تحدثتُ في مقالةِ «تناقضات الجهيمان» عن عقلٍ تواصلي يفتّ في عضد التطرف، قبل تحقّق مجيء التطرف الإسلامي بوصفه ظرفًا تاريخيًا مؤسساتيًا، ولهذا وُوجِه مشروعُ الأساطير الجهيمانية -مِن قِبل السلفيين لاحقا- أكثر من مشروع العقلانية، إذ في الحركةِ الراديكاليّة فائضٌ عقلانيٌّ، وقد اعتمد اعتراض السلفيين على أنَّ أغلبَ الأساطير لا تُعبّر عن مجتمعنا، بل مجتمعاتٍ أخرى. وهذا الاعتراض يُثبت مفهوم صناعة النقيض من جهة، والمواجهة المباشرة معه من جهة أخرى، بل تحوّلت الأساطير إلى حكايات تحفظها الأمهات، فتُتَمثّل واقعيًا من قِبل الأبناء والأحفاد، مما يكون له الأثرُ في تخفيفِ حدّة السرديةِ الإسلامية، وهي تؤسس لمقولاتِ ما بعدَ موتِ المجاهدين، بوصفها عقلانيةً تشرح معنى الحياة. وقد ذكر سليمان الخراشي -وهو من السلفيين الذين اعترضوا على الأساطير الشعبية- أنَّ أمه كانت تروي له بأسلوبها الممتع، شيئًا من أساطير الجهيمان، مما جعله يُشارك أبطالَها الأحداث، حتى استيقظَ-بعد أن كبر- على خطر هذه الأساطير، مما جعله يُحارب بالقلم -في الكبر- ما كان صانعًا لخياله في الصغر.
في تلك الفترة نفسها، نجد صناعة نقيض -بالأساطير- في مكانٍ عربيّ آخر، يفتَّ في عضد التطرف أيضا، إذ يروي محمد سبيلا حكايته مع الاستعمارِ الفرنسيّ لبلاده، وهو صغير، من خلال حدثٍ، يرتقي لأن يكونَ علامة على لحظة الحاجة لوعيٍ يلتحم بالمادة.
تبدأ الحكايةُ باستحضارِ الممهدات التي صنعها الاستعمار بنفي محمد الخامس، ليتحول إلى حدثٍ مهم، يلتحم فيه الموضوعي بالذاتي. هنا كانت مهمة الوعي الجمعي لأن يصنعَ ذاكرتَه، في صناعةِ رمز يكون نقيضًا للاستعمار، وهو التوجّه نحو العقل الأسطوري بوصفه وعيا جمعيًا يُحرك الانفعالات الوجدانية الكبرى. الحكاية تمثّلت في رؤيةِ محمد الخامس على وجه القمر، بصورة جمعية، وما يستوقفنا هنا أنَّ محمد سبيلا- وهو معدود آنذاك طفلا- لم يكتفِ بوصف الكِبار، بل تجاوز الأمرُ إلى تعلقه بقرنائه الأطفال، إذ يقولون إننا نرى وجهَه في القمرِ، ومحمد سبيلا حاولَ ولم يرَ شيئا، وصيغةُ الحدثِ -في كيفيّة تشكله في وعي الأطفال- من خلالِ تقديم صورة محمد الخامس للأطفال؛ ليروه ويتأملوا تفاصيلَ الوجه، ثم إبعادها، والتوجه مباشرة لمشاهدة القمر، لتستحضر العينُ ما ثَبت في الذهن. كأننا أمام حاجة لنقيضٍ يُصارع تاريخيًا للقضاءِ على الاستعمارِ بصفته فكرة وممارسة. وقد أخذَ النقيضُ صيغةً أسطوريةً، لكنّه التحم مع الموضوعي بالممارسةِ، فيروي محمد كيف كانَ والده يأتي به لاجتماعِ خليةِ حزبِ الاستقلال، كي يقرأ لهم جريدة العلم؛ فقد كانوا «أُميين».
