تقع على السلفيين وحدهم مسؤوليةٌ أعظم من سواهم في تمثيل الإسلام في وحدته وفي مبادئه وفي أخلاقه وفي حضارته، وذلك لأن الأصل الذي ينطلقون منه هو أَخْذُ الدين عن مَصدَرَيْه الأصليين الكتابِ والسنةِ، بفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين، بينما لم يكن غيرهم يَدَّعِي ذلك، فالمعتزلةُ ينتسبون لواصل بن عطاء، والأشاعرة لأبي الحسن الأشعري، والماتريدية لأبي منصور الماتريدي، وأصحاب الطرق من المتصوفة كل ينتسب إلى مؤسس طريقته.
ولا شك أن منهج السلف واحد، شرحه الشافعي في كتابه العظيم الرسالة، التي لم يختلف على قبولها جُمْلَةً وتفصيلًا أي من علماء عصره الذين هم رموز السلفية من أتباع كبار أئمة الإسلام الذين كان أحمد بن حنبل آخرهم وفاةً، ولذلك نُسِبت السلفية إليه في بادئ عصر علو أهل البدع، فكان يقال عنها الحنبلية مع أنها تضم من مقلدي جميع المذاهب الفقهية، وهي سلفية لا تختلف أبدًا في فهمها للدين عن سلفية عصري الإحياء السلفي اللذين قاد الأولَ منهما تقي الدين ابن تيمية وقاد الآخر محمد بن عبدالوهاب، فلا فرق إجمالي أو تفصيلي بين السلفية في عصورها الثلاثة، لكن منتقديها يجبنون عن انتقاد الإمام أحمد لإجماع الأمة على جلالته فيزعمون الفرق بين سلفيته وسلفية العصرين الآخرين، ومنهم من يجبن أيضا عن نقد ابن تيمية فيزعم الفرق بين سلفيته وسلفية الإحياء الأخير.
والحق أن لا اختلاف بينها سوى في طبيعة عصر كل واحد من الرواد أدى إلى وجود اختلاف في طبيعة النشاط وحسب، فعصر الإمام أحمد كان عصر عز للدين وعصر ظهور كبير للسنة وضعف البدعة واستقرار سياسي في الإجمال في جميع أرجاء العالم الإسلامي، وعصر ابن تيمية عصر ضعف للسنة وعلو للبدعة، واجتياح مغولي لشرق العالم الإسلامي، ودولة قائمة تجمع مصر والشام حيث يعيش ابن تيمية، أما عصر ابن عبدالوهاب فعصر جهل مطبق بالدين وعدم استقرار سياسي في نجد محل دعوة الشيخ، ورواج للشركيات باسم الدين وانحدار سياسي في سائر العالم الإسلامي.
فأي اختلاف مزعوم بين السلفية في تلك العصور إنما هو نتاج عدم فهم لعظمة هذا المنهج الذي نجح في عملية الإصلاح الديني بمبادئ واحدة في عصور مختلفة في كل شيء، واستطاع في كل ظهور له أن تكون له الغلبة، وأنه لا يتراجع إلا بما يمارس عليه من القمع السياسي والعسكري، ومع ذلك تبقى جذوته مع كل نجاح لخصومه في قمعه تنتظر وقتها المناسب للعودة والانتشار من جديد، وهي سِمة الإسلام الصحيح الخالي من الشوائب.
ولا شك أن الإسلام يترك سقفًا جيدًا للاختلاف في الرأي في مسائل الدين، وذلك وفق القواعد التي وضعها علماء الأصول المتقدمون لفهم النصوص [قبل دخول علم الكلام في هذا الفن] ووفق القواعد التي وضعها علماء الحديث لقبول الحديث ورده، وهي القواعد التي يعبر عنها السلفيون بمنهج السلف في فهم النصوص وأي مخالفة غير منضبطة بهذه القواعد تعتبر خروجًا عن المنهج السلفي، فإدخال العقل في عالم الغيب وتأويل النصوص لأجله، وصرف الناس عن حقيقته إلى المجاز دون قرينة، وإنكار بعض مصادر التلقي، أو استحداث مصادر تلقٍ لم ترد بها النصوص كل ذلك خروج عن المنهج السلفي.
