في ظل سوء التخطيط والتنفيذ لعدد من الجهات الحكومية كان ينبغي أن يكون لوزارة المالية دور فاعل لكبح الهدر المالي جراء هذا التشتت، كتخصيص ميزانيات خاصة لكل قطاع

مرت المملكة منذ تأسيسها بعدد من التحسينات والتطوير، منها ما تم تحقيقه من إصلاحات وتحسينات إدارية، سواءً من خلال لجنة الإصلاح الإداري أو من خلال لجنة التطوير الإداري على مدى القرون الخمسة الماضية، مثل دمج بعض الوزارات وإنشاء الهيئات. وقد يكون من المناسب إعادة النظر في طريقة وآلية التطوير أو الإصلاح الإداري لتتمشى مع متطلبات المرحلة القادمة، والتي ينبغي أن يتم التركيز فيها على تطوير الموارد البشرية وتنويع مصادر الدخل ورفع وتحسين الأداء الحكومي وترشيد الإنفاق الحكومي وتفعيل الدور الرقابي الفني والمالي، مع محاسبة ومعاقبة كل من يسيء استخدام المال العام، دون استثناء.
ولتوضيح أهمية وضرورة بناء نموذج جديد وصالح للإصلاح الإداري للمراحل القادمة في مسيرة الوطن ينبغي أولاً توثيق وتقييم الوضع الراهن في هيكلية القطاعات الحكومية وطريقة العمل الحكومي، وليس أفضل من توثيق وتقييم طريقة تخطيط وتنفيذ المشاريع لتوضيح الحاجة الماسة للإصلاح الإداري.
من خلال قراءة سريعة لطريقة العمل بين وزارة المالية، وهي المحور في كل المعاملات الحكومية، والقطاعات الحكومية الأخرى، يمكن وبشكل واضح ملاحظة ما يلي:
1. وجود ترهل وتضخم في أعمال وزارة المالية قد يحدها من ممارسة أعمالها الأساسية المناطة بها، فدور وزارة المالية الذي يتمشى مع التسمية، على الأقل، يتمثل في إدارة خزينة الدولة (Treasury Department)، وهو ما تقوم به حالياً، بينما الأعمال الأخرى التي تقوم بها الوزارة ليست في مجال تخصصها. فعلى سبيل المثال، هناك عدد من النشاطات التي تقع خارج اختصاصات ومسؤوليات وزارة المالية، منها النشاط الاقتصادي وإعداد واعتماد الميزانية ومصلحة الزكاة والدخل، ومصلحة الجمارك، وصندوق الاستثمارات العامة، والمؤسسة العامة للتقاعد.. نشاطات ينبغي فصلها عن وزارة المالية تنظيمياً وإدارياً ومالياً.
2. نشاط الاقتصاد ما زال مشتتاً وتائهاً بين وزارة المالية ووزارة الاقتصاد والتخطيط، على الرغم من صدور قرار من المقام السامي قبل أكثر من (8) سنوات بنقل نشاط الاقتصاد من وزارة المالية إلى وزارة التخطيط، مع إعادة تسمية وزارة التخطيط إلى وزارة الاقتصاد والتخطيط.. قرار تأخر في التنفيذ دون توضيح ملابسات وأسباب التأخير، تأخير يوحي بأن القرار قد يكون أقرب للإلغاء، وإذا كان كذلك، فإن ذلك يرسخ ظاهرة التضخم والترهل في أعمال وزارة المالية.
3. بالنسبة لصندوق الاستثمارات العامة، فإنه من المناسب والأفضل للوطن ليس فقط فصل الصندوق عن وزارة المالية، ولكن أيضاً إنشاء هيئة مستقلة أو صندوق سيادي لاستثمار الفائض الحالي والمستقبلي وإدارة الاستثمارات الحالية في الشركات الحكومية والتي تملكها الدولة بالكامل أو في الشركات والصناديق الأخرى والتي تملك الدولة فيها مساهمات كبيرة تصل في بعضها إلى أكثر من (70%) مثل سابك والاتصالات والكهرباء وغيرها.. استثمارات تتطلب أيضاً تخصيص فريق متخصص وخبير لإدارتها وتوجيهها وتحقيق أفضل رقابة عليها للتأكد من تحقيقها أعلى عائد للاستثمار، بدلاً من تعيين بعض المسؤولين في وزارة المالية كأعضاء في مجالس ولجان إدارة هذه الشركات، تعييناً قد يمثل حضوراً شرفياً لهؤلاء المسؤولين ولكنه لا يخدم العملية الاستثمارية وخصوصاً في ظل غياب الدور الرقابي لوزارة المالية وتوفر مرونة مالية وإدارية لهذه الشركات.