وهنا يبرز الاستعمارُ بصفته ممثلًا لتاريخِ العقلانية، إذ أُلغي كل جوابٍ قُدِمَ من قِبَل الأساطير، وجُعِل العقلُ هو الوسيلةُ الوحيدة للوصول إلى الحقيقة، وقد بدأ في إزاحةِ الحواس، فلحظةِ الفيثاغورسيين ومن بعدهم أرسطو، جاءت بمقولاتِ العلة والمبدأ، التي فُصِلَت عن المعرفةِ الحسيّة، أي أنَّ امتلاكك لعلمِ العلل، كفيلٌ بامتلاكِك المعرفة، ومن ثمَّ قدرتك على تعميمِ آرائِك، والحكم بصحتها، إننا أمام لاهوتٍ، يُشرِّع لتكذيب معرفة، وتصديقِ أخرى، وهنا نتذكّر العلة الغائية التي أضافها أرسطو لاكتمال عِقدِ العلل الأربع، ونستحضر سؤالَ الاستعمار وغايته التي تلتحم مع نفي لاهوت أرسطو نفسِه، بعقلانيةٍ العصر الحديث -التي تكمل سيرورة العلة الغائية-وهي قدرة العقل على بلورةِ الأخلاق وقواعد السلوك والمعارف، بحقائق مطلقة ويقينية، ومن ثمّ كانَ اللجوءُ لنقيضٍ ينفي الاستعمار، له دوافع نقدٍ لمعرفةٍ يقينية استبطنها الاستعمارُ، لهذا رأينا برتراند راسل يشير بأنَّ القوة مع الحرية تنتج حيوية تفيض إلى سلبِ حريات أخرى. وبهذا النقد التاريخي يَتعرّى الاستعمار، فيُنفى ذهنيا، بالتزامن مع الحس والواقع، ولنتذكَّر -هنا- النفيَ الحسّي لمحمد الخامس.
ما يتبع هذا النفي، ظهورُ الاستقلال، وتشكّل مؤسساته، وأحزابه، فيشير سبيلا إلى صراعٍ جديدٍ بعد نشوءِ الاتحادِ الوطني للقوات الشعبية، الرافضِ للتراثِ من جانبه السياسي، فانطلقت حركةٌ تحديثية يسارية، واجهت الدولةَ بعنفٍ. ففي النفي استحضار لبذورٍ قَبْليّة، يحيا بها صراعٌ جديد، لهذا كانت الفلسفةُ موطنَ الصراعِ الجديد بصفتها -آنذاك- مادةً لتكوين الأفكار من جهتين: جهة اعتمدت على كونها سندًا فكريًا، وجهة كانت تعد الفلسفةَ لحظة تغيير واقعي، يوجب التنظيم السياسي بالضرورة، أسّست هذه الجهة الأخيرة للفكر اليساري في المغرب، لهذا أوقِف تدريسُ الفلسفة كحلّ، وهنا نستحضر تاريخ الخلاف حول الفلسفة، وإعطاء النقد تاريخيته، وظرف نشوئه، كأن نتأمل: لم اضطر الغزّاليُّ -مثلا- لوضع كتاب مقاصد الفلاسفة قبل التهافت؟ وما الذي نقده الغزّاليُّ من رؤى الفلاسفة بالفلسفة نفسها؟ إلا أنَّ إيقاف الفلسفة في سياقنا إيقافًا مؤسساتيًا مباشرًا، وكأنَّ الإيقافَ هنا يُعادل عملَ المقاصد هناك، أي في إعطاءِ مواجهة الفلسفة حقها الواقعي في النقد، وليس إصدار أحكامٍ مطلقة، بصيغةٍ عموميةٍ، تتحول إلى رأيٍ متداولٍ، كقول: «الغزالي قضى على الفلسفة!»
وعودة إلى صراعِ ما بعد النفي، فإنَّ التفلسفَ ظلّ قائمًا، بصيغةٍ واقعيةٍ، أي أنه استحضر بذورًا من المستعمِر نفسه، ولكن كوسيط، لهذا أشار -سبيلا- إلى أنَّ اليسار العربي كان صدى للثورة الروسية. وصدى الثورة الروسية وصلَ للعالم العربي مع لحظات الاستقلال، وأخذ الصراعُ شكلَ الاستيلاء على مكونات المكان -كما كان أفق الصراع مع الاستعمار- فالاتحاد الشعبي-بحسب سبيلا- كان يقول «مَن لم يكن اتحاديا فليس مغربيا».