وما دام الخلاف واقعًا في فهم النص لاختلاف مدلولاته الثابتة لغةً أو تخصيصه أو تقييده أو درجة النص المثبِت له أو تفسيره بمناسبته أو نحو ذلك من مسوغات الخلاف الصحيحة، فهو خلاف مقبول، وأحيانا يكون الخلاف في مدى توفر المصالح أو المفاسد والموازنة بينهما وذرائع الفساد في النوازل الفقهية، وهذه من أوسع ما يمكن أن يسمح المنهج السلفي بالخلاف فيه لأن العقول يصعب أن تتواطأ في تقدير ذلك لا سيما في المصالح والمفاسد غير الظاهرة.
وكان من فضائل السلفيين أنَّ لَقَبَهم يُعَبِّر عن منهجهم القويم الذي لا يشاركهم فيه أحد، وهو المنهج الذي اجتمعت على تخصيصه بالحرب في هذا العصر جميع القوى المناهضة للإسلام الحق من الشرق والغرب ومن الكافرين وأهل البِدَع المنتسبين للإسلام فلله درهم.
ولذلك فليس بمستغرَب ما تمر به السلفية والسلفيون اليوم من اهتزازات كان مما نتج عنها بعضُ الانشطارات بين أتباع هذا المنهج نتيجة الحرب عليها من جبهات كثيرة دولية وسياسية واستخباراتية وإعلامية ومن شتى فرق أهل الأهواء المنتسبة للدين ومن علمانيين ويساريين وقوميين، وحتى مِن كثير من الوطنيين الذين توهموا أن برنامجهم الوطني تخليص بلادهم من هذا المنهج وأتباعه.
وسِر هذا الاجتماع على عدائها أمران، الأول: سرعة انتشارها بين الناس، وذلك لأنها حقًا تُمَثِّلُ الإسلام في يُسره وعقلانيته، فلا تعقيد في فهم أسماء الله وصفاته، ولا في علاقة العبد بربه، التي لا يشوبها تعظيم سواه سبحانه من وُسطاء وأولياء وقبور وأوثان؛ وليس ثَمَّة تعلق بالكرامات وما يحاك حولها من قصص وخرافات يبتكرها سدنة القبور لتعظيم مخدوميهم من أصحاب العتبات التي أكثرها وهمي.
الثاني: وهو في تقديري الأهم لدى المعادين للسلفية، إنه التوجه الوحيد في فهم الدين الذي يؤمن بأن الواقع يجب أن يتشكل وفق ما يريده النص، بينما جميع تلك التوجهات سواءً المنتسب للإسلام منها أم غير المنتسب له، كلُّها إما داعية إلى أن يتشكل النص وفق الواقع، وربما قالوا بإسقاط النص من أجل الواقع، وإما موافقة على هذا الطلب كَقُرْبَان للقوى الدولية من أجل العولمة أو القوى البدعية من أجل التعايش أو القوى العلمانية بحجة الواقعية، أما السلفيون فإن إيمانهم بسلطان النص الشرعي المنبثق من فهمهم العميق لشهادة التوحيد، يجعلهم يُفَرِّقون بين التعايش مع الواقع وبين الانصياع للواقع، فالأول ظرف ينبغي أن يكون محدودًا، وأن يجري العمل على تغييره عبر الدعوة والسعي لهداية الناس، أما الآخر فهو إما الذِّلَّة لهذا الواقع والتنازل المستمر له إلى أن يصل بنا هذا التنازل إلى طرح الثوابت والاستغناء عنها، وإما الثورة على هذا الواقع وانتهاج سبيل العنف في مواجهته، وكلا الأمرين طرفا نقيض ليس منهما منهج السلف، الذي هو القبض على الدين ولو بات كالقبض على الجمر وعض النواجذ عليه، ولو أدى ذلك إلى العزلة والشعور التام بالغربة، وإصلاحه بالصبر على الثبات على الحق والدعوة إليه وتوخي الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن الانشطارات في السلفية ما هو نتاج تلك الحرب على السلفية كنسبة جماعات العنف والتكفير إليها لإيجاد الحجة الأخلاقية لمحاربتها، وهذه مورثة من العهد العثماني حين انتقلت السلفية من دعوة مجردة إلى مشروع سياسي يحمل السيف، فتمت محاربته إعلاميًا بهذه الفرية التي ورثها السياسيون الدوليون المعاصرون فاستخدموا هذه الشائعة، وعمليًا عملوا على نشر الفكر الخارجي لينسبوه كظاهرة قائمة إلى السلفية.
