض هذه الأسباب أن صاحب الأغاني لم يكن مستطيعا أن يقدر ابن الرومي حق قدره وأنه كان أمويا، وكان ابن الرومي شديد الكراهية للأمويين.
والواقع أن ابن الرومي لم يدع أحداً من النابهين في زمانه إلا هجاه أو أنذر بهجائه. والغريب في أمره أننا أخذنا نحصي أسماء من مدحهم وأطنب في مدحهم ثم أخذنا نحصي أسماء من هجاهم وأغلظ لهم الهجاء، فإذا الممدوحون هم المذمومون أو المتوعدون بالذم إلا واحداً أو اثنين، وإذا أبطال الرواية المحببون هم أشرارها المبغضون المثلوبون، لا يكاد يفصل المدح عن القدح فاصل أو يكاد يكون المدح والقدح متواليين في صفحات الديوان لأن الديوان مرتب على حسب الحروف لا على التواريخ والموضوعات.
هل كان ابن الرومي شريراً لأنه كان كثير الهجاء؟ لا، ولا شبهة من الريب في ذلك عندنا. بل هو لو كان شريراً لما اضطر إلى كل هذا الهجاء، أو لو كان أكبر شراً لكان أقل هجاء لأبناء عصره. فما كان الهجاء عنده إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشف عن الكيد والنكاية وما شابه ذلك من ضروب الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتقائه. وكثير من الأشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان، وكثير من الناس يذمون ويتسخطون. وهم مطبوعون على الخير والعطف وحسن المودة، بل هم قد يذمون ويتسخطون، لأنهم على ذلك مطبوعون.
إذا قرأت مراثي ابن الرومي في أولاده وأمه وأخيه وزوجته وخالته وبعض أصدقائه علمت منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم، والأنس بالأصدقاء والإخوان، وأنها هي التي تدل عليه حق الدلالة المنصفة، وليست مدائحه التي كان يمليها عليه الطمع أو الرغبة، أو أهاجيه التي كان يمليها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس. ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل التي لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار والأخ الشفيق والوالد الرحيم والزوج الودود والقريب الرؤوم والصديق المحزون. ولن يكون الرجل كذلك ثم يكون بعد ذلك شريراً مغلق الفؤاد مطبوعاً على الكيد والإيذاء.
ومن الأخبار القليلة التي وصلت إلينا عن حياة ابن الرومي نعرف أن الرجل كان لا يبخل بمعونته التي يستطيعها على أصحابه وزملائه، فكان يصلح للشعراء المغمورين قصائدهم ويذكرهم بالخير عند ذوي الوجاهة والنعمة، وإن كانوا هم لا يذكرون له رفده ولا يرعون عهده، وكان يصنع القصائد لبعض الأدباء عسى أن يصيبوا بها عنها ويصلوا بها إلى مجالسة العلية والأغنياء فيمدوهم بالحباء أو يولوهم بعض أعمال الدولة.
1928*
*كاتب مصري «1889 - 1964»