وهنا نكون أمام حضور للوعي المكاني مرة أخرى؛ كي يدفعَ الحركةَ المادية للأمام، لكن بعد تطور الوعي، وسنلحظ أنَّ هذا الحضور المكاني -بدوره- سيتشظى ويصنع نقيضه، على سبيل أنَّ صناعةَ النقيض راسخة في الوعي بصفة مزدوجة، أي أنَّ الصناعة الواعية تستحضر أهمية النقيض من منطقٍ زائف، يقوم على أنَّ التاريخَ علمٌ، كعلومِ الطبيعة، وفي الآن نفسه يرى الوعيُ هذه التشظيات الملازمة بالضرورة لهذه الصناعة التناقضية الإنسانية، إلا أنه يتناساها بتأويلاتٍ عدة، تنظمها مصالح الطبقات، فيعود أدراجه إلى صناعةِ النقيض بالطريقة الآلية، ويُؤَوّلها بالجدلية الطبيعية، ليستمر الأمل الطوباوي بتحقّق علمية النظرية.
في تلك الفترة نفسها، نجد صناعة نقيض -بالأساطير- في مكانٍ عربيّ آخر، يفتَّ في عضد التطرف أيضا، إذ يروي محمد سبيلا حكايته مع الاستعمارِ الفرنسيّ لبلاده، وهو صغير، من خلال حدثٍ، يرتقي لأن يكونَ علامة على لحظة الحاجة لوعيٍ يلتحم بالمادة.
تبدأ الحكايةُ باستحضارِ الممهدات التي صنعها الاستعمار بنفي محمد الخامس، ليتحول إلى حدثٍ مهم، يلتحم فيه الموضوعي بالذاتي. هنا كانت مهمة الوعي الجمعي لأن يصنعَ ذاكرتَه، في صناعةِ رمز يكون نقيضًا للاستعمار، وهو التوجّه نحو العقل الأسطوري بوصفه وعيا جمعيًا يُحرك الانفعالات الوجدانية الكبرى. الحكاية تمثّلت في رؤيةِ محمد الخامس على وجه القمر، بصورة جمعية، وما يستوقفنا هنا أنَّ محمد سبيلا- وهو معدود آنذاك طفلا- لم يكتفِ بوصف الكِبار، بل تجاوز الأمرُ إلى تعلقه بقرنائه الأطفال، إذ يقولون إننا نرى وجهَه في القمرِ، ومحمد سبيلا حاولَ ولم يرَ شيئا، وصيغةُ الحدثِ -في كيفيّة تشكله في وعي الأطفال- من خلالِ تقديم صورة محمد الخامس للأطفال؛ ليروه ويتأملوا تفاصيلَ الوجه، ثم إبعادها، والتوجه مباشرة لمشاهدة القمر، لتستحضر العينُ ما ثَبت في الذهن. كأننا أمام حاجة لنقيضٍ يُصارع تاريخيًا للقضاءِ على الاستعمارِ بصفته فكرة وممارسة. وقد أخذَ النقيضُ صيغةً أسطوريةً، لكنّه التحم مع الموضوعي بالممارسةِ، فيروي محمد كيف كانَ والده يأتي به لاجتماعِ خليةِ حزبِ الاستقلال، كي يقرأ لهم جريدة العلم؛ فقد كانوا «أُميين».
وهنا يبرز الاستعمارُ بصفته ممثلًا لتاريخِ العقلانية، إذ أُلغي كل جوابٍ قُدِمَ من قِبَل الأساطير، وجُعِل العقلُ هو الوسيلةُ الوحيدة للوصول إلى الحقيقة، وقد بدأ في إزاحةِ الحواس، فلحظةِ الفيثاغورسيين ومن بعدهم أرسطو، جاءت بمقولاتِ العلة والمبدأ، التي فُصِلَت عن المعرفةِ الحسيّة، أي أنَّ امتلاكك لعلمِ العلل، كفيلٌ بامتلاكِك المعرفة، ومن ثمَّ قدرتك على تعميمِ آرائِك، والحكم بصحتها، إننا أمام لاهوتٍ، يُشرِّع لتكذيب معرفة، وتصديقِ أخرى، وهنا نتذكّر العلة الغائية التي أضافها أرسطو لاكتمال عِقدِ العلل الأربع، ونستحضر سؤالَ الاستعمار وغايته التي تلتحم مع نفي لاهوت أرسطو نفسِه، بعقلانيةٍ العصر الحديث -التي تكمل سيرورة العلة الغائية-وهي قدرة العقل على بلورةِ الأخلاق وقواعد السلوك والمعارف، بحقائق مطلقة ويقينية، ومن ثمّ كانَ اللجوءُ لنقيضٍ ينفي الاستعمار، له دوافع نقدٍ لمعرفةٍ يقينية استبطنها الاستعمارُ، لهذا رأينا برتراند راسل يشير بأنَّ القوة مع الحرية تنتج حيوية تفيض إلى سلبِ حريات أخرى. وبهذا النقد التاريخي يَتعرّى الاستعمار، فيُنفى ذهنيا، بالتزامن مع الحس والواقع، ولنتذكَّر -هنا- النفيَ الحسّي لمحمد الخامس.