ومن هذه الانشطارات ما هو نتيجة نقل لخطابات علماء الدعوة السلفية النجدية عن سياقها الزماني وتطبيقها على الزمن الحاضر دون اعتبار لمقتضيات ذلك الخطاب وظروفه الزمانية والمكانية، فأدى ذلك إلى تنحية فكرة الإصلاح عبر الدعوة والصبر على الاغتراب إلى محاولة إنتاج خطاب مشابه لخطاب الدعوة في عصر انشغالها بدعم المشروع السياسي الذي كان وليد واقع فراغ سياسي كامل وانعدام للجماعة، وكان الملء السياسي وإيجاد الجماعة يوجب ذلك الخطاب إضافة إلى موجبات أُخر، نُقِلَ هذا الخطاب إلى عصر وجود الدولة وقوتها وتحقق الجماعة فأدى ذلك إلى دعم الفكر التكفيري وإيجاد الشروخ الكبيرة بين الدول العربية والإسلامية والتوجهات السلفية.
وشرخ آخر في السلفية كانت نواتُه الحرص الصادق على الجماعة وعلى درء الفتنة، وعلى بيان من هم خطر في ثوريتهم وهياجهم على اللُّحمة والجماعة، وسلكوا مع مخالفيهم مسلك التبديع، وهو مسلك صحيح فيما يتعلق بالخروج على الحكام وإثارة الفتن، لكن الأمر وصل لديهم إلى احتكار السلفية وإخراج من يختلف معهم في أمور لا تتعلق بمبادئ السلفية نفسها كالعقيدة ومصادر التلقي؛ بل في تقدير المصالح والمفاسد وأشياء أقل وأتفه من ذلك، وصار لديهم نَهَم في التجريح وإسقاط الناس وتجريحهم وتتبع العثرات وتأويل كلام الآخرين إلى المعنى السيئ الذي يريدون هم أن يحمله الكلام لا إلى قصد المتكلم، وبذلك أصبحوا ألعوبة للعلمانيين والليبراليين يضربون بهم من أرادوا إسقاطه من الدعاة والعلماء لدرجة أنهم أصبحوا يعبثون بالمقاطع يقطعون ويجتزؤون.
وتمادى شرخ المجرحة هؤلاء حتى رأينا منهم أن وصل به الأمر إلى تكفير وتفسيق علماء كثر من القدماء والمحدثين ورفض إنتاجهم العلمي الذي تلقته الأمة بالقبول بحجة أشعريتهم أو أخطاء عقدية وجدوها لهم.
والحق أن كل هذه الانشطارات نتوءات ينبغي أن ينصح أصحابها بالتراجع عنها، فقد أفقدت هذه السلفيةَ ما فيها من يسر الإسلام ومحبة وود وفهم عميق لشهادة التوحيد وأركان الإيمان واجتذاب للناس لدعوتهم وتأليفهم.