4. وأما بالنسبة للميزانية فينبغي فصل نشاط إعداد الميزانية عن وزارة المالية وتخصيص جهاز أعلى يتبع المقام السامي لإعداد الميزانية ومراقبة تنفيذها مع ربطها بخطة إستراتيجية شاملة للمشاريع والخدمات. كما أنه يجب تغيير طريقة إعداد الموازنة، بحيث يتم التركيز على تحقيق الأهداف.. أسلوب يضمن تقديم أفضل الحلول العملية ويضمن حسن استخدام وتوجيه المال العام في صالح الوطن والمواطن، وليس الاعتماد على ميزانية البنود والتي لا ترتبط بأي مؤشرات أداء للجهات الحكومية. فما يتم عمله حالياً يعتمد على بنود محددة تحت أبواب الميزانية الأربعة، وأرقام مالية تاريخية مخصصة لكل جهة حكومية، ويتم قبل كل سنة مالية مناقشة وتفاوض الجهات الحكومية مع وزارة المالية للحصول على مخصصات مالية للسنة القادمة.. عادة تماثل مخصصات السنوات الماضية مع بعض الزيادة والتي تعتمد على المساحة المتاحة للزيادة من قبل وزارة المالية وقدرة إقناع وقوة تفاوض وعلاقة الجهة الحكومية.
5. في ظل غياب العمل على تطوير خطة يتم فيها تحديد الرؤية والأهداف الإستراتيجية والبرامج والمشروعات، لا توجد خطة شاملة يتم الاعتماد عليها في اعتماد وتمويل المشاريع المقدمة من الجهات الحكومية المختلفة. أما خطط التنمية الوطنية، وآخرها خطة التنمية التاسعة، والتي يتم إعدادها من قبل وزارة الاقتصاد والتخطيط، فهي غير مفعلة ولا يعتمد عليها عند إعداد الميزانية، ولا يتم اتباع منهجية علمية وعملية صحيحة عند إعداد خطط التنمية، حيث يتم الاعتماد في مدخلات الخطة على ما يرد من معلومات من كل جهة حكومية.. معلومات تتصف بالانعزالية والنظرة الفردية.
6. استمرار عمل الجهات الحكومية بشكل منعزل، سواءً في التخطيط للمشاريع أو تنفيذها، حتى داخل القطاع الواحد، مثلا في قطاع البنية التحتية، تقوم وزارة الشؤون البلدية ووزارة النقل، والأمانات والبلديات ووزارة المياه والكهرباء وشركات الاتصالات كل على حدة، بتطوير وتنفيذ مشاريعها بشكل منعزل، وفي قطاع الصناعة، تقوم وزارة التجارة والصناعة ووزارة العمل، وهيئة الاستثمار كل على حدة، بتطوير وتنفيذ مشاريعها بشكل منعزل، وينطبق ذلك على قطاعات أخرى كالصحة والخدمات والتعليم.
في ظل هذا الوضع من انخفاض مستوى أو سوء التخطيط والتنفيذ وعدم التكامل بين بعض الجهات الحكومية حتى داخل القطاع الواحد، كان ينبغي أن يكون لوزارة المالية دور فاعل لكبح الهدر المالي جراء هذا التشتت من خلال عدد من الأدوات التي تملكها حالياً، ومن أهمها تخصيص ميزانيات خاصة لكل قطاع.
من أهم المبادئ الإدارية التي ينبغي تطبيقها في العمل ضرورة تناسب وتوازن الصلاحية مع المسؤولية قبل توزيع الأعمال بين الجهات والأشخاص، فمن السهل الحصول أو أخذ صلاحيات دون تحمل مسؤوليات، عندها ستجد الأغلبية، إن لم يكن الجميع، مستعدة لأخذ كل الصلاحيات الممكنة، طالما أنها غير مطالبة وغير محاسبة على النتائج والعمل. في المقابل، هناك قلة، ممن يقبل تحمل المسؤولية كاملة مقابل الصلاحيات الممنوحة ويكون مستعداً للمحاسبة على العمل والنتائج، والسؤال هنا، هل تتناسب الصلاحيات الممنوحة لوزارة المالية مع حجم المسؤوليات الملقاة عليها؟ وهل تعتبر النتائج والأعمال، مثل ترشيد الإنفاق الحكومي، وتحسن أداء وجودة المشروعات، وزيادة المعدل على استثمار الدولة في الشركات، لوزارة المالية مقبولة ومرضية في ظل الصلاحيات الكبيرة التي تملكها؟
أسئلة تتطلب إعادة النظر في نموذج الإصلاح الإداري وضرورة تطويره بما يتمشى مع متطلبات المرحلة القادمة، أسئلة ونموذج إصلاح يمكن مناقشتها وتطويرها في مجلس الشورى، الذراع التطويري الحديث للدولة.