ما يتبع هذا النفي، ظهورُ الاستقلال، وتشكّل مؤسساته، وأحزابه، فيشير سبيلا إلى صراعٍ جديدٍ بعد نشوءِ الاتحادِ الوطني للقوات الشعبية، الرافضِ للتراثِ من جانبه السياسي، فانطلقت حركةٌ تحديثية يسارية، واجهت الدولةَ بعنفٍ. ففي النفي استحضار لبذورٍ قَبْليّة، يحيا بها صراعٌ جديد، لهذا كانت الفلسفةُ موطنَ الصراعِ الجديد بصفتها -آنذاك- مادةً لتكوين الأفكار من جهتين: جهة اعتمدت على كونها سندًا فكريًا، وجهة كانت تعد الفلسفةَ لحظة تغيير واقعي، يوجب التنظيم السياسي بالضرورة، أسّست هذه الجهة الأخيرة للفكر اليساري في المغرب، لهذا أوقِف تدريسُ الفلسفة كحلّ، وهنا نستحضر تاريخ الخلاف حول الفلسفة، وإعطاء النقد تاريخيته، وظرف نشوئه، كأن نتأمل: لم اضطر الغزّاليُّ -مثلا- لوضع كتاب مقاصد الفلاسفة قبل التهافت؟ وما الذي نقده الغزّاليُّ من رؤى الفلاسفة بالفلسفة نفسها؟ إلا أنَّ إيقاف الفلسفة في سياقنا إيقافًا مؤسساتيًا مباشرًا، وكأنَّ الإيقافَ هنا يُعادل عملَ المقاصد هناك، أي في إعطاءِ مواجهة الفلسفة حقها الواقعي في النقد، وليس إصدار أحكامٍ مطلقة، بصيغةٍ عموميةٍ، تتحول إلى رأيٍ متداولٍ، كقول: «الغزالي قضى على الفلسفة!»
وعودة إلى صراعِ ما بعد النفي، فإنَّ التفلسفَ ظلّ قائمًا، بصيغةٍ واقعيةٍ، أي أنه استحضر بذورًا من المستعمِر نفسه، ولكن كوسيط، لهذا أشار -سبيلا- إلى أنَّ اليسار العربي كان صدى للثورة الروسية. وصدى الثورة الروسية وصلَ للعالم العربي مع لحظات الاستقلال، وأخذ الصراعُ شكلَ الاستيلاء على مكونات المكان -كما كان أفق الصراع مع الاستعمار- فالاتحاد الشعبي-بحسب سبيلا- كان يقول «مَن لم يكن اتحاديا فليس مغربيا».
وهنا نكون أمام حضور للوعي المكاني مرة أخرى؛ كي يدفعَ الحركةَ المادية للأمام، لكن بعد تطور الوعي، وسنلحظ أنَّ هذا الحضور المكاني -بدوره- سيتشظى ويصنع نقيضه، على سبيل أنَّ صناعةَ النقيض راسخة في الوعي بصفة مزدوجة، أي أنَّ الصناعة الواعية تستحضر أهمية النقيض من منطقٍ زائف، يقوم على أنَّ التاريخَ علمٌ، كعلومِ الطبيعة، وفي الآن نفسه يرى الوعيُ هذه التشظيات الملازمة بالضرورة لهذه الصناعة التناقضية الإنسانية، إلا أنه يتناساها بتأويلاتٍ عدة، تنظمها مصالح الطبقات، فيعود أدراجه إلى صناعةِ النقيض بالطريقة الآلية، ويُؤَوّلها بالجدلية الطبيعية، ليستمر الأمل الطوباوي بتحقّق علمية النظرية.