وهي في النهاية تبقى كأي انحراف عن الأصل تعرضت له المبادئ النبيلة، وأعظمها الإسلام الذي افترقت أمته ثلاثة وسبعين فرقة، وما زال باقيًا كما بُعث به الرسول صلى الله عليه وسلم ممثلًا بالمنهج السلفي، وإن أبى من أبى.
ولا شك أن منهج السلف واحد، شرحه الشافعي في كتابه العظيم الرسالة، التي لم يختلف على قبولها جُمْلَةً وتفصيلًا أي من علماء عصره الذين هم رموز السلفية من أتباع كبار أئمة الإسلام الذين كان أحمد بن حنبل آخرهم وفاةً، ولذلك نُسِبت السلفية إليه في بادئ عصر علو أهل البدع، فكان يقال عنها الحنبلية مع أنها تضم من مقلدي جميع المذاهب الفقهية، وهي سلفية لا تختلف أبدًا في فهمها للدين عن سلفية عصري الإحياء السلفي اللذين قاد الأولَ منهما تقي الدين ابن تيمية وقاد الآخر محمد بن عبدالوهاب، فلا فرق إجمالي أو تفصيلي بين السلفية في عصورها الثلاثة، لكن منتقديها يجبنون عن انتقاد الإمام أحمد لإجماع الأمة على جلالته فيزعمون الفرق بين سلفيته وسلفية العصرين الآخرين، ومنهم من يجبن أيضا عن نقد ابن تيمية فيزعم الفرق بين سلفيته وسلفية الإحياء الأخير.
والحق أن لا اختلاف بينها سوى في طبيعة عصر كل واحد من الرواد أدى إلى وجود اختلاف في طبيعة النشاط وحسب، فعصر الإمام أحمد كان عصر عز للدين وعصر ظهور كبير للسنة وضعف البدعة واستقرار سياسي في الإجمال في جميع أرجاء العالم الإسلامي، وعصر ابن تيمية عصر ضعف للسنة وعلو للبدعة، واجتياح مغولي لشرق العالم الإسلامي، ودولة قائمة تجمع مصر والشام حيث يعيش ابن تيمية، أما عصر ابن عبدالوهاب فعصر جهل مطبق بالدين وعدم استقرار سياسي في نجد محل دعوة الشيخ، ورواج للشركيات باسم الدين وانحدار سياسي في سائر العالم الإسلامي.
فأي اختلاف مزعوم بين السلفية في تلك العصور إنما هو نتاج عدم فهم لعظمة هذا المنهج الذي نجح في عملية الإصلاح الديني بمبادئ واحدة في عصور مختلفة في كل شيء، واستطاع في كل ظهور له أن تكون له الغلبة، وأنه لا يتراجع إلا بما يمارس عليه من القمع السياسي والعسكري، ومع ذلك تبقى جذوته مع كل نجاح لخصومه في قمعه تنتظر وقتها المناسب للعودة والانتشار من جديد، وهي سِمة الإسلام الصحيح الخالي من الشوائب.
ولا شك أن الإسلام يترك سقفًا جيدًا للاختلاف في الرأي في مسائل الدين، وذلك وفق القواعد التي وضعها علماء الأصول المتقدمون لفهم النصوص [قبل دخول علم الكلام في هذا الفن] ووفق القواعد التي وضعها علماء الحديث لقبول الحديث ورده، وهي القواعد التي يعبر عنها السلفيون بمنهج السلف في فهم النصوص وأي مخالفة غير منضبطة بهذه القواعد تعتبر خروجًا عن المنهج السلفي، فإدخال العقل في عالم الغيب وتأويل النصوص لأجله، وصرف الناس عن حقيقته إلى المجاز دون قرينة، وإنكار بعض مصادر التلقي، أو استحداث مصادر تلقٍ لم ترد بها النصوص كل ذلك خروج عن المنهج السلفي.
