جدة: محمود تراوري

لم تكن محاكمة الشاعر جوزيف برودسكي من نسج الخيال بل هي حقيقة واقعة موجودة في الوثائق والأرشيف إذ تجسّد أول محاكمة لشاعر، العلاقة المأساوية بين السلطة والإبداع. تعرض الشاعر الروسي إلى المنع من الكتابة لأنه لم يكن منتميا إلى اتحاد الكتاب والأدباء السوفييت آنذاك، فالإبداع الأدبي كان عليه أن يمر بسلسلة من القنوات الحزبية قبل أن يرى النور وإلا يعتبر منشورا سريا يحاسب عليه صاحبه، وهذا ما حصل مع الشاعر برودسكي.

حياة أوشكت على الانتهاء

كتاب برودسكي أو «محاكمة شاعر» كتاب جماعي، ألفه نخبة من حلقة أصدقاء الشاعر الأقرب إليه أمثال هيلين كاريير دانكوس، إيفيم إيتكند، جانين ليفي، فريدا فيغوروفا، ليديا تشوكوفسكايا، شارل دوبزينسكي. كل واحد منهم له دور في إنجاز هذا الكتاب ـ الوثيقة الدامغة والأولى من نوعها في تاريخ الأدب المعاصر. كما أن هذا الكتاب يكشف إلى أي حد تتعقد فيه علاقة الأدب بالسلطة، وهي ليست بعيدة عن مناخات العالم الثالث، وإن كانت محاكمة أول شاعر في التاريخ إلا أنها تتكرر بشكل أو بآخر هنا وهناك. وفي كل مرة، تتكرر محاولات خنق صوت الأدب والشعر والإبداع.

وبرودسكي، ربما من أكبر الشعراء الروس المعاصرين، لم يكن يهتم بنشر قصائده. يقول له سولومون فولكوف في هذا الصدد في محاورته الطويلة معه: ألا ترى في ذلك نوعا من روحية التكبر والتعالي؟ يجيبه برودسكي: «من يركض وراء نشر كتبه لا يمكن أن يكتب وينتج» ويضيف برودسكي «أريدك أن تفهم، يا سولومون، عندما نفقد قدرتنا على كتابة الشعر، يعني ذلك أن الحياة أوشكت على الانتهاء».

ضد الفظاظة

في الكتاب، يلقي محاوره وصديقه الضوء على مصير الشاعر الذي اختزل حالته عن بعد وبسخرية. لم يكن برودسكي يحس بمدينة نيويورك بل عاش فيها حياة هامشية نوعا ما على الرغم من المجد الذي ارتقى إليه فيها. «نحن جئنا إلى هنا لا لكي نعيش بل لكي نكمل ما تبقى لنا من أيام العمر».

فكان يكتب مقالاته بالإنكليزية وفي لغة «الإمبراطورية» الجديدة على الآلة الكاتبة، في حين كان يكتب قصائده باللغة الروسية القديمة وبالقلم لأنه يرى الشعر من خلال معايشة لغته الأصلية الأم في أعماقه وذكرياته وأحلام طفولته وتجارب الشعراء الذين سبقوه.

السلطة السوفيتية لاحقت جميع الشعراء الروس الكبار وكان برودسكي آخرهم، وفي نظره أن «الميزة الجوهرية للتاريخ هي «الفظاظة» و«تمثيله الدولة»، ولغته الشعرية التي تفجرت ضد هذه الفظاظة وهذه الدولة من أجل إنقاذ فردية الفرد وانتصار الإنسان فيه. وهذه المواقف جعلت أيادي الشباب تتلقف قصائده في عام 1964 على الرغم من منع تداولها بل وإخضاعه للمحاكمة الشهيرة التي قال الشاعر بصددها «لا بد من التذكير بأنني سمعت اسم برودسكي يتردد لدرجة لا تعد ولا تحصى من قبل على ألسنة الحراس والقضاة والمعاونين والمحامين والشهود، تخيلت أننا في طقوس الزن البوذية، ولو استمر شخص في ترديد اسم ما بصورة متواصلة ومتكررة فإن هذا الاسم يتلاشى ويختفي».

وآمن برودسكي بأن حياة الشاعر تشبه «الطاقة الكامنة في طائر الفينيق» الذي يولد ويموت ويولد من رماده من جديد.

توفي الشاعر برودسكي في «وطن غريب أحبه» كما كان يردد، وذلك في 28 يناير عام 1996 في نيويورك، وتلبية لوصيته دفن، بعيدا عن وطنه حيث يرقد بالقرب منه الشاعر الأمريكي الكبير عزرا باوند، ودياجليف ـ أحد أعلام الباليه الروسي ـ والموسيقار سترافينسكي.

سريالية تراجيكوميدية

يعود الفضل في تدوين وحفظ جلسات محاكمة الشاعر برودسكي في عام 1964 للصحافية الشجاعة فريدا فيغدوروفا التي لولاها لذهبت وقائعها أدراج الرياح.

لذلك أصبحت وثيقة مهمة وفريدة من نوعها، في تاريخ الأدب، علق عليها ايفیم ایتكند، عضو اتحاد الكتاب والأدباء، وصديق برودسكي وأحد الذين شهدوا محاكمته، ووصفها الكثيرون بأنها رائعة سريالية تراجيكوميدية، انبثقت من لجنتها البيروسترويكا التي غيرت وجه روسيا نحو الديمقراطية.

وقد صدمت سلطات بلده أن حاز مواطنها الشاعر على جائزة نوبل للآداب من مقر إقامته في الولايات المتحدة، الذي اعتبر أكثر من شاعر، فهو مفكر، خرج على تقاليد الأدب المألوف ليذهب بتجربته إلى أقصى مداها في عالم كتابة الشعر. الملاحقات والمحاكمة والنفي بدأت ملاحقاته في سنة 1963، فاستدعي للتحقيق أكثر من مرة ووضع في مصحة عقلية مرتين. وفي سنة 1964 وجهت إليه تهمة التطفل بحجة أنه لا يعمل، وحُكم عليه بأقصى عقوبة، وهي العمل في منطقة نائية مدة خمس سنوات، فنفي إلى محافظة أرخانغيلسك. ذكر برودسكي لاحقًا في إحدى مقابلاته الصحفية أن تلك الفترة كانت أجمل فترات حياته، وخلالها كان يدرس الشعر الإنكليزي، بما في ذلك شعر ويستن أودن.

ثم اعتقل في 18 فبراير 1964 بتهمة أنه شاعر يكتب خارج الإطار المرسوم للأدب آنذاك. كان ممنوعا أن يغمس الشاعر قلمه بدمه لكتابة قصائده كما فعل الشاعر سير رغي ياسنين. وتهمة الشاعر... ذلك الخالق والمبدع لعالم مواز للعالم اليومي المبتذل ومفجر الطاقات الروحية كانت تعد تهمة خطيرة في نظر الأنظمة الشمولية.

حكم عليه بالسجن خمسة أعوام مع الأشغال الشاقة في عمر الرابعة والعشرين، وهذه الفترة التاريخية هي التي شكلت نواة هذا الكتاب. أطلق سراحه في عام 1966، وعاش في الولايات المتحدة منذ عام 1972، وفي خريف عام 1978 منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب.

جوزيف ألكسندروفيتش برودسكي

شاعر روسي

ولد عام 1940 في لينينغراد

توفي عام 1996 في نيويورك

حصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1987

تم تعيينه ملك شعراء الولايات المتحدة في سنة 1991.