وما دام الخلاف واقعًا في فهم النص لاختلاف مدلولاته الثابتة لغةً أو تخصيصه أو تقييده أو درجة النص المثبِت له أو تفسيره بمناسبته أو نحو ذلك من مسوغات الخلاف الصحيحة، فهو خلاف مقبول، وأحيانا يكون الخلاف في مدى توفر المصالح أو المفاسد والموازنة بينهما وذرائع الفساد في النوازل الفقهية، وهذه من أوسع ما يمكن أن يسمح المنهج السلفي بالخلاف فيه لأن العقول يصعب أن تتواطأ في تقدير ذلك لا سيما في المصالح والمفاسد غير الظاهرة.
وكان من فضائل السلفيين أنَّ لَقَبَهم يُعَبِّر عن منهجهم القويم الذي لا يشاركهم فيه أحد، وهو المنهج الذي اجتمعت على تخصيصه بالحرب في هذا العصر جميع القوى المناهضة للإسلام الحق من الشرق والغرب ومن الكافرين وأهل البِدَع المنتسبين للإسلام فلله درهم.
ولذلك فليس بمستغرَب ما تمر به السلفية والسلفيون اليوم من اهتزازات كان مما نتج عنها بعضُ الانشطارات بين أتباع هذا المنهج نتيجة الحرب عليها من جبهات كثيرة دولية وسياسية واستخباراتية وإعلامية ومن شتى فرق أهل الأهواء المنتسبة للدين ومن علمانيين ويساريين وقوميين، وحتى مِن كثير من الوطنيين الذين توهموا أن برنامجهم الوطني تخليص بلادهم من هذا المنهج وأتباعه.
وسِر هذا الاجتماع على عدائها أمران، الأول: سرعة انتشارها بين الناس، وذلك لأنها حقًا تُمَثِّلُ الإسلام في يُسره وعقلانيته، فلا تعقيد في فهم أسماء الله وصفاته، ولا في علاقة العبد بربه، التي لا يشوبها تعظيم سواه سبحانه من وُسطاء وأولياء وقبور وأوثان؛ وليس ثَمَّة تعلق بالكرامات وما يحاك حولها من قصص وخرافات يبتكرها سدنة القبور لتعظيم مخدوميهم من أصحاب العتبات التي أكثرها وهمي.
الثاني: وهو في تقديري الأهم لدى المعادين للسلفية، إنه التوجه الوحيد في فهم الدين الذي يؤمن بأن الواقع يجب أن يتشكل وفق ما يريده النص، بينما جميع تلك التوجهات سواءً المنتسب للإسلام منها أم غير المنتسب له، كلُّها إما داعية إلى أن يتشكل النص وفق الواقع، وربما قالوا بإسقاط النص من أجل الواقع، وإما موافقة على هذا الطلب كَقُرْبَان للقوى الدولية من أجل العولمة أو القوى البدعية من أجل التعايش أو القوى العلمانية بحجة الواقعية، أما السلفيون فإن إيمانهم بسلطان النص الشرعي المنبثق من فهمهم العميق لشهادة التوحيد، يجعلهم يُفَرِّقون بين التعايش مع الواقع وبين الانصياع للواقع، فالأول ظرف ينبغي أن يكون محدودًا، وأن يجري العمل على تغييره عبر الدعوة والسعي لهداية الناس، أما الآخر فهو إما الذِّلَّة لهذا الواقع والتنازل المستمر له إلى أن يصل بنا هذا التنازل إلى طرح الثوابت والاستغناء عنها، وإما الثورة على هذا الواقع وانتهاج سبيل العنف في مواجهته، وكلا الأمرين طرفا نقيض ليس منهما منهج السلف، الذي هو القبض على الدين ولو بات كالقبض على الجمر وعض النواجذ عليه، ولو أدى ذلك إلى العزلة والشعور التام بالغربة، وإصلاحه بالصبر على الثبات على الحق والدعوة إليه وتوخي الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن الانشطارات في السلفية ما هو نتاج تلك الحرب على السلفية كنسبة جماعات العنف والتكفير إليها لإيجاد الحجة الأخلاقية لمحاربتها، وهذه مورثة من العهد العثماني حين انتقلت السلفية من دعوة مجردة إلى مشروع سياسي يحمل السيف، فتمت محاربته إعلاميًا بهذه الفرية التي ورثها السياسيون الدوليون المعاصرون فاستخدموا هذه الشائعة، وعمليًا عملوا على نشر الفكر الخارجي لينسبوه كظاهرة قائمة إلى السلفية.
ومن هذه الانشطارات ما هو نتيجة نقل لخطابات علماء الدعوة السلفية النجدية عن سياقها الزماني وتطبيقها على الزمن الحاضر دون اعتبار لمقتضيات ذلك الخطاب وظروفه الزمانية والمكانية، فأدى ذلك إلى تنحية فكرة الإصلاح عبر الدعوة والصبر على الاغتراب إلى محاولة إنتاج خطاب مشابه لخطاب الدعوة في عصر انشغالها بدعم المشروع السياسي الذي كان وليد واقع فراغ سياسي كامل وانعدام للجماعة، وكان الملء السياسي وإيجاد الجماعة يوجب ذلك الخطاب إضافة إلى موجبات أُخر، نُقِلَ هذا الخطاب إلى عصر وجود الدولة وقوتها وتحقق الجماعة فأدى ذلك إلى دعم الفكر التكفيري وإيجاد الشروخ الكبيرة بين الدول العربية والإسلامية والتوجهات السلفية.
وشرخ آخر في السلفية كانت نواتُه الحرص الصادق على الجماعة وعلى درء الفتنة، وعلى بيان من هم خطر في ثوريتهم وهياجهم على اللُّحمة والجماعة، وسلكوا مع مخالفيهم مسلك التبديع، وهو مسلك صحيح فيما يتعلق بالخروج على الحكام وإثارة الفتن، لكن الأمر وصل لديهم إلى احتكار السلفية وإخراج من يختلف معهم في أمور لا تتعلق بمبادئ السلفية نفسها كالعقيدة ومصادر التلقي؛ بل في تقدير المصالح والمفاسد وأشياء أقل وأتفه من ذلك، وصار لديهم نَهَم في التجريح وإسقاط الناس وتجريحهم وتتبع العثرات وتأويل كلام الآخرين إلى المعنى السيئ الذي يريدون هم أن يحمله الكلام لا إلى قصد المتكلم، وبذلك أصبحوا ألعوبة للعلمانيين والليبراليين يضربون بهم من أرادوا إسقاطه من الدعاة والعلماء لدرجة أنهم أصبحوا يعبثون بالمقاطع يقطعون ويجتزؤون.
وتمادى شرخ المجرحة هؤلاء حتى رأينا منهم أن وصل به الأمر إلى تكفير وتفسيق علماء كثر من القدماء والمحدثين ورفض إنتاجهم العلمي الذي تلقته الأمة بالقبول بحجة أشعريتهم أو أخطاء عقدية وجدوها لهم.
والحق أن كل هذه الانشطارات نتوءات ينبغي أن ينصح أصحابها بالتراجع عنها، فقد أفقدت هذه السلفيةَ ما فيها من يسر الإسلام ومحبة وود وفهم عميق لشهادة التوحيد وأركان الإيمان واجتذاب للناس لدعوتهم وتأليفهم.
وهي في النهاية تبقى كأي انحراف عن الأصل تعرضت له المبادئ النبيلة، وأعظمها الإسلام الذي افترقت أمته ثلاثة وسبعين فرقة، وما زال باقيًا كما بُعث به الرسول صلى الله عليه وسلم ممثلًا بالمنهج السلفي، وإن أبى من أبى.